رواياتكتب

القوقعة – مصطفى خليفة 

ما أكثر السجون في بلاد العرب وأكثر السجناء وما أقلَّ الكتب عنها. لعلّ السبب في ذلك أنّ قلة من السجناء القادرين على الكتابة يخرجون منها، ولعلّ من يخرج يكون عاجزا عن الكتابة لأسباب شتّى، ولعلّ ثمن الحرية مغموس بوحل الإسكات، ولعلَّ ما كان يفوق الكلام. غير أن بعض الناجين استطاعوا بعد جهد جهيد وشدٍ وجذبٍ أن يكتبوا ما وقع عليهم في تلك الزنازين من صنوف العذاب، ويجترّون بأسى ومرارة خالي أيام العذاب، فالخروج من سجون الظلمة والطواغيت أشبه بخروج من الجحيم، ومن يخرج من نار تلظّى لا ريب أن عنده ما يقوله ويُسمعه الآخرين، إن وسعه إلى ذلك سبيل. 

رواية القوقعة واحدة من الكتب القليلة التي قاسى أصحابها معاناة السجن، وليس أي سجن في أي بلد، بل سجن تدمر الصحراويّ في سوريا حافظ الأسد. كان صعود حافظ واستيلائه على الحكم في سبعينيات القرن الماضي بداية عهد من الظلام والظلم والدمار والدم في سوريا دام نصفَ قرنٍ، فبعد نفوقه قبيل مطلع الألفية الثالثة ورث ابنه بشار الحكم، وما استمر هذا خلا عقدٍ من الزمن حتى فتح صفحة هي أشنع صفحة في تاريخ سوريا الحديث بل تاريخ سوريا جمعاء. غير أن لكل بداية نهاية وبعد كلّ فجرٍ صبح، فقد زال حكم آل الأسد عن سوريا بعد طول دمار وخراب، وإلى غير رجعة إن شاء الله. في بقعة مظلمة من هذه الصفحة السوداء يبرز سجن تدمر علامةً على هذا الحكم الأسديّ، الذي ما كانت غايته حكم البلد بل وترسيخ الحكم، ولا يكون الترسيخ إلا بمسخ الإنسان، السوريّ السنيّ، في سوريا يحكمها العلويّون. وليس يُمسخ الإنسان إلا بتجريده من ذاته وكيانه وفكره وسحقه سحقا تاما وإنزاله مرتبةً دون مرتبة الحيوان. في بقعة منزوية في الصحراء شَخَصَ سجن تدمر، الذي شهد في صبيحة السابع والعشرين من حزيران/ يونيو سنة 1980 مجزرة قتلت فيها سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، أخي حافظ الأسد، بعد محاولة اغتيال فاشلة لأخيه، قتلت أكثر من ألف سجين متهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين. بقي سجن تدمر سيئ السمعة كابوسا يُطارد السوريين، فهو ليس سجنا بل وحشا ربّاه حافظ وعهد إلى زبانيته العلويّين تسمينه من لحوم السوريين السنة، غير أنه أطعمه أيضًا لحوم آخرين غير سنّة مثل المسيحيين والمنقوم عليهم من بقية الطوائف. ينتمي راوي القوقعة إلى جماعة المسيحيين الذين اعتقلهم نظام الأسد بتهمة الإخوان، وقذف به في غيابات تدمر نحو من ثلاث عشرة سنة، نزلت به وبرفاقه المساجين صنوف العذاب الشنيع، والتنكيل، والضرب والشتم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من عاش ينتظر موتا أو أملا بنجاة. 

إن الفلسفة الكامنة في سجن تدمر، ومن بعده سجون الأسد أشهرها صيدنايا، هي أنّ السجين مستباح في ماله وجسده وعرضه ودمه، هو ليس شيئا يُذكر، ولا قيمة له، ولا يستحق شيئا خلا العذاب والقتل. فليس السجين شيئا إلا إذا عُذّب وأُهين وسحقت كرامته الإنسانيّة، ولا يُنظر إليه إلا بتجريد مطلّق لكل ما يمتّ به بصلة إلى الإنسان والبشريّة، هل هو حيوان؟ لا بل مخلوق أدنى. هل له كرامة؟ نعم إذا كانت مقرونة بالعذاب، فالكرامة تعني أن يتقبّل حقيقة كونه نكرة لا تُتعرّف إلا بسحق كينونته. هل له حقوق؟ نعم إذا كان حقه في نيل قسطه اليومي من العذاب. هل لعذابه انتهاء؟ نعم بالموت. وإن خرج من السجن فليس رحمة به بل ليشيع بين الناس عذاباته ويزيد من مخاوفهم فيذلّون لسلطة دموية لا تراهم إلا حيوانات، وكما يقول بشار يجب أن يُحكموا والحذاء على رؤوسهم. علّمت ثنائية السجن والتعذيب، والإذلال والقتل، وإطلاق السراح وإشاعة الخوف، صورة حكمِ الأسد، فالسجن مرادف للتعذيب، بكل صنوفه التي يتخيّلها الإنسان وما لا يتخيّلها، والإذلال نمط حياة الفرد فهو مهان حقير إنْ رفع رأسه قُتل ولا دية له أو قَوَد، وإن أطلق سراح السجين فهو يخرج لينقل للبقية ما قاساه من أهوال وعذابات، فينقر الخبر في النفوس خوفا ويستحثّ الرهبة فيها ويؤكد خضوعها وطاعتها لنظام معدوم الرحمة والرأفة بل إن القتل عنده أول سلّمة في سلالم الحكم والسلطة. غير أن هذا السجن بحاجة إلى من يسوسه ويتولّى أمره، أي أن يُنكّل بالنزلاء فيه، وليس لآل الأسد إلا زبانية من العلويّين والمنتفعين من حكمه من البعثيّة. حضّت فكرة الأقلية ووهم اضطهاد العلويين، فضلا عن التضليل الأسدي في ربط وجود العلوية بحكمه، في تحويل كثير من العلوية إلى زبانيته الشديدة وحرّاس الجحيم وفواعله. وبمرور الأيام وترسيخ الحكم والحصول على امتيازات دون سائر الشعب، تحوّل العلويّة إلى وحوش كاسرة تتغذّى على الأساطير الدينية وتعيش في رهاب الاضطهاد والرغبة المحمومة في الانتقام الذي لا يعرف نهاية ولا ارتواء. كان زبانية الأسد في سجن تدمر مخلوقات بشرية مثل غيرهم لكنهم وحوش من الداخل، مسوخ، بلا خلق أو دين أو ضمير، كائنات مجرّدة من كلّ ما يميّز الكائن البشري، بل لعلّهم يتجاوزن ماهيّة المخلوق بغض النظر عن جنسه حيوانا أو آدميّا أو سوى ذلك من مخلوقات الحكايات الخرافية. ليس عند الكائن الأسديّ ضوابط أو حدود تمنعه من فعل أي شيء في السجين، وأي شيء تعني كل أنواع الانتهاك الجسدي والنفسي، من الاغتصاب الجسدي إلى إرغام السجين على اغتصاب الآخر، والتعذيب الجسدي من اقتلاع الأعين والألسن والخصى إلى جبّ الذكور، وشرب المياه الآسنة وأكل الحيوانات الميتة، ويكفي التلميح إلى أعشار من الصورة حتى يكملها القارئ بأسوأ خيالاته وأكثرها شناعة. وفي حالك الظلمة يبزغ سؤال عن السبب الذي يجعل السجّان يمارس كلّ هذا الشيطانيّة الإجراميّة والوحشيّة البهيميّة على الآخر، بريئا -في الغالب- أو مذنبا؟ قد تكون النوازع النفسية المنحرفة والدوافع الشخصية والأوهام الدينيّة والعُقَد الطائفيّة والرغبات التطلّعيّة، بعضها أو جميعها أو خليطا من كلّ ذلك، سببًا في أن ينمسخ الإنسان إلى كائن أسديّ لكن يبقى الجواب مبهما مهما تعمّقنا فيه بحثا عن جواب. 

قرأت القوقعة على أنها يوميات حقيقية لمصطفى خليفة في سجن تدمر الصحراوي، وكان الراوي في الكتاب مسيحيا، لكن بعد مشاهدة لقاء مع مصطفى خليفة على قناة العربية ‏تبيّن أن الكتاب يُصنّف رواية، سيرة ذاتية روائية، وهو مزيج بين حياة مصطفى خليفة المسلم، وحياة سجين مسيحي اعتقل بتهمة الإخوان المسلمين. ويقر خليفة أن كل ما جاء في الكاتب حقيقي وأقل من الحقيقة وما فعله هو أن جعل حياتين في حياة شخصية واحدة، وقد طلب منه المسيحي ألا يذكر اسمه أو يُشير إليه لأنه كان يعيش في سوريا عند نشر الكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى