ترجمة: مؤمن الوزان
ما ذاع صيت شعر فرانسوا فيون في حياته، ولا جلب له من المال إلا قليلا، وحتى هذا يكاد يعدم، لكن ينظر إليه اليوم أفضلَ شاعر فرنسي في العصور الوسطى. ظهرت أعماله في مخطوطات معدودة بعد اختفائه سنة 1463، وطبع أول ديوان له -طبعة ليفيت- في بواكير سنة 1489. تبعت هذه الطبعة أكثر من مئة طبعة لاحقة، وترجمت قصائده إلى أكثر من أربعين لغة. وبطلب من الملك فرانسيس الأول ألّف الشاعر كليمان مارو أولَ دراسة نقديّة صدَّرت شعر فيون سنة 1533. اعتمد مارو في طبعته على الطبعات السابقة ومستعينا بما وصفه “avecques l’ayde de bons vieillards qui en savent par cueur” (معونة أولئك الشيوخ الطيبين الذي عرفوه بقلوبهم). كان هؤلاء الشيوخ قد حفظوا أشعار فيون عن ظهر قلب، وذاع صيت طبعة مارو حتى إنها طبعت خمس عشرة مرة ما بين سني 1533-1542 مؤكدةً شهرة الشاعر في ذاك العصر.
اشتهر فيون بين أدباء الفرنسيين اللاحقين، وأحال إليه فريد عصره فرانسوا رابليه في كتاب خماسيته الأول “الأفعال الرهيبة والشجاعة الفظيعة للمبجل الشهير بانتاغرويل، ملك بلاد ديبسودي، 1532″، واقتبس من شعره في الكتاب الرابع المنشور سنة 1548. أشاد الأدباء في القرون الخمسة اللاحقة بفيون وقصائده من بينهم الناقد الفرنسي الرفيع نيكولا بوالو، والشاعر الإنجليزي أ. ش. سوينبرن، والشاعر الأمريكي عزرا باوند، وتحولّت حياة الشاعر إلى روايات ومسرحيات ورسوم متحركة، وأشارت إليه الكثير من المختارات الشعرية (أنثولوجيا) بأنه أفضل الشعراء الفرنسيين في أواخر العصور الوسطى. ساهم في إذاعة صيت فيون تعاطف القرّاء معه لظروف عيشه العصيبة، التي أتى على ذكرها في شعره بروحٍ من الفكاهة واللذاعة وإكثاره من ذكر فصول حياته. بيد أنَّ المؤكد الذي نعرفه عن حياته نزرٌ إذا ما استثنينا ما ذكره هو عن نفسه. أشير إليه في وثيقتين من المحكمة، مؤرختين في كانون الثاني/ يناير 1456، باسم “فرانسو لوغس أو ما يدعى فرانسوا فيون”، و”فرانسوا مونتكوربي”. لذا يذهب إجماع الدارسين إلى أنّ مونتكوربي وفيون هما في الحقيقة شخص واحد.
يسع المرء التخمين من استهلال ديوانه “الوصية Le Testament”، الذي نظمه في 1461 بسن الثلاثين، بأنه ولد لأبوين معدمي الحال:
فقير ولازمني الفقر منذ صباي
مولود من أرومة مهينة
ما عرف أبي يوما الثراء
ولا جدي أوراس
والفقر يلاحقنا في الوراء
ما ترك فردًا حتى الآباء
تغمدّ الربُّ أرواحهم بالرحماء
ما أبصروا تاجا ولا صولجانا.
لم يعرف فيون الكثير عن أبيه، لكنه يمرُّ على ذكر أمه في الوصية كأنها حيّة ترزق. قضى سنيه الأولى طالبا في جامعة باريس في منزل غيوم فيون، محامٍ موقّر، وذكره في الوصية بأنه “أكثر من أب قد كان/ وأكثر رأفةٍ من أمٍ”، ثم اتّخذ لقب غيوم، في الأقل، في شعره. لم يكن فيون باعترافه مجدّا في دراسته، وفي أثناء سنوات الجامعة حدثت واقعة إما شارك فيها وإما شهد عليها، إذ سرق طلاب بدافعِ المزاح حجرا اسمه “ضرطة الشيطان” من أملاك الآنسة دي برويير وتعاملوا معه بإهمال. يقول فيون في الوصية إنه يرجو أن يورث عمله الذي كتبه “قصة ضرطة الشيطان” إلى السيد غيوم، لكن لم يعثر على كتابه هذا -إنْ وجدَ حقا-. شارك فيون في خدع أخرى ومشاجرات في سني دراسته ساقته إلى مواجهة السلطات، واستطاع بعد ذلك نيل درجة البكالوريوس سنة 1449، والماجستير في الفنون سنة 1452.
جرت على فيون واقعة خطرة بعد ثلاث سنوات اضطرته إلى مغادرة باريس على حين غرة. تشاجر في حزيران/ يونيو 1455 والقس فيليب سيرموسي الذي شرم شفته بخنجر كبير، ودفاعا عن نفسه طعنه فيون في أُرْبيّته (أصل الفخذ) بخنجر احتفظ به تحت عباءه. لم يرعوِ القس بالطعنة فرضخ فيون رأسه بحجرٍ، ثم قصد حلاقا ليخيط له جرحه وادّعى أن اسمه ميشيل موتون. وقبل أن توافي القس سيرموسي المنية قال إنَّ فيون من اعتدى عليه ثم فرَّ هاربا. وبفضلِ تدخّلات أصحابه، ولا ريب والده بالتبنّي، غيوم، عفي عنه بقانون القتل المُسوّغ، فقفل راجعا إلى باريس في كانون الثاني/ يناير 1456. تورّط فيون قبيل نهاية السنة في مشكلة أخرى مع السلطات، إذ سرق برفقة ثلاثة رجال خمسمئة عملة نقدية (إيكو) من كلية نافارا، وادّعى أحد رفاقه، غاي تاباري، بأن فيون قائد العصبة. فرَّ فيون من باريس مجددا، وكتب قبل ذلك “الإرث Le Lais” مورّثا أصدقاءه في هذا العمل ما امتكله حقا وخيالا. لا نعرف شيئا تقريبا عن السنوات الأربع التالية من تجواله، ومن المرجح أن سلخ حينا من الزمن في بلاط الدوق تشارلز دو أورليون في بلديّة بلوا، إذ ظهرت ثلاث من قصائده في ألبوم الدوق الشخصي. كانت إحدى القصائد الثلاث في مديح ابنة الدوق، ماري دو أورليون، في يوم ميلادها في التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 1457، أو في يوم دخولها مدينة أورليون في السابع عشر من تموز/ يوليو 1460. وفي كل حالٍ فإنَّ حماية الدوق تشارلز لم تدم طويلا، وبحسب ديوان الوصية فإنه حُبس في سجن بلدية مون سور لوا في صيف سنة 1461 بلا سبب مذكور، أو ربما لازدرائه سلطة أسقف مدينة أورليون، تيبو دوسيني. وبحسب القصيدة نفسها فقد جُوّع وربما عُذّب، لكن أطلق سراحه وسجناء آخرون بمكرمةِ مرور الملك الجديد لويس الحادي عشر بمون سور لوا في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 1461. عاد فيون إلى باريس، ثم حُبس بجُنحةٍ، وفي أثناء سجنه تُعرِّف عليه مشاركا في سرقة كلية نافارا. أطلق سراحه بعد أن دفع مئة وعشرين قطعة نقدية إثر ثلاث سنوات من السرقة. سُجن بعد شهور قلائل إثر مشاجرة في الشارع، وأخذ إلى سجن شاتيلي حيث عُذِّب بالماء وحكم عليه بالإعدام. التمس تخفيف الحكم من البرلمان، وحكم عليه في الخامس من كانون الثاني/ يناير 1463 بالنفي عشر سنوات من باريس. بعد مغادرته الثالثة، والأخيرة في الراجح، اختفى فيون من سجلات التاريخ. ويرى أغلب النقّاد أنه مات بعد فينة من نفيه، إذ ذكر في الوصية وقصائده المتنوعة (1450-1463) أنه رجل منكسر مهضوم الجناح جسديا وماديا، وما عاد قادرا على تعداد أصدقائه.
لو قضى فيون نحبه في سجن مون سور لوا في صيف 1461 لكان اختفى بشخصه وشعره. وكتب حتى حينها عمله الإرث، وهو في معظمه غير ناضج، كان قد سطّره في سنة 1456 كما يدل المقطع الاستهلالي، مكونا من ثلاثمئة بيت موزّعة على مقاطع ثُمانيّة الأبيات. تبنّى في عمله شكل الإيصاء الساخر، الذي كتب فيه بمهارة بعدئذ في الوصية، يقول فيون إنه على وشك مغادرة باريس لأنه كان تعيسا في الحب، في مقطع شعري شائع:
أتتني اللهفة لتحررني
من سجن الحبيب
الذي أتعس قلبي وأشقاه
لم يأت فيون على ذكر مشاكله القانونية التي يشير إليها دارسوه بأنها السبب في مغادرته باريس. ورّث قبيل تركه المدينة ممتلكاته المتخيّلة أو التافهة إلى أصدقائه وأقاربه، فمثلا أوصى بـ”شهرته” التي لم تكن ذا بال حينها إلى السيد غيوم فيون، وقلبه المدفون في ضريح إلى حبيبته المخلصة، وعلامات عدّة خمّارات مثل رأس الثور الأقرن إلى صحبه ومعارفه، أما من منزله المُعدم فأوصى بأُطر نوافذه المحفوفة بشبكة العنكب إلى حلّاقه مع قصاصة شعره. ووقع فيون المقطع الختامي في الإرث.
لا يصنف الإرث عملا فنيا عظيما، لكنه ألمح إلى عبقرية فيون الشعرية التي تجلّت بعدئذ في ديوان الوصية. يذهب بيري شامبيون إلى أنّ تجوال فيون ومصاعبه في منفاه عن باريس وحبسه في سجن مون سور لوا هي العناصر الفاعلة في إنضاج أسلوبه في الوصية، وقد كتبه بعد خمس سنوات. تتألف القصيدة/ الديوان الكاملة من 2023 بيتًا، وبدا أن شكل المقاطع الثمانيّة الأبيات الشعري والأناشيد المتناثرة في الوصية قد كتبت قبل حين، ثم أدخلت فيها. يستهل الوصية بشتيمة لسجّانه في مون سور لوا الأسقف تيبو دوسيني “ليس لي بسيدٍ، وليس بأسقفي”، ثم شرع في الثناء على الملك لويس الحادي عشر، وشكره لإطلاقه من حبسه “أطال الرب عمر لويس مثل متوشالح1، وأنسله اثني عشر وريثا، وأدخله الجنة جزاء وفاقا”. قال فيون، لما قاساه في حبسه من ظروف عصيبة، إنَّه منهك العقل والبدن، وتندّم في المقطع الثاني والعشرين على عبث شبابه الضائع:
أنوح على شبابي
ضيعته في تبابِ
حتى داهمني شيبي
إنَّ مزاج الوصية أكثر ظلاما وسوداوية من عمله السابق الإرث، وبثَّ فيون في أبياته أحقاده لا بحق دوسيني وحده بل ولكل من تركه فقيرا وبلا صحب. والوصية ليست ابتهالا طويلا من الشكوى والندم، إذ يبدأ المقطع التاسع والعشرين بـ(أين) وموضوعه الذي أتى على معظم القصيدة. يسأل الشاعر في مقطع غنائي حزين عن صحبه الشبّان الذين عرفهم في خالي الأيام:
أين أولئك الفتيان الحسان
من رافقتهم في الخوالي؟
أهل الغناء المجيد والبيان
ذوو بهجة في الكلام والفعالِ؟
