الحرب القذرة – حبيب سويدية

“رأيت زملاء لي يحرقون طفلا في الخامسة عشرة من عمره حيا. رأيت عسكريين يذبحون مدنيين وينسبون هذه الجرائم إلى الإرهابيين. رأيت عقداء يقتلون أشخاصا بدم بارد، لمجرد الشبهة. رأيت ضباطا يعذبون إسلاميين حتى الموت. رأيت أشياء كثيرة جدا. لا أستطيع السكوت. وهذه أسباب كافية لتحطيم الصمت“.
يقدّم حبيب سويدية، الضابط السابق في القوات الخاصة المظليّة في الجيش الجزائري، في هذا الكتاب شهادته عن العشرية السوداء في الجزائر ما بين سني 1992-2002، وما شهده من فساد الجنرالات المسيطرة على الجيش والبلاد، بل التي تملكه على حدّ تعبيره، وما جرّوه على الجزائر من عقد مضطرب كلّه قتل وجريمة أودى بحياة أكثر من 150 ألف إنسان، غالبيتهم من المدنيين، في حربهم على “الإرهاب الإسلامي” والمعارضة الإسلامية في البلاد. قادت السياسات الفاشلة في الحكومات الجزائرية المتعاقبة بعد الاستقلال إلى بروز شخصيات إسلامية تدعو إلى حكم الشريعة وقيام نموذج إسلامي في البلاد وبلغت الأحداث أوجها بانتفاضة 5 أكتوبر سنة 1988، فلحقتها تعديلات دستورية نتج عنها تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ على يدي عباس مدني وعلي بن الحاج. اشتركت الجبهة الإسلامية في انتخابات 1991 وفازت فيها فوزا كاسحا مخلّفة قيادات الجيش وجنرالاته الحاكمة في مأزق كبير اضطرّهم بعد شهور في 1992 إلى إلغاء الانتخابات، وحلّ الجبهة الإسلامية، وإجبار الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية، على تقديم الاستقالة، وتأسيس المجلس الأعلى للدولة، وجيء بمحمد بوضياف، أحد قادة الثورة الجزائرية، من المنفى ليقود البلاد مؤقتا لكنه اغتيل بعد ذلك بقليل في عام 1992، وحلّ محلّه علي كافي حتى انتخب اليمين زروال بانتخابات مزوّرة رئيسا للبلاد في عام 1994 وبقي في منصبه حتى عام 1999 ليخلفه عبد العزيز بوتفليقة. في هذه السنوات المضطربة شهدت الجزائر مواجهات مستمرة بين الجيش الجزائري وقواه الأمنية من جهة والفصائل والمليشيات ذات الخلفية الإسلامية والجهادية من جهة أخرى، قُتل على إثرها الآلاف من الطرفين، لكن أكبر الضحايا والمجازر كان من نصيب المدنيين. وعملت جنرالات الحرب وفي مقدمتهم الجنرال محمد العماري على إطالة أمد الحرب والمواجهة، والاستمرار في الخوض في بحر الدم، ولصق التهمة بالإسلاميين فهدفهم كما يشير سويدية القضاء التام على الإسلاميين مسلحين ومدنيين.
يورد سويدية، الذي حكم عليه بالسجن أربع سنوات ما بين سني 1996-1999 بتهم ملفّقة لكونه أقل إطاعة لأوامر الضبّاط ذوي الرتب الكبيرة، فصولا من حياته وعمله في الجيش، وكيف استخدمتهم الجنرالات بيادق في القضاء على خصومهم من الإرهابيين الإسلاميين أو سواهم. قرر سويدية بعد إطلاق سراحه أن يفرّ من البلاد عام 2000 إلى فرنسا، ويروي ما جرى في هذه السنوات الدموية في الجزائر، وكيف قاد ضبّاط الجيش وجنرالاته البلاد إلى دوّامة غير منتهية من العنف والعنف المضاد. لم يكن سويدية بريئا كلَّ البراءة من الجرائم فهو أيضا يقرُّ باشتراكه في قتل الأبرياء و”الإرهابيين” سواء بطريقة مباشرة بالمواجهة أو غير مباشرة بتأمين الطرق سواء للقوات التي ارتكبت جرائم التصفية والمجازر أو بالذهاب معهم وتطويق المواقع المُهاجمة. ويبقى على طول الصفحات يكرر بعبارة أو بأخرى ندمه على ذلك، لكن هل ينفع الندم أو يعفي عن الجريمة. يقول مخاطبا الجنرالات “بفضل ضباطٍ شبّان مثلي، ما زلتم في السلطة، وما زلتم تذبحون شعبنا، هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنني أن أغفره لنفسي أبدا”. وللمفارقة فقد حُكم عليه بالإعدام غيابيا بعد نشره الكتاب، فهو في نظر طرفي الصراع مجرم يستحق الموت.
عندما قرأت كتاب حماة مأساة العصر قلت إن جرائم نظام حافظ هي هي جرائم الصهاينة في حرب تأسيس الكيان في فلسطين، وفي كتاب الحرب القذرة تبدو جرائم الجيش الجزائري هي هي جرائم الصهاينة. لذا فلا يسع المرء القول إلا إن العلة في غريزة الجريمة عند الإنسان، العسكري بالأخص حين يكون صاحب سلطة، وليس الأمر مقصورا على الصهاينة أو غيرهم.