مقالات

كيف كادت جين أوستن تُولي الكتابة ظهرها؟ 

آنا بير

ترجمة: مؤمن الوزان 

أتحسبُ إذا ما امتلكتَ براعة أدبيّة أنَّ طريقكَ سيكون سالكا؟ إنْ حسبتَ ذلكَ فأنتَ على خطأ. حتى جين أوستن، واحدة من أعظم أدباء اللغة الإنجليزية بلا جدل، قضت سنينًا من عمرها تُصارعُ الظروفَ لتنشرَ كتبها، بل إنِّها أحبطت في ساعاتٍ حتى كادت تولي الكتابةَ ظهرها. 

بدأت القصة حين بلغت جين العشرين من عمرها في بيتها بقرية هامبشاير، في شتاء 1795، وقد فرغت توَّها من مسوَّدة أول رواية طويلة، إذ دخلَ عليها زائرًا توم ليفروي، جارها القس، مُبهجًا إياها ومحتفلًا بيوم ميلادها في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر. ما كان لهذين الاثنين أن يُخطبا فضلا عن أن يتزوَّجا، على الرغم من الانجذاب القوي المتبادل بينهما وما أبانت عنه رسائل جين من آمال كبرى عقدتها على توم. كما يحدث عادةً في عالم جين الروائي. يذهب بعضُ الدارسين، من بينهم أفضل كتَّاب سيرتها كلاير تومالن، إلى أن هذا الانجذاب غير المثمر نقطَّة تحوِّل محورية في حياة جين “لم يكن توم لوفروي، ولا أيُّ شخصٍ مثيله، بطلها المغامر إنما مخطوطتها في الطابق العلويّ. لا الزواج بل الفن”. لكن هذا الأمر لم يكن بلا ندمٍ، فقد استبدلت جين مستقبلها روائيةً بحياة الزوجية مع توم ليفروي و”العيش في قرية مجهولة في أيرلندا، مع عائلة كبيرة من الأطفال الذين يجب أن ترعاهم”. الندمُ أحد طرق الإبصار الشاقة لحياة جين أوستن، حين يتحول إلى مرارة أو إبداع أو كليهما، إذ تعالت جين على رغبتها بزوجٍ وعائلة، وصبَّت جامَّ طاقتها على الكتابة. وليحسب بعضهم الأمرَ مُضحكا إذا ما كانت الأفكار الداعمة له غير راسخةٍ جدًا. يتِّضحُ هذا في النهاية الساخرة في رواية دير نورثانغر المكتوبة من امرأة “على شفا حفرة الدمار، في عشرينياتها، نتيجة الوَحدة والتوقُ الشهوانيّ”. كتب جون هالبرين سنة 1984 أبانت الرواية عن “سؤالها القديم أين الرجل الذي سأتزوجه؟”، ويرى الآخرون أنَّ لأوستن مهربًا ضيقًا من الأدب والنسيان الحقيقي للزواج. أضف لهذا المزيج خطبةَ جين الوحيدة من هاريس بغ-وذر في بواكير شتاء 1802. وافقت جين، ثم نامت، واسيتقظت لتنكص على عقبيها رافضةً. على الرغم من ذلك فإنَّ المعلِّقون على هذه الحادثة يعبرون عن أسى طفيف لاختيار جين البقاء عزباء، وتفويت مباهج الحياة الزوجية، ملطِّفين من حدِّة الحدث أنَّ برفضها بغ-وذر كسبَ العالمُ رواياتها. لكن بتحديد التاريخ الحقيقي للخطبة والرفض، فإن هذه الحلقة لا تبدو ذات أهمية كبرى، إذ انسلخت ثماني سنوات حتى وصلت أولى روايات جين إلى أيدي الدنيا. وما بين هذا وذاك فإنَّ احتمال زواج أوستن، أو تحسُّن حالها المالية بوجه ما، سيجعل من كتابتها غالبا في وضعٍ شبه خاص يليقُ بسيدة ذات دخلٍ شخصيّ، سواء تزوَّجت أو لم تتزوج، وقد تصبح مونتاغو1 أخرى، إنْ لم تكن أقلَّ احتفاءً بها اجتماعيًا. حتى في ظلِّ اختيارها مسار الكتابة لم تكن النتائج لتبدو مُرضية في حينها، إذ كتب والدها القس جورج أوستن، في الفاتح من تشرين الثاني/ نوفمبر 1797 رسالةً عارضًا على الناشرين كادِل ودافيز “مخطوطة رواية مكوَّنة من ثلاثة مجلدات بحجم رواية إيفيلنا للآنسة بورني”، وسأل السيد أوستن عن “تكاليف النشر على حساب المؤلف” لكنه ألمح أيضًا إلى فكرة دفع الناشريْن شيئًا مقدمًا “لامتلاك المخطوطة، ولو لأجل الإطلاع، وإنْ كان من سبيلٍ إلى ذلك؟”. اقترحَ السيد أوستن، كما الراجح، النسخة الأولى من رواية كبرياء وتحامل بعنوانها الأصلي، انطباعاتٌ أولى، التي كتبتها جين في السنة السابقة. رفضَ الناشران “بإعادة الطَرْد” ولم يجيبا عن استعلام السيد أوستن عن تكاليف النشر الذاتيّ، وتجاهلا إلماحه عن الدفع مقدمًا، ورفضا قراءة المخطوطة، في فعلٍ ينمُّ عن حماقتهما. يُبيّن وجودُ الرواية في آخر سنة 1797، ومحاولة السيد أوستن بيع المخطوطة، بأنَّ حلقة توم ليفروي لم توقف جين أوستن عن الكتابة، ولا ثبَّطت من دعم عائلتها لطموحها في أن تصبح مؤلفة ذات كتب مطبوعة. بل ما حدث عكس ذلك كليًّا.

فهل أوقفَ جينَ رفضُ روايتها الشبيهة براوية بورني سنة 1797؟ مرة أخرى الجواب لا، واستمرت أوستن في حمل طاولة الكتابة معها حيث تنقَّلت في حياتها. في أثناء تنقُّلها خلال دارتفورد سنة 1798 كادت تفقد طاولة الكتابة، ومدخَّراتها البالغة سبعة جُنيهات، حين وُضعتْ خطأً في عربة حصان تقصد دوفر. قرر السيد أوستن مغادرة قرية ستيفنتون في هامبشاير إلى باث، وصارت حياة جين بعدها في ترحال دائم، ورأى الكثيرون أنَّ هذا الترحال زعزعَ خبرتها. ومع ذلك استمرَّت في الكتابة، بل نجحت في 1803 ببيع رواية سوزان لناشرٍ، وتسلَّمت وصلَ استلام حقوقها الماليّة -عشرة جُنيهات كاملة [نحو 10 آلاف جنيه إسترليّنيًا بسعر اليوم]- وكان والدها قد حاول مع هذا الناشر في 1797. (بعد فشل بيع رواية انطباعات أولى توَّلى هذه المهمة أحد ذكور آل أوستن، من أقارب جين أو من ينوب عنهم). لكن ما كان البيعُ نصرًا مُتوَّجًا إذ ما اتَّخذَ الناشر أيَّ خطوة لنشر رواية سوزان. ما أثبطَ هذا جين فشرعت في كتابة رواية جديدة في 1804، وكانت قد بلغت توَّها الثامنة والعشرين في كانون الأول/ ديسمبر. تخَّلتْ جين عن روايتها هذه بحلول يوم ميلادها اللاحق، وبقيت مُعلَّقة عند فصولها الافتتاحية حتى وفاتها، وما أنهتها قطُّ في نسخة جيدة. كانت تلك اللحظة حين خمدت فيها الموسيقا. لكن ماذا تُنبئنا هذه الفصول (نُشرت بعد زمن طويل من وفاتها بعنوان آل واتسون)، ولماذا ركنتها جين جانبًا؟  

إذا ما وسعك قراءة الفصول ستقرعُكَ كآبتها، فليس العالم حيث تتحرك إيما واتسون، بطلةُ جين اليقظة والاتكاليّة، رهيبًا، وما من أحدٍ جائعٍ، وما من انتحار أو تشرُّد، لكنه مزكوم بالنساء الحقودات، والخائبات، والمتعجرفات، اللائي يعشن حياةً مُملةً تمامًا. وتجعل المرارة العلقميّة للفصول الافتتاحية من العسير جدًا أنْ تظنَّ أنَّ أوستن تُخطط لنهاية “رومانسيّة” لا غنى عنها بلمِّ شمل العشَّاق في زواجٍ مبارك. يصوَّرُ الرجالُ فيها أنهم عديمو الجدوى بتطرَّفٍ، ومؤسسةُ الزواج مفسلةً تماما، بل أنْ يكون الزواج غايةَ المرأة أو جائزة حياتها لهو أمرٌ سخيف جدًا. ما أبِهَتْ أوستن لعرض أعتمِ لمحة اكتراث لحبِّ الرجل. وعلى النقيض تماما، إذ استثمرت كلَّ مقدرتها الكتابية في تصوير انقباض حياة إيما واتسون وسلواها برفقة أختها إليزابيث (الجانب المشرق من التصوير). ومن السهل أن تُحدد هويتي هاتين الأختين الخياليَّتين في جين وأختها كاسندرا. في رسالة كُتبت بعد عدة سنوات، تستذكرُ جين رهاب انحباس الحياة اليوميّة، واللقاءات الاجتماعيّة التافهة، والزيارات الواجبة، ومغادرة الخدم، وقدوم المرض. وسع الخلاص من كلِّ هذا بوسيلتين، ذُكرا عَرَضًا وبسخريّة، الأولى بنجاح وصول “ع. ع.”، رواية عقل وعاطفة، إلى أيرلندا، والأخرى كاسندرا، إذ هي وجين منيعتان على نحوٍ مُذهل. 

سمحت جين في 1804 لبطلتها المفلسة بقول طرفة صغيرة بارعة، وأضافتها لتكون واحدة من “ترقيعاتها” أو تعديلاتها. تتحدث إيما واتسون إلى المتعجرف والثري وغير المكترث، اللورد أوزبورن، الذي يجهل تماما معنى أن تملكَ مالًا قليلًا: “يسعُ اقتصاد الأنثى أن يقوم بصفقة كبيرة يا سيدي، لكن لا يسعه أن يحوِّل الدخلَ الصغير إلى دخلٍ كبير”. وما اختلفَ جوابُ اللورد أوزبورن عن قول إيما واتسون. “ما كان أسلوب إيما وعظيًا أو ساخرًا، لكن في ثنايا جدَّيَّته الدمثة شيءٌ ما، والأمر ذاته مع الكلمات نفسها التي خلَّفت سيادته في غمرة التفكير”.       

أفي هذا الحوار واحدة من اللحظات حين تستعمل جين بطلاتها المتواضعات والخاضعات في تحدِّي القيم الأبويّة؟ لستُ على ثقةٍ من ذلك. إذ في كلِّ هجاء سوق التزاوج، وفي كلِّ الاقتراحات -أكثر من محض اقتراحات- فإنَّ النساء (من طبقة واحدة) يقعن في فخ بُنى عصرهنَّ القانونيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، ومع ذلك فإنَّ أوستن ما وجَّهت سهام النقد قطُّ إلى هذه البُنى. وأفضل حلولها، في الأقل سنة 1804، في زواج الرجال المتعلمين بالنساء الصالحات. خلَّفت “جدّيّة إيما الدمثة” بوعظيتها المحضة وسخريتها اللورد أوزبورن في غمرة التفكير. قد يكون هذا مدروسًا من جين، لتصل به إلى القرَّاء الذكور وتُنزل أحكامها على المجتمع. ولربما هي مُساقة أو مُكيَّفة بمحافظتها السياسيّة ومعتقدها الأنجليكيّ، فيقترحُ أسلوب إيما وسيلةً ملائمة لاستخدام قوَّتها الأنثويّة. يبقى السؤال أيمكن لإيما واتسون الشخصيّة، وجين أوستن الروائيّة، أن تعلمانِ الرجالِ أخلاقيًا؟ بحسب منطقِ جين فإن الجواب غالبا “لا”، ولعل هذا السبب الكامن في تركها رواية إيما واتسون غير منتهية. أظنُّ، ولا يسعني التأكّد، أنّ جين تعرف أنَّ ما كتبته سهلٌ وجليٌّ وحزينٌ جدًا، وتصويرها اتكَّالية الأنثى صارمٌ جدًا. فبين يدينا سندريلا لكن بلا حفلة راقصة، فضلا عن أمير. تعلم أوستن أو تؤمن، في هذه المرحلة من حياتها، من أجل النشر أنها بحاجة إلى حبكة عاطفيّة. وقد لا تكون قصة آل واتسون الضحيّة المأساويّة للاضطهاد الأبوي لكنَّها تبقى سرَّ أوستن الصغير الذي لا تود البوح به، وما حانت ساعة كتابتها بعد لهذا الهجاء المغموم، مغلوبةً على أمرها برغبة أن تكون مؤلفة ذات كتب مطبوعة.     

تمثَّلت خطوتها اللاحقة في العمل على نسخة جيّدة لروايتها الرسائلية الصغيرة، سوزان، وهي إحدى أهم كتابات الصبا الجوهريّة. وكان عملها من أجل محاولة نشرٍ جديدة، وكذلك تحفَّزت برغبة إمتاعِ أفراد عائلتها. لكن أودت وفاة والدها غير المتوقعة في سنة 1805 عن زوجة وابنتين، كاسندرا وجين، إلى اعتماد هذه النسوة على إحسان أقاربهن الذكور كليا، بل وفي عازة أكبر مما مضى إلى المال ومباهج الحياة، فما وسعَ جين حينئذ أن تمضي في درب الكتابة، وتوقَّفت في آخر المطاف عن كتابة الرواية. في السنوات الأربع اللاحقة ما كتبت جين شيئا خلا الرسائل. ثم حلَّت انعطافة جديدة في حياة النسوة الثلاث، إذ وهب لهن أخو جين إدوارد نايت (تُنبي طفلًا من قريب ثري لا خلف له، وحمل اسمه)، مع صديقة العائلة مارثا لويد، كوخًا بكامل أساسياته ليعشن فيه بالقرب من أحد بيوت عِزباته. لتنتهي سنوات التجوال، وتحظى جين أوستن في سن الرابعة والثلاثين ببيت أخيرا في شاوتون. صار هذا البيت اليوم أشبهَ بمَحجٍ يقصده الناس، وجذبَ الأنظار إليه كثيرًا ببروز أوستن الأدبي. تجاوزت أوستن في كوخ شاوتون مسعى البحث عن زوج، ولربما تنهَّدت مرتاحة لعدم انخراطها الخَطِر والمُستنزف في إنجاب الأطفال. ابتدأت في شاوتون سنوات الكلام وولَّت سنوات السُكات. لا يعني ذلك أنَّ جين تخلَّت عن طموحها قبل الانتقال إذ بقيت متحمِّسة لتصبح روائية. وكتبت إلى الناشر الذي اشترى رواية سوزان معربةً عن رغبتها باسترداد المخطوطة (استعلمت في خطابه اسمًا مجهولا هو السيدة آشتون دينز Mrs. Ashton Dennis، وما كان هذا الاسم المقترح إلا من أجل أن تكتب الحروف الأولى من الاسم ماد MAD [أي مجنونة]). قالت جين في رسالتها “انسلخت ستُّ سنوات على هذا العمل، الذي أقرُّ بأني مؤلفته، ولمَّا يُنشر بعد حسبما يسعني العلم”. فأجابها الناشرُ: ادفعي لنا ما دفعناه لك. تخَّلت جين ساعتئذ عن سوزان حتى حين، وتناولت رواية رسائلية، إلينور وماريان [نُشرت بعنوان عقل وعاطفة]، كانت كتبتها قبل عشر سنوات، فنقَّحت نثرها (ما عادت رسائليّة)، وأعادت النظر في مسارها مع الناشرين.  

