التصوير الفني في القرآن الكريم – سيد قطب
رحم الله سيد قطب على ما خطته أنامه في هذا البحث الشائق الماتع، الذي يُبين فيه رجاحة الفكر وسلامة العقل وجمال الخيال الإنساني حين يستخدمه الإنسان المسلم في استعراض عظمة الله في كتابه الكريم وآيات الذكر الحكيم. ما قام به سيد قطب في بحثه هو إعادة لقراءة الآي الكريم بعيني الأديب اللبيب والمفكّر الحاذق الذي لم يقف على ما وصل إليه السابقون من تفسير القرآن وذكر البلاغة اللغوية والبراعة الإلهية في تبيان عظمة القرآن اللغوية التي تمحورت في الدعوة إلى الله ونبذ الشرك لتشد أزر النبي (صلى الله عليه وسلم) في دعوته قومه إلى عبادة الله عز وجل، فما كان من الرجل إلا أن أعاد قراءة هذه الآيات مجردًا إياها من أي تفسير أو معانٍ سابقة وغائصا في البحث فيها وفي ألفاظها ومعانيها، منطلقا بتسائله وتعجبه من قول الوليد بن المغيرة عن القرآن: والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما دونه ويعلو ولا يعلى. ونحن نعلم أن أهل مكة وقتها كانوا ذوي فصاحة وبيان وبلاغة ومن حكم موقعهم فقد التقوا بالحجيج القادمين من كل مكان فزادت لغتهم ثراءً عبر ما تخيّروه من ألفاظ وتقعروا في اللغة حتى لم يُشقْ لهم غبار في السبق بمعرفة البليغ والفصيح والمُعجِز. فأنى للوليد أن يعجب بالقرآن رغم كفره وشركه وماذا وجد فيه وكيف لامس آي الذكر الحكيم سيما وأن القرآن في سوره المكية أول الدعوة كانت تخاطب الذهن والآي مصاغة بصورة مركزة على اللغة والبيان والإبداع اللغوي العجيب فكانت كثير السور المكية في الحقبة الأولى قصيرة غايتها بعد الدعوة إلى الله الإفحام وتحدي لقوم عركوا اللغة وروضوها وبلغوا فيها ما لم يبلغه سواهم فجاءهم القرآن متحديا إياهم ورافعا سقف التحدي فيما يجيدونه فأبهتهم وأخرسهم بل تحداهم أن يأتوا بعشر سور ثم سهّل لهم التحدي أن يأتوا بسورة واحدة مثله وهم أهل لغة وفصاحة لكن هيهات هيهات. إذن من هنا ينطلق سيد قطب في بحث الشائق هذا عبر التصوير الفني في القرآن، إذ كثير الآيات تعتمد على التصوير وإثارة الخيال والحس فيجسّد لهم الأمثلة المطروحة عبر صور يلمسونها في الكلمات ويستشعرونها في الآيات، فتأتي الآية معجزة لغويا عبر اختيار الكلمات المناسبة ومعانيها التي تؤدي الغرض أفضل تأدية، إضافة لما تثيره موسيقاها من جو عام رهيب يجذب العقل ويسحره فيذهله، وتامة تصويريا بما فيها من تناسق وانسجام وتناغم ما بين الصورة والألفاظ المعبرة عنها والإطار والثيمة المطروحة داخلها وفيها، فتبلغ من الإبداع منتهاه والبلاغة إعجازها ومن رائع البيان عظيمه. ويمكن أن أوجز أهم ما تناوله فصل التصوير الفني (اللغوي والتصوير (الرسم) والموسيقي) بنقاط لا تغني عن قراءة البحث مفصلا:
١- تناسق الألفاظ لتعطي الكلمة وجرسها سمات الجو العام الذي تتحدث عنه وإيقاعه.
٢- تُعطي الصور المعروضة تجسيدا وتشخصيا وتخييلا للأمثلة المطروحة.
٣- تناسق الموسيقى والإيقاع الصوتي للكلمات مع الموضوع إذا كان إخبارا أو قصا أو عرضا.
٤- توازن واتساق الفواصل، وتوافق طول الجمل وقصرها مع الموضوع.
٥- التناسق الفني للكلمات وهي تعطي صورة ذات وحدة موضوع واتساق، إذ تنسجم في هرمونية واحدة لا يخرج عنها يُخلُّ بإبداعها الفني والتصويري. مثال:
“قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسقٍ إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد”.
الفلق: الفجر
الغاسق: الليل.
النفاثات: الساحرات
الحاسد: صاحب حسد وضغينة في نفسه.
التوازن الفني في الصورة: فجر وليل وساحرة وحاسد، الظلمة كلها في هذه الآيات، حيث تنشر الجمل الظلام وتؤدي الكلمات ومعانها هذا الغرض بإبداع رباني عجيب، يعجز عنه أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء. وهناك سور أخرى تلتزم بذات الأسلوب ولها ذات السمات.
٦- التقابل في الصور، فلا اختلالات ولا تشويهات ولا تناقضات. والمقابلة ما بين حال وحال، مع استخدام كلمات واصفة لكل منهما، مما يعطي الصورة المتخييلة أو المثال المطروح-الذي يُمنّى به المخاطب أو يحذّر- ما تحتاج إليه من دقة الوصف وانطباقها التام والمنسجم مع الموضوع المتحدث عنه. مثل آيات الإنفاق في سورة البقرة (آية الصفوان والربوة).
٧- تناسق الإطار والثيمة مع الصور المطروحة والموسيقى التي تولدها الكلمات، كما في سورة العاديات حيث جو الفرقعة والصخب الذي تثيره الخيول أثناء عدوها، وسورة الضحى وجو الرحمة والرأفة الذي تفيض به الكلمات الرقيقة وموسيقاها الشفيقةً. وفي سورة الليل حيث ثيمة الموضوع صُبغت بلونين هما الأسود والأبيض، حيث الخياران هما اللذان يقسّمان العالم الذي تطرحه الآية وأمثالها المضروبة وصورها المعروضة.
يتناول الفصل الثاني من الكتاب القصة في القرآن، وهو بحث في منطلق بحث كبير يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتفصيل والتحليل إلا أن ما طرحه سيد قطب في الكتاب من أمثلة قصصية والغرض الديني للقصة في القرآن إضافة إلى بناء الشخصيات وتحليلها في بعض قصصه، كان طرحا يسيرا سهلا وفي بعض المواضع طرحا سطحيا أكثر مما هو أدبي فني تحمل في آي القرآن كل العناصر المطلوبة في كتابة دراسة أهم وأعمق، وهو ما كان يخطط له سيد قطب ولا أعتقد أن الفرصة أُتيحت له بعدها ليكمل مشروعه الذي يبدو عليه الإغراء والدعوة في دراسة القصة في القرآن أو بنائها وتطور شخصياتها، وما لاحظته أنا في بعض السور من أسلوب سرد وسمات سردية تستحق الدراسة عسى أن يسهل لنا هذا في المستقبل. وبالعودة للكتاب فإن القصة في القرآن قد أدت غرضا دينيا في الدعوة النبوية إلا أنها لم تستغنِ عن العناصر الفنية للقصة من ناحية العرض والفواصل والانتقالات والاستباقية الفلاش فورورد والاسترجاعية الفلاش باك، إضافة إلى عرض مختصر للقصة (برومو) قبل الدخول إلى تفاصيلها، وكذلك ما نالت به القصص من بناء كرونولوجي تتابعي (من الولادة إلى الوصول إلى النهاية مثل قصة موسى [عليه السلام]) في حين أخريات ابتدأت من الحدث المهم، إضافة إلى اختيار النهاية المناسبة، كل هذا نجده في قصص القرآن وأكثر. ويستعرض الكتاب في فصل القصة بعض الشخصيات التي تناولها القرآن وليحللها مثل شخصية موسى وإبراهيم ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن المواضيع التي يتناول الكتاب عرضا مبسطا وسريعا هو النماذج الإنسانية بجانبيها الكافر والمؤمن وما كل جانب من سمات وأشكال وأنواع مختلفة في كل حال ومكان وزمان.
ينتهي الكتاب بالحديث عن طريقة القرآن في المخاطبة والمجادلة وهو حديث يجمل ما تم تناوله في مواضيع هذا الكتاب، الطريقة القرآن التي تمثلت في الطرح الذهني عبر التصوير الفني ومخاطبة الحس والخيال والذهن في الجدل لا عبر الكلام المجرد فقط. وأجمل ما تم الإشارة إليه وينسب سيد سابق هذه الإشارة اللطيفة إلى العقاد ذكره وجود الوسط الحي أو الوسيط الحي الذي تعرض فيه أهوال يوم القيامة عبر المرضعات والسكارى في سورة الحج وشيب الولدان في سورة المزمل وفرار المرء من أقرب الناس إليه أبويه وأبنائه وزوجه في سورة عبس، إضافة إلى ما يشير إليه سيد سابق وما سماه الريشة الإلهية التي تجعل الجمادات أحياء ويكسيها ثوب الحركة مثل تنفس الصبح وحركة الليل وكلام الأرض والسماء وصفات ظل من يحموم إذ هو لا بارد ولا كريم. وجدير بالذكر أن بحث التصوير الفني، هو جزء من بحث أكبر لم يتسنَّ للكاتب أن يكمله على حسب ظني، إذ كان يطمح أن يتوسع فيه ويخطط أن يكتب فيه أكثر كما يوضح في ثنايا كتاب ويتعمق أكثر في التصوير الفني والقصة والخطاب الوجداني في القرآن وطريقة القرآن في الخطاب.
اشادة