كلُّ من عليها فانٍ من فقراء وأغنياء، “أتى عليهم الموت بلا استثناء”. وكتب أنشودتين في موضوع أين. يتساءل فيون في أنشودة، أسماها مارو في طبعة الوصية لسنة 1533، سيدات الزمن الخالي، وأخرى، أسماها سادة الزمن الخالي، عن مآل مشاهير النساء والرجال من علية القوم القدامى والماضي القريب. أين فلورا، هيلويسه، بلانش دي كاسل، جان دارك؟ أين شارلمان، الملك آرثر، تشارلز السابع؟ ذاع صيت أنشودة سيدات الزمن الخالي، لا سيما اللازمة الكئيبة المتكررة “أين ثلج ما خلى من دهور؟”. تكرر في الوصية موضوع الحب غير المتبادل وخيانة النساء وقسوّتهن. يصف فيون في مقاطع 46-56 جمال عجوز شمطاء ذابل، ثم يدرج أنشودة، عنونها مارو “حديث زوج صانع الخوذات والعاهرات”، وتنصح فيها الزوج المحبوبة المغتلمة بنات الهوى الفتيّات. يسأل فيون في المقطع الثالث والستين “ما الذي يحدو بالنساء أن يعشقن بحريّة كلَّ أولئك الرجال؟” ويجيب “إنها فطرة النساء”. وينصح الرجال في الأنشودة المضاعفة اللاحقة أن يتجنبوا أمثال هذه النساء “سعيد من كان عنهن في منأى”. يبدأ فيون، بعد تعداد عثراته في الحب، بتوريث ممتلكاته، فيترك لأمه أنشودة كتبها بصوتها السرديّ “امرأة أنا، فقيرة ومن زمن غابر”، وتخاطب في حوار داخلي العذارى مع لازمة “بإيماني هذا أرغب أن أحيا وأموت”. ترك فيون أناشيد وقصائد لحبيبته الخائنة، وأصدقائه، وأعدائه. يقول في قصيدته الموجّهة إلى التاجر يثير -من المحتمل أنه منافسه العاشق وفقا لجون دوفورني- “أيها الموت أناشدك أقسى قضاء” متحديًا التاجر أن يجعل القصيدةَ موسيقيّة (ظهرت القصيدة بعد حين بإيقاع موسيقي في مخطوطتين). أورث فيون الآخرين ممتلكاته الحقيقية والخياليّة، ومع أنَّ بعضها ذات إلماحات ساخرة وتلاعب بالكلمات فبالإمكان اليوم تخمين بعض مقاصده لا أكثر، كما تزخر بهجوم عنيف على أعدائه. يعدد في أحد مقاطعه الهجوميّة قائمة من السوائل الحارقة والمواد في مكونات طبخة، وينهي المقطع “لتحترق ألسنتكم الحقودة بهذا الطعام”. تصف كاتبة السيرة باربارا نيلسون سارغينت-باور، أناشيد أخر، مثل التي أسماها مارو “أنشودة فيون ومارغو السمين”، بأنها مقززة وذات فظاظة متعمّدة. مع أن الأناشيد تُظهر الجانب البشريّ من فيون، وبعيدة كلّ البعد من الشذوذ عن عصرها، فما هي بأفضل قصائده التي يُخلّد بها. يختتم الوصية بأنشودة هي مثال لما سيليها من قصائد. يبدّل فيون الصوت السرديّ ويكتب بضمير الغائب، مناشدا القراء كما لو أن الموصي قضى نحبه، وآن أوان تنفيذ الوصية:
أزفت النهاية واقتربت منها
وصية المسكين فيون
فأقبلوا إلى جنازته
حين تسمعون الأجراس.
يبدّل فيون ما بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وما بين الحديث الكتابيّ والشفويّ.
يذكر شامبيون أن الوصية أكثر أعمال فيون دراسة ونقاشا، وأشد القصائد عاطفةً، وأكثرها تعقيدا وغموضا. لم يبدّل فيون على طول القصيدة صوته السرديّ بل والمُخاطَبين أيضا. تقول باربارا نيلسون في دراستها “المخاطب الحقيقي والضمني في الوصية لفيون” المنشورة سنة 1992 بأن “تعدد المخطابين” عند فيون لا يقتصر على أصدقائه وأعدائه لأنه يشمل “القارئ المثالي” والإنسانيّة جمعاء، ونفسه أو “ذاته المنشطرة”. ويقول روبرت د. بيكهام في دراسته “النصيّة الشفويّة والشفويّة النصيّة: أنماط الغموض في الوصية لفرانسوا فيون” المنشورة سنة 1990 بأن فيون أبدع غموضا يتبدل في النص ما بين الخطاب الشفويّ والمكتوب. ودرس دافيد فين استعمال فيون الزمن في دراسته “المحدد والخالد في زمن الوصية لفيون” المنشورة سنة 1987، وأشار إلى أنه يشاد بالوصية على أنها أكثر أعمال فيون غموضا وتعقيدا.
كتب فيون الأعمال الستة عشر من القصائد المتنوعة في أثناء فصول حياته المتباينة، وابتدأ بها في بواكير 1450، ونُشر خمسة عشر عملا في مجموعة أول مرة سنة 1892 في طبعة عن أعماله على يد أغسطي لونغنون. تألف معظم أناشيده من ثلاث مقاطع من ثمانية إلى عشرة أبيات، وينتهي كلّ مقطع بلازمة، ويختتم النشيد بمقطع قصير باللازمة نفسها. ومن بين هذه الأعمال ظهرت ثلاثة في ألبوم تشارلز دو أورليون، كتب فيون أحدها في مديح ماري دو أورليون في منفاه عن باريس، وينتهي بـ”مريدك المسكين فرانسوا”. ومن الجليّ أنَّ العمل الثاني “أموت عطشا بجوار النبع” باقتراح من الدوق، واستهلت سطور من القصيدة بكلمات إذا ما قُرأت حروفها الأولى عموديًا شكلت اسم فيون VILLON. كتبت القصيدة الثالثة بأسلوب ثنائي اللغة (الفرنسية واللاتينية)، ونسبت إلى فيون مع أنها لم تحمل توقيعه. أما القصيدة الرابعة، لم يتضمّنها ألبوم الدوق، فكتبها إلى الدوق لطلب قرض عاجل.
حملت أغلب القصائد المتنوعة سطورا إذا قرأت حروفها الأولى عموديا شكّلت اسم فيون أو فرانسوا، لكن ما من دليلٍ راجحٍ بأن فيون كتبها كلّها. وأشهر القصائد التي شكّلت اسمه المعنونة في معظم الطبعات بـ”الرثاء” أو “رثاء فيون”، وتشيع بعنوان “أنشودة المشنوقين”، وهي ترتبط به بلا ريب. نظمت القصيدة في الراجح في أواخر سنة 1462، حين كان فيون في سجن شاتيلي محكوما عليه بالموت، ولربما هي أكثر قصائده الشجيّة. تبنّى في القصيدة صوتا سرديا جمعيا، وكتبها من وجهة نظر المشنوقين الذي يتضرعون إلى إخوتهم أن يدعو لهم، ويقتفي البقية أثرهم في الدعاء لهم. يصف بحيويّة تدلّي الأجساد واهتزازها في الريح:
غسلتنا الأمطار وصرنا منقعينا
والشمس في كبد السماء تسودنا وتشوينا
وتقتلع الغربان والعقاعق منا العيونا
تنتف لحانا وتخلع الحواجب فينا
لسنا في راحةٍ يوما متروكينا
تهزهزنا الريح لسنا منها محصّنينا
تهبُّ دوما تقلبنا شِمالا ويمينا
تنهشنا المناقيرُ تفوقُ مثقاب إسكافي المدينهْ
ينتهي كلّ مقطع بلازمة أسيّة “وادعوا الربَّ يغفر لنا جميعا”.
كتب فيون أناشيد “لغة الخاصة en jargon” بتعابير لا يعرفها إلا اللصوص والمزوّرين في عصره، وباءت بالفشل محاولات النقّاد في فكّ طلاسمها، وما أثمرت محاولاتهم إلا القليل. وأكمل الدراسات في هذه الأناشيد هي دراسة بيير جيرو “Le Jargon de Villon et le gai savoir de la Coquille”، ولا تتضمن معظمُ ترجمات أعمال فيون أناشيد لغة الخاصة، وسعت باربارا نيلسون جاهدة لتقريب معاني هذه الأناشيد في ترجمتها قصائد فيون الكاملة (1994). واتّخذت واحدة من هذه القصائد مثالا تبيّن فيه هذا النوع من قصائد الذي كتبه فيون ومناقشة معناها، مما جاء فيها هذا المقطع:
يخدع المخادعون في الخديعة
فتنبّه إلى أين تزاول الخديعة
فلا يداهمك من الوراء أوستاك
حيث أُخذ على حين غرةٍ أبواك
اركض برجلك واعدُ في الفرار
فأساك قريب إنْ آثرت الانتظار
واحذر القبض على رقبتك
فيرفع الجلّاد لك مشنقتك
تؤول باربارا نيلسون هذه القصيدة وقصائد لغة الخاصة الأخر بأنها إهابة إلى أهل السرقة والتزوير ليراقبوا المشنوقين، ويرى جيرو، الذي ترجم القصيدة إلى الفرنسية المعاصرة، بأن هذه القصيدة مثل “أناشيد لاعبي الورق”، وكأنها نصيحة لمن يغشون في اللعب. تتباين ترجمات القصائد والتأويلات تباينا كبيرا، وتعد النقاشات بالاستمرار في هذا التباين. ويقول آخرون بأن ليس في هذه القصائد ما يستحق عناء ترجمتها وفك طلاسمها، ويذهب بعضهم إلى أهمية معرفة معانيها لمنحنا رؤية ثمينة لفرنسا في العصور الوسطى ولغة الخاصة والعامة في القرن الخامس عشر.
استخدم فيون في قصائده أشكالا ثابتة مثل الأناشيد والأغاني، وحتى في قصائد لغة الخاصة. يتألف شكل المقطع الشعري الذي استخدمه في عمليه الوصية والإرث من مقاطع ثمانية الأبيات بنظام قوافي: أ ب أ ب ب س ب س، واستخدمه الشاعر ألين شارتر في قصيدة حسناء بلا رحمة 1424، وكذا الحال مع شكل الإيصاء الساخر إذ لم يكن جديدا، وكتب فيه من قبل الشاعر جون دو مون في القرن الثالث عشر عمله الوصية، والشاعر أوستاشي دوشامبس عمله الوصية بالتسلية، وفيليب دي هاوتيفيلي في بواكير القرن الخامس عشر كتابه اعترافات عاشق دمّره الحزن ووصيته، وهذه أمثلة عمن سبقوا فيون بالكتابة في هذا الشكل.
لم يكن فيون مبتكرا في الأشكال أو الأنواع الشعرية، لكن تضمن له السمة الشخصيّة العميقة في شعره ومهارته الفنيّة مقاما رفيعا في المعتمد الأدبي الفرنسي. وما دام الغموض كامنا في شعره، ويسوق إلى تأويلات متباينة كلَّ التباين والاختلاف، فسيبقى شعره مادة خصبة للنقاش النقديّ والجدل الأدبي.
1- متوشالح: شخصية توراتية عاش نحو ألف عام بعد طوفان نوح عليه السلام.
*
من شعره (عن ترجمة للإنجليزية لـ أ. س. كلاين):
أنشودة المشنوقين
يا إخوةً يعيشون من بعدنا
لا تقسينَّ قلوبكم علينا
وإنْ من رحمةٍ فارحمونا
فالرب يرحمُ الراحمينا
خمسة بل ستة تروننا
على مرأى منكم مشنوقينا
فذا اللحم الغريض فينا
سيَنْتنُ وينتفخُ كارهينا
وعظامنا ستكون ترابا مهينا
فلا تسخروا مما به ابتلينا
وادعوا الربَّ يغفر لنا جميعا
*
إذا ما علا الصراخ منا،
ونحن من أجل العدالة معلقونا،
يا إخوتنا فلا تزدرونا
ما أقلَ من بالعقل مُتحلينا
ادعوا لنا غير حانقينا
ابنَ مريم العذراء الحصينهْ
فلا نكون من نعمائها محرومينا
أو في نار السعير من الهاوينا
أمواتٌ فكونوا لأرواحنا معينينا
وادعوا الربَّ يغفر لنا جميعا
*
غسلتنا الأمطار وصرنا منقعينا
والشمس في كبد السماء تسودنا وتشوينا
وتقتلع الغربان والعقاعق منا العيونا
تنتف لحانا وتخلع الحواجب فينا
لسنا في راحةٍ يوما متروكينا
تهزهزنا الريح لسنا منها محصّنينا
تهبُّ دوما تقلبنا شِمالا ويمينا
تنهشنا المناقيرُ تفوقُ مثقاب إسكافي المدينهْ
فيا إخوة لنا لا تلحقونا
وادعوا الربَّ يغفر لنا جميعا
*
يسوع يا ذا السلطان
احمنا من مهانة النيران
ما لنا في الجحيم مكان
يا إخوةً منا لا تسخرونا
وادعوا الربَّ يغفر لنا جميعا
**
أنشودة أموت عطشا بجوار النبع
أموت عطشا بجوار النبع
ألتهبُ حرًا وتصطكُّ فيَّ الأسنان
أعيش في بلدي لكن غريب ومقصي
قريبٌ من النار ويترجفّ فيَّ الجسد
عارٍ كدودةٍ ويكسوني الفراء
أبتسم في دمعي وأنتظر بلا رجاء
أرتاح في كآبة بأساء
أبتهج بلا فرحة ولا إنسان
قوي بلا سلطة أو أتباع
مرحّب بي وينفرُ مني الجميع
*
ما من شيءٍ عندي أكيد غير المشكوك
غامض كلُّ ما يُرى بجلاء
لا أشكُّ ألا في الثوابت
العلم عندي ما يكون صدفة
أفوز لكن عند الفجر
أقول للخاسر ’طابت ليلتك‘
مرعوب من السقوط وأنا مستلقٍ
أملكُ الكثير ولا شيء في حوزتي
أنتظر الإرثَ وما من أحدٍ أرثه
مرحّب بي وينفرُ مني الجميع
*
ما عملتُ قطُّ لكني منهك
أملكُ أشياء لا حاجة لي بها
أكره من يحسن لي
ويغضيني من يصدقني القول
وصديقي من يقنعني
أن أبيض البجع سوداء كالغراب
يؤذيني من يمد لي العون
الصدق والكذب في عيني سواء
أذكر كلّ شيء وذاكرتي هباء
مرحّب بي وينفرُ مني الجميع
*
يا مولاي الرحيم ليسرّك ما أبنتُ
علمي كبير لكن بلا عقل أو منطق
متحيّز من كل الناس بإنصاف
ماذا أفعل أكثر؟ أدفع ليُغلقَ الرهن1.
مرحّب بي وينفرُ مني الجميع.
1- غلق الرهن: يعني أن الراهن لا يستطيع افتداء المرهون بدفع المستحق عليه، ويصبح المرهون ملكا للمرهون عنده. والحال هنا معكوسة فحاجة الآخر عنده لكنه من يدفع الرهن له ليحرر المرهون، فجعلت المعنى أنه يدفع ليغلق الرهن.
**
أنشودة الجمال الذاوي
عَرَضًا سمعت الحسناء تشتكي،
من دعوناها زوج صانع الخوذات،
تتوق إلى زمن الصبا وتقول،
بلا زيادة أو نقصان:
أواه يا أرذل العمرِ
تزهو بعجزك
علامَ آذيتني بضرباتك؟
أمن أحد يأبه اليوم بكربي
أو يكترثُ عجوزًا بموتي؟
*
سلبتني أزهى قوّتي
رَفَعَتْني فوق القساوسة والمناصب
في ذروتي ما عصاني امرؤ
أو أبى منح ما يملك لي
ما ردُّ له ما عنه تخلّى
وإنْ بكى واشتكى وصار إلى-
ما يأنف الشحّاذُ اليوم فعله.
*
كم رجلا حرمتُ حبي!
وماكرٌ أحببتُ بحُمقي
وهبتُ له كلَّ مِلكي
تمنّعت عنه وأنا راغبة
ما أظهر لي غير قسوته
وما أحبني إلا لما عندي.
*
لو جرني في الطين وداسني
ليس في قلبي إلا حبّه
لو كسّر ضلعي وأساء لي
وعاد قبلةً يسألني
لنسيتُ كلَّ آلامي
جشعٌ ملؤه ما يريد
عانقي وافترشني
وفي أي حالٍ خلّفني؟
في عاري وإثمي.
*
مَيْتٌ هو وعشتُ ثلاثين عاما
وهأنذا عجوزا وَخَطَني الشيبُ
أفكر في خالي الأيامِ بدمعٍ
ما كُنت وما صرتُ إليه
أبصرُ جسدي حالَ يبابا
لا أرى إلا ما ذوى
جفاف وفقر وشقوق وانكماش
أكاد أجنُّ من حنقي على نفسي.
*
أين اختفى الحاجب المزجج،
والرمش المقوس، والشعر الذهب،
وداعج العين ببهي النظرات
تسلبُ بطرفها لبَّ العقلاء
والأنفُ ذو الجمال والتناسق
وشهيُّ الأذنين الصغيرتين
وذاك الذقن والشفتان الحمراوان؟
*
أين الأكتاف الرهيفة،
والذراعان الطويلتان عليهما يدان دقيقتان
ومستدقُّ النهدين والوركان المترفان
مكورّان مكتنزان إذا دارا
انبرى لهما الحب في سباق
والكشحان العريضان مستقرُّ الشعرِ
وفخذان لاحمتان ليّنتان
تكتنزان جنَّةً غنّاء؟
*
تغضنت اليوم جبهتي وابيضّ شعري
خفَّ رمشي وغاضت عيناي
بعد الضحكِ واللألأة حيث ولّتا
يلّفان الصرعى بالنظرات
تخلّى عن الأنف الجمال
ذوت الأذنان وكطحلبٍ تدلّتا
شحب الوجه واسودّ وغار
تخدد الذقن ويبست الشفتان.
*
هذي نهاية جمال الإنسان
ذراعان ذابلتان
ويدان وكعاوان1 كالأقدام
وكتفان بلا استقامة محدودبتان
والنهدان؟ آه منهما منكمشان
كذا حال الردفين والحلمتين
عشٌ صغيرٌ، وانظر إلى الفخذين
ليسا بفخذين، عظمان لا لحم يكسوهما،
ملطّختان مثل نقانق وجافتان.
*
نندبُ بأسى ذاك الزمان
بيننا عجائز حمقاوات
يقعين على الأوراك
مثل لفّات الصوف متجمعات
ينسى الناس أنهم كنارٍ
توقدُ سريعا وسريعا تزول
حسانا كنا جميعا ذات يوم
مآلنا هذا جميعا ذات يوم.
1- الوكع: ميل إبهام القدم إلى الداخل على الأصابع حتى يبرز من القدم أصله.