عودًا على بدء، في سنة 1797 سأل السيد جورج أوستن الناشرين كادِل ودافيز عن كلفة نشر مخطوطته (أو مخطوطة ابنته) وما تلقَّى ردًا. وفي 1810 طرحت جين السؤال نفسه على الناشرين، وجاءها الجواب من الناشر توماس إيغرتون أن الكلفة خمسون جنيهًا. يغطي هذا المبلغ الذي ينقدُه المؤلفُ للناشر تكاليف طبع الكتاب وتوزيعه، وتعود الأرباح للمؤلف مقطوعة منها عمولة الناشر، وكذا الحال مع الخسائر. لتشرع بعدها رواية عقل وعاطفة في طريق النشر. حُسبتْ حينها خسائر أوستن المتوقَّعة بأنها لن تربو على ثلاثين جنيها. كان لجين إعانة ثياب سنويّة بقيمة واحدٍ وعشرين جنيها، لذا ستكون في ثمانية عشرَ شهرا بلا ثياب جديدة. وأبان حسابٌ آخر أنَّ أوستن ستخرجُ بلا ربحٍ أو خسارة ببيع 419 نسخة، مع قطع عمولة الناشر إيغرتون. كانت هذه الحسابات ذات أثرٍ مؤذٍ لها، ولو استقبلت جين من أمرها ما استدبرت لوسعها أن تحدَّ من خسارتها، وتنشرَ عملها سلفًا، ربما حين ورثت خمسين جُنيها في 1807، لكن جرت الأمور كما قُدِّر لها. في ذات السنة، 1810، اتَّفقتْ أوستن مع إيغرتون، في الراجح بدعم أخيها هنري سواء بدفعه نقدًا أو ضمانه لها. شغلت رواية عقل وعاطفة ذهنَ جين في الربيع والصيف اللاحقين، وكتبت إلى  كاسندرا “ما كنتُ مشغولة قطُّ كما الآن بالتفكير بـ ع. ع. لا أستطيع نسيانها، كما لا تستطيع أمٌ نسيان رضيعا”. يا لها من صورة أموميّة مطمئنة لعملِ الكاتب، وملائمة جدًا للظهور العلني الأول لطموح جين الأنثوي المُسالم واللائق في أن تصبح روائية. عرضت الرواية مساحة أدبيّة جديدة للنساء، وصيغتْ من أفانين صُنِّفت سلفًا بأنها أنثويّة، وبنَّاتيّة، ونسائية: قصص عاطفية نثريّة، رسائل، كتب رسائل، روايات رسائليّة، حكايات اعترافيّة مكتوبة بضمير المتكلم. قد يحسبُ القارئ أنَّ هذه الأفانين ستكون سببًا للاحتفاء لكن، وعلى نحو مُحزنٍ ومتوقَّع، فإنَّها لم تهدِ إلى نجاح المرأة ولا التصفيق لها، بل قوَّضتْ قيمة الرواية شكلًا أدبيًا وبخست من قدرها. اتّفق المعلّقون المعاصرون لها على رفض هذا الصنف من الرواية بحجة أنه أنثوي، أو ما أسمته جورج إليوت (استخدمت الكتاب اسم قلم ذكريّ) روايات تافهة تكتبها الروائيات. هاجمت إليوت في مقالتها بخطاب عدائي في خمسينيات القرن التاسع عشر هذه الروايات، محاولة توليد مساحة لرواية “جدّية” تكتبها النساء، لكن إقصاء النساء التدريجي من هذه المنطقة الأدبية الجديدة، أو احتضان المؤلفات في مساحة عُلّمت بالـ”التافهة” بدأت في عصر جين. حتى كتابات فاني بورني ذات المبيعات العالية، والناجحة على نحو لافت، التي بقيت في منزلة رفيعة في أواخر القرن الثامن عشر، انحطَّت بها الحال في بواكير القرن التاسع عشر. ووصم جوهر طموح روايتها السياسية “الهائمة أو عقبات الأنثى The Wanderer, or, Female Difficulties” بأنها غير لائقة لقراءة المرأة، واتُّهمت بورني نفسها بأنها تفتقر الى “الحيوية” و”الريعان”. 

كانت الرواية النوع المساعد للمؤلفات، لذا فمن الجلي فإن جين ذات الواحد والعشرين ربيعا في 1795 نحت باتجاه هذا الخيار الواضح والكؤيس المسموم. وما من شيء خلا حزمها ضمن لها في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر 1811 أن تلد إلى العالم “طفلها” بحذرٍ وتروٍ (وأسمته والدته عقل وعاطفة بقلم سيدة).

1- السيدة ماري ورتلي مونتاغو (1689-1762): كاتبة وشاعرة وأرستقراطية إنجليزية، عاشت النصف الأول من حياتها في إنجلترا، ثم تزوَّجت ورتلي مونتاغو، سفير إنجلترا في تركيا، حيث عاشت معه النصفَ الثاني من حياتها. عُثرَ بعد وفاتها على الرسائل السفارة التركيّة إذ وصفتها فيها رحلتها إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى