كتب شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، في هذه الثلاثية عن إسرائيل والشعب اليهودي وأرض الميعاد (فلسطين) في الأساطير اليهودية. جاء الجزء الأول بعنوان “اختراع شعب اليهودي”، ويناقش فيه شلومو ويحلل كيفية نشوء الشعب الإسرائيلي، ثم اختراعه بالمفهوم المعاصر لكلمة شعب. بادئ ذي بدءٍ، يشرح مفهوم الشعب والإثنية “العرق” والمفهوم الاجتماعي والتاريخي على مر العصور وعند علماء السوسيولوجيا، ومفهوم الدولة والأمة، وكيف كانت لليهودية إثنيةً قبل الدين الدور المؤثر والمحفّز ليهود العالم، وجذبهم لأجل الهجرة إلى الأرض الموعودة، التي هي حقٌ لهم كما يروج له الأساطير والتاريخ الأسطوري عند اليهود. من أبرز المواضيع في هذا الكتاب، يعد دراسة واسعة وكبيرة في هذا النطاق الخاص بتكوين الشعب اليهودي في أرض مغتصبة، هي خرافة النفي من أرض إسرائيل بعد دمار الهيكل الثاني في مملكة يهودا، فكما يقول شلومو “فاليهود لم يتعرضوا لإجلاء (بالقوة) من (وطنهم) ولم يعودوا إليه بإرادتهم الحرة. وإن حدوث الهجرة كانت طوعية بعد خراب مملكة يهودا مع بقاء بعض الناس فيها ولم يغادروها. والقضية الثانية التي تلت الخرافة هي تعبئة الذاكرة حول هذه الإدعاءات، بل والعمل على جعلها مُسلّمةً حقيقية لا يمكن النقاش فيها. تدور أبحاثه كذلك في انتشار الديانة اليهودية في الأمم التي استوطنها اليهود بعد النفي المزعوم، فمن القضايا التي يطرحها في هذا الكتاب: مسألة التهويد وهل يعد كل من يدين اليهودية يهودي عرقيّا، وما تثيره هذه المسألة من جدال طويل عند اليهود، لا سيما في لملمة الشعب التائه في ربوع الأوطان.
ومن الفصول المهمة في كتابه هو “الأقاليم الصامتة” وانتشار اليهودية في بلاد اليمن عند حمير والمغرب العربي عند الأمازيغ، وبلاد الخزر التي تشير بعض الآثار المكتشفة على يهودية عدد كبير من السكان فيها، والذين يعدون الأصل ليهود شرق أوروبا كما تُرجّح أكثر الاكتشافات التاريخية. ينتهي هذا الكتاب بفصل التفخيم والإقصاء وسياسة الهوية في أرض إسرائيل الجديدة، وديمقراطية إسرائيل والنزاع بين سياسة دولة إسرائيل في معاملتها للمواطن اليهودي- إسرائيلي والفلسطيني- الإسرائيلي، وهل بالإمكان احتواء نزاع الهوية في أرض إسرائيل الجديدة؟ وما السبل المناسبة في جعل إسرائيل ليبرالية تحفظ حقوق جميع المواطنين دون تفرقة ولا أن تكون تفرقة وميل إثني لليهود. فكما يقول شلومو ساند “فإنه ما زال من الملائم وصف إسرائيل إثنوقراطيا، وإذا شئنا التدقيق سيكون تعريفها (إثنوقراطيا يهودية) ذات ملامح ليبرالية، بمعنى دولة ليست مهمتها الرئيسة خدمة شعب مدني متساو، وإنما خدمة (شعب عرقي) إثنوس بيولوجي ديني وهمي تماما من ناحية الحقيقة التاريخية.
الجزء الثاني من الثلاثية هو “اختراع أرض إسرائيل” أثار كتابه الأول الكثير من النقد والجدل وسوء الفهم والخلط لدى الباحثين ما بين مفهومية الأرض الموعودة والشعب المختار والأحقية التاريخية لهذين العنصرين في معتقد اليهود في دولة إسرائيل الحديثة، فكتب هذا الكتاب الذي لا يقل أهمية عن سابقه في البحث والدراسة وطرح جميع المخاضات التي مرّت بها الأرض الموعودة أرض إسرائيل من ناحية الدينية والتاريخية، فلم يعط مؤلفو كتب التناخ لقب الجيو- سياسي الذي تجذر بعد إقامة سلالة داود الصغرى للإقليم حول أرض إسرائيل (القدس)، ولذلك لم يظهر أي نص أو آثر يكشف لقب أرض إسرائيل حيزا جغرافيا ومعروفا، وبهذا ينسف الحجة الدينية حول الأحقية التي ليس لها أي دليل. وكما يقول “وهذا الاستخدام الواحد والوحيد والذي يعرف المنطقة التي حول القدس كـ أرض إسرائيل هو شاذ لأن معظم أسفار العهد الجديد يفضل استخدام (أرض يهودا)”. وكون هذه الأرض غير ثابتة الحدود ستكون خطرًا على سكانها وجيرانها قاصدًا الدولة الإسرائيلية الجديدة.
ومن المواضيع التي يناقشها الكتاب مفهوم الوطن؟ وكيف تطور مفهومه في دول العالم المختلفة وكيف قامت الثورات من أجل الوطن بل وأصبحت أناشيد الثورات جزءًا من النشيد الوطني كما في النشيد الوطني الفرنسي. ومما يثيره شلومو هل الوطن هو الذي ولدت فيه أو ذاك الذي زرعته وعملت فيه، فكما كان يدعي الكثير من اليهود أن بابل هي وطنهم الثاني، بل ورفض الكثير مغادرتها والعودة إلى الوطن الأم، وهل يعطيك أن تكون مسيطرًا وساكنًا على أرض يوما ما الحقَ بسلبها بعد مئات السنين، هل يحق للعرب اليوم المطالبة بأرض الأندلس؟ فإن تطبيق المنطق اليهود في سلب الأرض سيجلب الخراب على هذا العالم كما يبين شلومو. أرض كنعان هي الأرض التي ذكرت في الكثير من الآيات في الأسفار، ونفى الطابع التاريخي والديني كون هذه الأرض هي أرض إسرائيل. وبحدودها غير الثابتة التي يدّعي اليهود أن الله وعدهم بها، وتعاقبت عليها الاحتلالات والسيطرة المختلفة من قبل الفرس والفراعنة والروم، يقول شلومو ساند في حج المسيحين واليهود إلى الأرض المقدسة خلال 1700 سنة، ووجد ثلاثون تقريرًا كتبه حجيج يهود، في حين ما بين 333-1878 وُجد ما يقارب 1500 تقرير كتبه حجيج مسيح يوضحون ويشرحون فيه رحلة حجهم، وما رأوه من في هذا الطريق، واصفين العادات وذاكرين أسماء المدن وطرق عيش السكان على طول طريق هذا الحج. إن هذه الإحصائية تُثبت ضعف تمسك اليهود في الحج إلى هذه الأرض على النقيض من المسيحيين، ليكون هذا الشريط التاريخي والديني الطويل وعلى مدى 1700 سنة مملوء بالتناقضات وضعف صلة ما بين الشعب المزعوم والأرض الموعودة.
حين ضاق الغرب باليهود ذرعا، وأغلقت أمريكا الباب أمام المهاجرين اليهود إلى أرضها، كان لا بدّ من أرضٍ يهاجرون إليها، فاقترح في أول الأمر مستعمرة لليهود في أوغندا. وادعى اللورد بلفور في أثناء نقاش برلماني سنة 1905 أن المهاجرين اليهود يتزوجون فيما بينهم فقط، وما من احتمال أو أمل باندماجهم في الأمة البريطانية. وبتطور الأحداث في الشرق الأوسط وقيام الحروب العالمية وضعف السلطة العثمانية وانهيارها، جعلت كل هذه العوامل بريطانيا تتكفل بتأسيس وطن قومي لليهود في أرض فلسطين بوعد بلفور سنة 1917 إلى اللورد رودتشيلد في رسالة تضمّن تبليغًا نيابة عن حكومة بريطانيا بهذا الوطن الجديد داخل الأرض الموعودة. ويتضح بين طيات الصفحات رغبة الغرب في التخلص من اليهود، ولم تكن أرضًا كفلسطين أكثر مناسبة من غيرها، لما لها من تاريخ مرتبط بالإثنية والديانة اليهودية. فيقول شلومو “لقد كانت المآسي القاسية التي حلت باليهود، وإغلاق العالم المتنور حدوده في وجه اليهود، هما اللذين أديا في نهاية المطاف إقامة دولة إسرائيل”. ويناقش الكتاب دور الصهيونية في إنشاء هذه الدولة، والتصادم الذي حدث ما بين الصهيونية واليهودية، وعن دور هرتسل في إقامة الدولة، والسعي لتوحيد الرأي اليهودي لدعم إنشاء دولة فوق أرض إسرائيل. ومن بين الصهيونيين الذين نطقوا بالحق (أحاد هعام) فيقول وهو يشبّه الصهاينة ب(العبد إذا ملك) “فهم يتعاملون مع العرب بكراهية وقسوة ويتجاوزون حدود الحق”. ويستمر الكاتب في النقد والتحليل والشرح لما بعد إقامة دولة إسرائيل والاستيطان والحروب التي خاضها الصهاينة من أجل دولتهم المزعومة.
الجزء الأخير من الثلاثية هو كتاب “كيف لم أعد يهوديًا” فبعد أن فكك الأصنام الدينية والتاريخية في احتلال أرض فلسطين، والتي أصبحت مسلّمات، يطرح شلومو في هذا الكتاب آراءه، ويشرح أفكاره عن اليهود في داخل إسرائيل وخارجها والثقافة اليهودية واليهودية العلمانية، واليهودية عرقًا، وكيف تعامل العالم مع القضية اليهودية. يبدأ كتابه بفصل حول مسألة الهوية اليهودية والجدل فيمن يحمل هذه الهوية، وكيف يعد اليهودي مواطنا إسرائيليًا حتى إن لم يسكن في إسرائيل ولم يكن يؤمن باليهودية- لكونه من العرق اليهودي وأمه يهودية فقط. في حين يعاني الفلسطيني-الإسرائيلي الكثير من الصعوبات- لكونه عربي محروم من الكثير من حقوقه داخل إسرائيل، على الرغم من ولادته في إسرائيل وأحقيته بكامل الحريات عكس أولئك الذين لم يزوروا إسرائيل ورفضوا ترك بلدانهم التي نشأوا فيها وعاشوا. وكيف نشأ رهاب اليهودي على امتداد قرن من الزمان وأصبح اليهودي وقتئذ مصدرًا للمشاكل ومعرضًا للخطر. وفي ذات السياق يذكر شلومو أن رهاب اليهود الذي تعرضوا له ما بين 1850-1950، قد بدأ يتحول أو تحول بالفعل تجاه المسلمين في هذا العالم. إن الصراع ما بين عربة الدين اليهودية الممتلئة والتي تتزعمها الصهيونية وعربة العلمانية اليهودية على أشده، لاختلاف الرؤى ما بين الاثنين مولدًا فرقًا بين تطلّعات العربتين وكون السلطة بيد الصهيونية كانت العربة العلمانية مضطرة لإفساح الطريق لعربة الصهيونية المسرعة. وفي تفسيره كيف أنه لم يعد يُمكن أن يسمي نفسه يهوديًا، مستنكرًا ما تقوم به دولة إسرائيل من سياسات قمعية يقول “كيف يستطيع شخص ليس مؤمنا متدينًا، بل إنسانوي ديمقراطي أو ليبرالي يتمتع بحد أدنى من النزاهة، أن يستمر بتعريف عن نفسه أنه يهودي!”.
يختتم شلومو ساند كتابه بهذه المقولة عن دولة إسرائيل الجديدة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار والتبصّر “إنّ مستقبل هذه (المملكة الصليبية) الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك”.