تقديم وترجمة: مؤمن الوزان
كتبت شارلوت برونتي هذه المقدمة لروايتي أختيها وذرينغ هايتس لإميلي وأغنيس غري لآن بعد وفاتهما في طبعة خاصة صدرت في عام 1850 من ناشر رواياتها جورج سميث بعد أن أقنعته بإصدارهما. كان لهذه المقدمة التعريفية بالكاتبتين اللتين صدرت أعمالهما باسمي مستعارين هما إيليس بيل (إميلي) وأكتون بيل (آن) لأسبابٍ كثيرة منها: أنها أرادت التعريف بأختيها بمعلوماتٍ صحيحة وكشف هُويتهما الحقيقية، ولإزالة اللبس حول الأقوال المتضاربة عن كون الإخوة بيل كاتبًا واحدًا، وأرادت وهو الأهم الدفاع عن أختيها مما تعرضَّتا له في مراجعاتِ رواياتهما فقد اتُّهمت رواية إميلي بالكفر والفسوق والتجديف، ورواية آن برونتي الثانية (نزيلة قصر ويلدفيل) بأنها غير محافظة وخارجة على أعراف المجتمع الفيكتوريّ بموضوعها الذي عرَّى المجتمع والزيجات التي لا انفصام لها وما يرافق بعضها من سوء معاملة الزوج لزوجته واضطرارها لتحمُّله والعنف الزوجي والتهتُّك والخيانة الزوجية والزنا، بيد أن دفاعها عن أختيها كما سنقرأ لم يكن بالدفاع الحقيقيّ بعرضها إميلي وآن على أنهما فتاتين قرويتين لم يحظيا بقدرٍ كافٍ من التعليم وأنهما عاشتا حياتهما وكتبتا رواياتهما بدافعٍ بديهة ومخزون مشاهدات. أيّ أنهما لم تكونا بالواعيتين لما كتبتا الوعي التام، وجانبت الصواب شارلوت في هذا ولم يكن لبيانها التعريفي هذا أثره الذي رغبت به ولم يُغيِّر النظرة العامة تجاه الروايتين التي استمرَّت مدة ليست بالقصيرة.
كشفتْ شارلوت في هذا البيان السيريّ عن هوية أختيها لكنها لم تكشف عن هويتها وذيَّلت البيان باسم كورير (اسم قلمها المستعار)، كما أشارت إلى نفسها بضمائر المذكَّر وكان لهذه الاستخدام لضمائر المذكَّر تأثيره في النص المُترجم، وهو من حسن حظ النص بمغازيه عند كتابة شارلوت له، إذ الغلبة للمذكر في الكلام إذا اجتمع التذكير والتأنيث في جملة واحدة، ففي قولها مثلا “طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين” فالترجمة لكلمة Authors ستكون لو كشفت شارلوت عن هويتها الحقيقة “مؤلفات” وهي بكل الأحوال لم تستخدم Authoresses في هذا السطر. لكن سيلمس القارئ اضطرابا في إبعاد الهُوية الأنثوية عن “كورير” في ذات المقطع حين تكتب “ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية” فجمعت الكتَّاب المجهولي النوع الثلاث في هوياتنا النسائية to declare ourselves women، وفي هذا تأكيد عن كونهن نساءً لا رجالٍ، ويؤكد هذا أيضا جملة “انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات we had a vague impression that authoresses”.
لم ترفع شارلوت برونتي الحجاب عن هويتها الحقيقة حتى وفاتها ونشرت آخر رواياتها فيليت باسمها المستعار “كورير بيل”.
*
جرى اعتقاد على أن الأعمال المنشورة تحت أسماء كورير، وإيليس، وأكتون بيل، في الحقيقة لكاتبٍ واحد. الخطأ الذي سعيتُ إلى تداركه بكلماتٍ نافية قليلة في مقدمة الطبعة الثالثة من رواية “جين إير”. ويبدو أن هذه المحاولة أيضًا باءت بفشل نيل تصديقٍ عامٍ، والآن، في مناسبة إعادة طباعة “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري” نُصحتُ لأبيِّن بوضوح كيف انبثقت هذه القضية برمتها في الواقع. أشعرُ في قرارة نفسي بأنَّ الوقت أزف لتبديد هالة الغموض التي لفَّت هذين الاسمين -إيليس وأكتون-. فقدَ اللغز الصغير، الذي تركَ في السابق بعضَ المتعة البريئة، أهميتَه، وتغيَّرت الظروف الخاصة به. وأصبحَ من واجبي أن أوضِّح بإيجاز أصل وملكية تأليف الروايات المكتوبة من كورير وإيليس وأكتون بيل.
قبل نحو خمس سنوات، التمَّ شملي بأختيَّ بعد مدة انفصال طويلة، واجتمعنا مجددًا في المنزل، الذي كان في ضاحية نائية، حيث لم يُحرزِ التعليمُ تقدُّما يُذكر، ونتيجة لذلك لم يكن أيَّ محفِّز للبحث عن اتصالات مجتمعية خارج دائرتنا المنزلية، واعتمدنا بالكامل على أنفسنا وعلى بعضنا، وعلى الكتب والدراسة من أجل الاستمتاع بالحياة وشغل فراغها. وكمُنَ أسمى واعزٍ، بالإضافة إلى أكثر المُتع حيويةً التي عرفناها منذ طفولتها فصاعدًا، في محاولات تأليف أدبية؛ اعتدنا في السابق على إطلاع بعضنا على ما خطَّته أناملنا، لكن شهدت السنوات اللاحقة انقطاعَ عادة التواصل والمشاورة، وترتَّب على إثر هذا، غفلتنا عن التقدُّم الذي كان يُحرزه كلُّ منا تواليًا. في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نظم الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة- إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقا جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة. لم تكن أختي إميلي امرأة مُجاهرةً في سماتها، ولا تكشف خبايا عقلها وخفايا قلبها حتى لأعز وأقرب الناس إليها، مُحصِّنةً إياها، وغير مرخِّص التطفل عليها؛ استغرق استرضاؤها مني ساعاتٍ بشأن عثوري على أشعارها، وقضيتُ أياما في إقناعها بأنَّ قصائدها تستحق النشر. علمتُ، على أي حال، أن من يملك مثل عقلها لن يكون بلا شرارة باطنية من طموح استحقاق التشريف، ورفضتْ أن تكون متثبّطة أمام محاولات نفخي على تلك الشرارة لتلتهب. في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة في ثناياه.
طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين، ولم يتلاشَ هذا الحلم قط حتى حين باعدت بيننا المسافات وانشغلنا بالمهامٍ المُستغرِقةِ لأوقاتنا، بيد أننا امتلكنا الآن وعلى حين غرَّة القوة والانسجام: وشرعنا في الخطو في الاتجاه الصحيح. اتفقنا على ترتيب ديوان قصائد صغير، وطبعه إذا أمكن ذلك. ولنفورنا من إطلاع العامة على هُوياتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات “نسائية”- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فلاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة. ما أصعبَ ما كان عليه إصدار كتابنا المشترك الصغير. وكما كان متوقعًا فلم نحظَ نحنُ ولا قصائدنا بالانتباه الذي رغبنا به لكننا كنا على أهبة الاستعداد لهذه الانطلاقة. ومع أننا بلا خبرة شخصيّة فقد قرأنا تجارب الآخرين. كَمُنت المعضلة الكبرى في صعوبة نيل أجوبة من أي نوعٍ من الناشرين الذين ناشدناهم. ولشدَّة تضايقي من هذا العائق فقد أقدمتُ على خطوة جريئة بسؤال الناشر تشامبرز وناشر أدنبره، طالبًا النصحَ ولربما قد نسيا تلك الأحداث بيد أنني لم أنسَها فقد استلمت منهما رسالة ذات طابعٍ تجاريّ لكنها بردٍّ مُهذَّب ورقيق اتَّبعنا ما جاء فيها، وفي آخر المطاف شققنا طريقنا.
طُبعَ الكتاب لكنه بالكاد عُرِفَ، وما نالتْ قصائده استحقاق أن تشتهر خلا قصائد إيليس بيل. خامرني اقتناع حازم بأني لا بد أن أحافظ على أملي بصرف النظر عن أن مجموعة كبيرة من هذه القصائد لم تنل في الواقع مقبولية الكثير من المراجعات النقدية المُبشرة بالنجاح. فشلت البداية البائسة في تحطيمنا، ومنحَتْنا محاولةُ النجاح المحضة حيويّةً رائعة للعيش وهذا ما يجب أن نسعى وراءه. بدأ كل منا بكتابة حكاية نثرية؛ ألَّفت إيليس بيل “وذرينغ هايتس” وأكتون بيل “أغنيس غري” وكتبَ كورير بيل أيضًا رواية من مجلد واحد1. عُرضت هذه الحكايات بمثابرةٍ على ناشرين مختلفين في نحو سنة ونصف؛ عادة ما كانت النتيجة رفضًا مخزيًا وقاطعًا. قُبلتْ في آخر المطاف “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري” بشروطٍ مُفقِرةً المؤلفتين بنحوٍ ما؛ لم يجد كتاب كورير بيل المقبولية في أي مكان ولا أي اعتراف باستحقاقه النشر، وبدأ يغزو قلبه شيء مثل ارتجافة يأس. وبأملٍ لا طائل منها، حاولَ مرة أخرى مع الناشر Smith, Elder and Co ومضى وقت طويل، أقصر بكثير من المدة التي تعلَّم أن يحسبها في تجاربه السابقة، قبل وصول رسالة فتحها، بتوقُّعٍ مريع بوجودٍ سطرين قاسيين مُقنطين، لامحًا بأن السيدين سميث وإيلدر “لم يستبعدا نشر الحكاية” وأخرجَ من الظرف رسالةً من صفحتين. قرأها بارتعاشٍ. رفضت الرسالة في الحقيقة نشرَ الحكاية لأسباب تجارية، لكنها ناقشتْ جدارة نشرها ولا جدارتها بكياسة كبيرة، وباعتبارٍ محض، وبروحٍ عقلانيةٍ جدًا، وبحصافةٍ متنوِّرة جدًا، أبهجَ هذا الرفضُ اللطيف الكاتبَ أكثر مما قد يفعله قبولٌ ذو تعبيرٍ دارجٍ. أضافت الرسالة بأنَّ عملًا من ثلاثة مجلدات سيحظى باهتمامٍ لافت. بدأت وقتها فحسب إكمالَ “جين إير” التي عملتُ عليها حين كانت الرواية ذات المجلد الواحد تكدحُ في جولتها الشاقة في لندن: أرسلتها في غضون ثلاثة أسابيع؛ تولَّت ذلك يدٌ ودودة وماهرة. كان هذا في مستهل أيلول 1847، ونُشرت الرواية قبل نهاية تشرين الأول التالي، في حين لا تزال روايتا أختيّ “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري”، اللتان أرسلتا سلفا إلى المطبعة قبل أشهر، تنتظران بذرائع إدارية مختلفة. ثم ظهرتا في الأخير. فشل النقَّاد في التعامل معهما بعدلٍ. أبانت “وذرينغ هايتس” عن قوى غضَّة بيد أنها حقيقيّة جدًا بالكاد مُيَّزت، وأُسيئ فهمُ فحواها وطبيعتها، وأُخطئ شرحُ هُوية مؤلفتها؛ قيل إنها محاولة أوليّة وفظَّة لذات القلم الذي أنتج “جين إير”. خطأ مُجحف ومُحزن! ضحكنا عليه في أول الأمر، بيد أني أنحبُ عليه من صميم قلبي الآن. أخشى من الآن فصاعدًا أن أستثيرَ التحيَّزَ ضدَّ الكتاب. والكاتب الذي بمقدوره أن يحاول التخلص من إنتاجٍ وضيع وغير ناضجٍ تحت غطاء عملٍ واحدٍ ناجحٍ لا بد أن يكون في الواقع متحمسًا بإفراطٍ للمحصلة الثانوية والحقيرة لملكية التأليف، ولا مباليًا على نحو مثير للشفقة للجزاء الذي يستحقه عن حقٍ وحقيق. إذا آمن كتَّاب المراجعات والعامة حقًا بهذا، فلا عجبَ في أنهم نظروا إلى المحتال بتجهُّم. مع ذلك لا يجب أن أُفهم بأني أبيِّن هذه الأمور لتكون عرضة لتوبيخ أو مديح؛ لا أجرؤ على ذلك احترامًا لذكرى أختي التي تمنعي من هذا. ومن جانبها فإن أي توضيحٍ مُتشكٍّ من هذا النوع كان ليعدُّ ضعفًا مُهينًا وخسيسًا. لهو واجبي كما هو سعادتي أن أقرَّ باستثناء واحد للقاعدة النقدية العامة. عرفَ كاتب واحد، ذو رؤية ألمعية وتعاطف حسن مع العبقرية، الطبيعةَ الحقيقيةَ لـ”وذرينغ هايتس” ولاحظَ بدقة منصِفة جمالياتها والتمسَ هنَّاتها. وغالبا ما ذكَّرنا المراجعون كثيرًا بفوضى المنجِّمون، والكلدان، والعرَّافون بعد أن يتجمَّعوا ويتفوَّهوا “بالنُذر الغيبية”، وتعذَّر علينا قراءة الأمارات أو تمييز التأويلات. من حقِّنا أن نبتهج فعلا حين يأتي عرَّافٌ حقيقيٌ في الأخير، رجل بين جوانحه روحٌ بديعة، مَنُ مُنحَ نورًا وحكمةً وإدراكًا؛ يستطيع بدقةٍ قراءة “خلجات وخواطر” العقل الأصلي (بغض النظر عن مدى تفرُّد هذا العقل أو تعلُّمه غير الكافي واطلاعه الجزئي)، ومن يقول بكل ثقة “هذا هو التفسير المعنيّ”. مع ذلك، فإن الكاتب الذي أشير إليه يشاركني الخطأ بشأن ملكية التأليف، ولمن الإجحاف بحقي افتراضُ أن ثمةَ غموضًا في إنكاري السابق لهذا الشرف (شرَّف أُكْبِرُه في نفسي). هل لي أن أوكِّدَ له بأني سأكون عرضة للازدراء في هذه المسألة وفي أي واحدة أخرى تتعلق بالغموض؛ أومن أن اللغة التي مُنحتْ لنا لنبيّن مقاصدنا بوضوح، لا أن نلفُّها بشكٍ خدّاع.
حظيت “نزيلة قصر ويلدفيل” لأكتون بيل، على غرار تلك باستقبال غير مؤاتٍ. ولا يخامرني عجبٌ في هذا. كان اختيار الموضوع غلطة برمته. ولا يمكن تصوُّر أيَّ شيء فيه منسجم مع طبيعة الكاتبة. لقد كانت مُحرِّكات هذا الاختيار نقية لكنها، حسبما أرى، سقيمة قليلا. استُحثَّتْ في حياتها على التأمل والتفكير2، وتحمَّلت مدةً طويلة وعلى نحوٍ مباشر التأثيرات الرهيبة للمواهب التي أسيء استخدامها والإمكانيات التي عُبث بها3؛ كانت بالفطرة مرهفة الحسِّ، ومتحفِّظة، وذات سجيّة محزونة؛ ما شهدته أثرَّ عميقًا في عقليتها وسبَّب لها الأذية. تغذَّتْ على هذا حتى اعتقدت أن من واجبها أن تروي كلَّ تفاصيله (بالطبع بشخصياتٍ متخيّلة وأحداث ومواقف) ليكون إنذارًا للآخرين. كرهَتْ عملها لكنها استمرَّت به. عندما تفكَّرتْ في الموضوع رأتْ في استدلالته إغواءً للانغماس في الذات. لا بد أن تكون صادقة؛ لا يجب أن تكون مُزيِّنة ولا مرقِقة أو مُطمطِمة. جلبتْ عليها هذه النتيجة المعنية تماما سوءَ الفهم، وتحمّلت بعض الإهانات -كما هي عادتها- في تحمُّل أيّ شيء مُهين بصبر راسخ وحليم. لقد كانت صادقة جدًا ومسيحية تقيّة لكنَّ مسحة السوداوية الدينية ألقتْ بظلٍ تعيس على حياتها القصيرة النزيهة.
لم تسمح كلا من إيليس وأكتون لنفسها أن تغرقَ لحظةً واحدة في طلبِ التشجيع؛ قوَّت الهمَّة الأولى، وأيَّد التجلُّد الأخرى. كانت الاثنتان على أهبة الاستعداد للمحاولة مجددًا؛ ولن أجانبَ الصوابَ لو ظننتُ بأنَّ الأملَ وإحساسَ القوَّة كانا مُعْتملين في جوانحهما بثباتٍ.
لكن أزِفَ تغيير مهول: أتى ابتلاء لمن الفظيع توقُّع نمط قدومه ذاك؛ لا أرى شيئًا خلا الأسى عند النظر إلى الوراء. في حرارة النهار الشديدة وعنائه فشلَ العاملان في عمليهما. انتكست حالة أختي إميلي أولا. لتفاصيل مرضها في ذاكرتي وَسْمٌ غائر وأن يكون لها موضعٍ في فكري أو نثري لهو يفوق قدرتي. لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّت الخطى في مغادرتنا. وفي الوقت الذي انمحقتْ جسديًا كانت تقوى عقليًا على نحوٍ لم نعهده منها قط. يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعت إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أيّ شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف تشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات. مرَّ بألمٍ شهران قاسيان من الأمل والخوف، ثم حلَّ في آخر المطاف اليوم حين قاسى هذا الكنز أهوال الموت وآلامه، وأضحتْ أعزَّ فأعزَّ على قلوبنا وهي تهزلُ قُبالة أعيننا. في نهاية ذلك اليوم، لم نملك من إميلي سوى بقاياها الفانية، قد خلَّفها ما استهلكها. وافتها المنية في التاسع عشر من كانون الأول 1848.
ظننا أن هذا كافٍ لكننا كنا مخطئين تماما وبتمادٍ. لم ننتهِ من دفنها حتى تهاوت آن مريضةً. ما كان مرضها الذي يودي بحياتها طوال إسبوعين، قبل أن نفهمَ الإلماحة البيّنة بأن علينا تحضير أنفسنا لرؤية أختي الصغيرة تحلق بأختها الكبيرة. وهكذا اقتفتْ مسار أختها نفسه لكن بخطًى أبطأ، وبصبرٍ يعادلُ تجلَّد الأخرى. ذكرتُ آنفا أنها كانت متديِّنة لذا، واستقتْ من انكبابها على التعاليم المسيحية التي آمنت بها برسوخٍ المؤازرةَ في رحلتها العصيبة جدًا. شهدتُ تأثير هذه التعاليم في ساعتها الأخيرة ومحنتها العصيبة، ولا بد أن أدلي بشهادتي عن هذا النصر الهادئ الذي جُلبه إليها إيمانها. تُوفيت في الثامن والعشرين من أيار 1849.
ما الذي يسعني أن أقول أكثر عنهما؟ لا يمكنني قول المزيد ولستُ بحاجة لقول الكثير. كانتا في حياتهما الخارجية امرأتين متواريتين عن الأنظار؛ منحتهما حياةُ عزلةٍ مثاليةٌ عاداتٍ وسماتٍ منكفئة. اجتمعَ في سجيّة إميلي الحيويّةُ المفرطة والسهولةُ. وكمنُت تحت غطاءَ ثقافة غِرَّة ونزعاتٍ غير مصطعنة وسَمْت غير متكلِّف- قوةٌ سريّة ونارٌ بصَّرت الدماغَ وأوقدتْ عروقَ بطلٍ: بيد أنها لم تُحنَّك بحكمةٍ خبيرة، وما شقتْ قواها طريقها في الحياة العملية الفعليّة، وكانت لتفشلَ في أن تدافعَ عن أكثر حقوقها وضوحًا وفي أن تشاورَ في أكثر مزياتها أصالة. لا بد من مؤِّول دائما بينها وبين العالم. لم تتمتع برغبة مرنة جدًا، وعادةً ما وقفتْ بوجه ما تهتمُّ به. كان لها طبع متَّسمٌ برحابة الصدر لكنه حميميّ وغير متوقَّع، وروحها مستقيمة تماما.
أما آن فكانت ذات طبعٍ أكثر دماثة وكبتًا؛ رغبتْ بقوة، ونار، وأصالة أختها، بيد أنَّها موهوبة جدًا بخصال هادئة تميِّزها. تمتَّعتْ بالأناة، والإيثار، والتأمُّل، والنجابة، والتحفُّظ الجسماني، وقلَّة الكلام، ووضعها كل هذا في الظل، وغطَّى عقلها ولا سيما مشاعرها حجابُ راهبة نادرًا ما رفعته.
لم تكن إميلي ولا آن متعلمة، وليس لديهما أدنى فكرة عن ملء أباريقهما من نبع عقول الآخرين الفوَّار؛ دائما ما كتبتا بدافع الفطرة، وبإملاء البديهة، وبخزَّان مشاهداتٍ مُلءَ بما أتاحته لهما تجربتهما المحدودة. هل لي أن أختصرَ كل هذا بقولي إنهما في نظر الغرباء كانتا نكرتين، لكنَّهما في نظر من عرفهما طوال حياتهما وجمعته بهما عَلاقة حميمية قريبة طيبتان حقًا وعظيمتان صدقًا.
كُتب هذا البيان لأني شعرت بأنه واجب مقدَّس أن أزيلَ الغبارَ عن شاهديْ قبريهما، وأخلِّفَ اسميهما الحبيبين نظيفين من التراب.
كورير بيل
19 أيلول 1850
الهوامش:
1- تقصد رواية “الأستاذ”، وكانت أول رواية تكتبها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857. المترجم
2- تقصد تربية والدها الخوري لهن، وتأثير خالتها إليزابيث الديني ومعتقدها الميثودي المباشر في آن على نحو خاص، لأنها كانت أصغر الأخوات فحظيت برعاية خالتها المطلقة. المترجم
3- تقصد مأساة أخيها برانويل وتدهور حياته بعد علاقته الغرامية السقيمة مع السيدة روبنسون المتزوجة. كانت شارلوت تظن أن شخصية هنتغتون في رواية “قصر ويلدفيل هال” استمدَّت من حياة أخيها برانويل وهذا سبب شجبها العمل ورفض منح حقوق الاستمرار بنشره بعد وفاة آن برونتي. لكن ما غاب عن شارلوت برونتي أنَّ شخصية هنتغتون لم تكن مستمدَّة بأكلمها من برانويل فهي مزيج بين برانويل وما عايشته آن عندما عملت مربية لدى أسرة روبنسون وحياة مجتمع هذه الأسرة الفاسق والمتهتك. المترجم.