
الواثق واحدة من الروايات القوطية الشهيرة في الأدب الأوروبي، والمستلهمة من حكايات ألف ليلة وليلة وسحر الشرق الذي داعب المخيال الأوروبي ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتركَ تأثيره على لفيف من الأدباء منذ ترجمة أنطوان غالان الفرنسي لحكايات ألف ليلة وليلة ما بين 1702-1717 وحتى عصر بورخيس. كان الإنجليزي وليم بيكفورد (1760-1844)، المنحدر من عائلة مالكة لحقول سكر وعبيد في جامايكا، أحد أولئك الأدباء الأوربيين الذين مسَّت شغاف قلوبهم حكايات شهرزاد وتنامى خيالهم عن الشرق وازدهر، والشرق كما ظهر في الرواية يغطي مساحة شاسعة من البلاد واللغات والثقافات تبدأ من المغرب وتنتهي إلى ما وراء الهند. عاش وليم بيكفورد حياة متنقّلة مضطربة شابتها فضيحة علاقته بغلام، ومع أنها لم تثبت عليه فقد استغلّها مناوئوه في التشهير به لا سيما مع طموحاته السياسية في لندن، وجعلته يترك البلاد ويعيش في أوروبا. كانت باريس إحدى محطّاته حيث بدأ كتابة رواية الواثق بالفرنسية سنة 1782، وأكملها بعد سنتين أو ثلاث. أولى بيكفورد مهمة ترجمة روايته إلى الإنجليزية لصمويل هينلي، وترجمها الأخير بإشراف من بيكفورد، لذا فإن النسخة الإنجليزية المعتمدة من الرواية مصرّح بها من الكاتب نفسه. غير أن صمويل هينلي، كما هو ذائع، نشر رواية الواثق بنسختها الإنجليزية سنة 1786 في لندن بإيحاء أنها ترجمة لحكاية عربية إذ لم يذكر فيها اسم بيكفورد، وكان نشرها بقرار شخصي منه ينافي رغبة بيكفورد، فاضطره إلى نشر النسخة الفرنسية بعد سنة في 1787 في فرنسا. ظهرت خمس نسخ من الرواية في أوروبا في حياة بيكفورد بعد الطبعة الأولى بين سني 1823-1836، وثلاث نسخ في أمريكا بين سني 1816-1834. زّود بيكفورد روايته بملاحظات وشروحات توضيحية لبعض ألفاظها وأحداثها التي تشير إلى الثقافة الشرقية والإسلامية، ولا يعرفها حينئذ -بعضها حتى اليوم- إلا الدارسون للثقافات الشرقية، وإنْ كانت بعض هذه الملاحظات غير دقيقة في فحواها، وناجمة عن قصور معرفيّ من كاتبها أو معلومات مغلوطة من مصادرها.
تسرد الرواية حكاية بطلها الخليفة العباسي الواثق، تاسع خلفاء بني العباس، وما من شبه بين الاثنين سوى الاسم فقط، ورحلته إلى قصر النار حيث عاش إبليس وامتلك كنوز الدنيا ومفاتيح السلطة الأبدية. امتاز الواثق، ذو النظرات الرهيبة المهلكة، بأنه طاغية متجبر جشع تواق للمعرفة، ليس لطموحه حد ولا يمنعه عما يريد حاجز أو حرمة، ولا يردعه حرام أو موعظة، وتسيطر عليه رغبة حيازة الملك المطلق والسلطان. تعينه على شروره ونوازع نفسه الجشعة والطمّاعة أمه الساحرة كاراذيس اليونانية. تقدّم الحكاية جوا من السوداوية والشرور والظلام ذا الطابع القوطيّ، الذي اشتهرت به الرواية القوطية، وهو ممزوج في عالمٍ شرقيّ بسامراء، نسيجُه حكايات ألف ليلة وليلة وأبطالها، فقوطيّتها شرقيّة، وملامحها عربيّة، وأجواؤها إسلاميّة، يأتي ذلك في قالب محاكاة لا أصالة، وشبيه لا أصيل، واقتراب من تصوير الشرق من دون تصوير الشرق نفسه، بل هو الصورة المتخيّلة عنه، فبيئة الرواية وجوّها العام ظلُّ حقيقة بملامح مشوّهة. استمّد بيكفورد ملامح عالمه من الثقافة الشرقيّة بعامة على خط زماني متواصل فيخلط الفارسي بالعربي والهندي بالعثماني والقديم بالجديد والغابر بالتليد، وأدخلَ عليها عناصر من ثقافات أوروبية، يونانية وإسكندنافيّة، فيجتمع الخِصيان والأقزام، والشافعي والحريم (العثماني)، والبراهمة الهنود والصوفيّة المسلمون، وغير ذلك. إنّه مزيجٌ عَكِر من العالم الآخر في عين الأوروبيّ في القرون السابقة، بنكهة الطابع العربي وتعاليم الإسلام، وحضور عناصر غرائبية وهزلية ومحاكاة ساخرة، سواء لحكايات ألف ليلة وليلة أو للثقافة الإسلامية عامة. برز هذا الخليط العجيب في أسماء الشخصيات ونظام اشتقاق الأسماء الصوتي وبعض الألفاظ المغلوطة وإدراج معلومات لإبراز المعرفة بالشيء دون أن يكون وجودها ذا أصالة تفرضها بنية الحكاية وأحداثها، والواثق بالحقّ حكاية أكثر منها رواية، ولربما تصلح مع بعض التعديلات أن تكون سيناريو فيلم رسوم متحركة أو حكاية مصوّرة موجّهة للأطفال البالغين.
تبدأ الحكاية بذكر حياة الواثق في سامراء وشخصه وما امتاز به من خِلال وصفات، وذكرنا أنه طاغية متجبّر لكنه أيضًا ذو ملذّات وشهوات فابتنى له خمسة قصور بسامراء، ومثّل كلّ قصر حاسة من الحواس الخمس، وهي: قصر المائدة الدائمة: للطعام والشراب. وقصر بهجة العين: لنوادر المصنوعات والصور. وقصر العطور: للعطور الذكية والروائح الطيبة. وقصر معبد الطرب: للموسيقا والمسيقاريّين وللشعراء المُنشدين. وقصر ملاذ المرح: للمتع الحسيّة. تُنبئنا هذه القصور عن نمط الحياة الذي اختاره هذا الخليفة، وعن ملاحقته الملذّات الحسيّة لا سيما أنه كان نهما للطعام والشراب. أما أهواء نفسه فتمثّلت بطلبه المحال والعجيب فابتنى لأمه برجا عاليا، مثل برج بابل، جمعت فيه آلة السحر وأدواتها وعبيدها وجواريها. في أثناء بناء البرج يظهر النبي محمد في السماء السابعة يراقبه، وأمر مساعده الجني أن إذا بنى عمّال الواثق طابقا من البرج في النهار أن يبني الجني طابقين في الليل، حتى تمَّ له بناء البرج سريعا. وما نشخصه بظهور النبي، أنَّ النبي هنا، إنْ جاز لنا الوصف، شخصية سردية وليست حقيقية، وهي تمثّل تصوّر النبي في المخيال الأوروبي، مخيال بيكفورد، شخصية تحاكي النبي محمد لكن بسماتٍ يسوعيّة وليست شخصية النبي الحقيقيّة، فالتعامل معها هنا يندرج في تلقّي السرد وشخصياته لا الحقيقة الدينية للنبي صلى الله عليه وسلم. إنّ شخصية النبي محمد في حكاية الواثق تعكس شخصية يسوع الناصريّ في المخيال الديني الأوروبي، فهو في السماء وله جنيّ يأتمر بأمره، وهو أشبه بإله وإنْ لم يكن إلها، مع غيابٍ تامٍ للإله “الله” في هذا العالم السماوي، فالنبي محمد هو المسؤول عن متابعة أعماله الخلفاء من سلالته، وهو الذي يمتحنهم في أعمالهم الدنيوية، وهو الذي يجازيهم ويعاقبهم على أفعالهم. في الطرف الآخر فإن سعي الواثق إلى كنوز الدنيا وطلاسم السلطة المطلقة عند إبليس في قصر النار لا يكون إلا بشرط ديني واحدٍ، ما عدا الشروط الدنيوية، تمثّل بالكفر بالنبي محمد. إنْ الكفر بالنبي محمد هو ما يقود الواثق إلى وجهته ويدخله على إبليس، ومن دون الكفر بالنبي محمد وتعاليمه فإنّ الواثق عاجز عن بلوغ الغاية. يركّز بيكفورد على شرط الكفر بالنبي محمد فنراه في الخطوة ما قبل الأخيرة حين يهمُّ رسول إبليس إلى الواثق، واسمه كافر الهندي، بتدوير المفتاح في بوابة قصر النار نسمعه يقول: “على الرغم من محمد وآله أجمعين. سأكون دليلك في القصر الذي بجّلتَه وأجللتَه”. غير أنه في الحين نفسه يُسبل عليه رأفة ورحمة بخلفائه فحين يطلب منه معاونه الجنيّ أن يرسله إلى الواثق محذرا ومنذرا قبيل دخول قصر إبليس فيجيب طلبه ويبعث به إلى موكب الواثق في إصطخر حيث القصر. يحذّره الجني وينذره بأنه يطلب الهلاك والعقاب الأبدي وأنه ما زال على سعة من الأمر حتى يرعوي في أمره ويعود أدراجه ويتوب عن كفره وشرور أعماله، تومض في نفس الواثق ومضة رشاد وتوبة ومحاسبة للنفس لكن تغلب عليه شقوته ويردُّ المُنذرَ الرحيم شرَّ ردٍ ويكتب على نفسه الهلكة التي لا نجاة بعدها.
أمرَ الواثق حرّاس سامراء وأهلها ألا يدخل عليهم غريب المدينة إلا جاءوا به إليه، فدخل المدينة تاجر غريب فأتى الجند به الخليفة وكان غريب الهيئة والشكل، أسود حالك البشرة، مخيف الوجه حتى إن الخليفة خافه. أخرج التاجر للخليفة عجائب المصنوعات مع كلّ مصنوع بطاقة تعريف، منها نعال تمشي بالمنتعل، وسكاكين تقطع من دون حركة اليد، وسيوف مطعمة بالجواهر تضرب من يشاء حاملها ضربه، فأعجب الواثق بها وشرع في سؤال التاجر غير أنه ما أحار جوابا، وما أبان عن فهم لكلام الواثق حتى غضب منه وأمرَ بحبسه. غير أن التاجر يختفي في تلك الليلة في حبسه ويموت الحرّاس وحين يكتشف الواثق ذلك يُغمى عليه في السجن، ثم بعد استيقاظه تتغير أحواله وتضطرب نفسه حتى تظنّه حاشيته قد جُنَّ، فتعاف نفسه الطعام ويُصاب بعطش لا يروى ويهجر النساء وكل الملذات حتى إن قصوره الخمسة غُلقت. بقي الخليفة على ذاك المصاب حتى نصحته أمه كاراذيس المشعوذة والمضطلعة بعلم التنجيم والفلك وقراءة الطالع بأن يبحث في مصنوعات التاجر فلا ريب أن علّته بسببها. كان منقوشا على السيوف، التي حصل عليها الواثق من التاجر، بلغة أعجمية لا يجيدها أحد في بلاطه، فطلبَ من وزيره مغربيباد أن يبعث المنادين في شوارع سامراء وسائر مدن خلافته بمن يجيد فكّ طلاسم هذه النقوش ويقرأها. جاءه ذات يوم شيخ وقرأ النقوش على السيف، لكنها كانت تتبدّل كلَّ يوم، ولم ينتفع الواثق منها بشيء، وبقي مصابا حتى خرجَ ذات يوم مع أهله وحاشيته وخدمه إلى بساتين غنّاء قريبة من سامراء، عامرة بالأشجار والثمار والنبات والأزهار، وفيها نبع ماء عذب، عند ذاك ظهر له التاجر مرّة أخرى وأعطاه ترياقا شفى الواثق من علّته ورجع معه إلى المدينة.
كان أول كلمة ينطق بها الواثق عند رؤية التاجر الهندي أن صاح به “أيها الكافر الملعون”، وبقي لفظ كافر اسما تعرَّف به هذه الشخصية في الحكاية ويشار به إليها. لكن لنا وقفتان مع هذا الاسم، فهو يبيّن أكثر مما يقول صراحة. استخدم بيكفورد لفظ Giaour، وهو لفظ إنجليزي يعني كافر (يُنطق جَاور، وهو نطق قريب من كافر)، جاء من اللفظة العثمانية gâvur، وانتقلت إلى الإنجليزية في القرن السادس عشر، وهي حقبة الاحتكاك ما بين أوروبا والعالم الإسلامي العثمانيّ1. نلحظ هنا المفارقة التاريخية، أو العبث السرديّ في الحكاية والمزيج العكر بين الأزمنة والثقافات واللغات وألفاظها، كما هي الحال باستعمال اسم ديلارا Dilara لزوجة الواثق وهو اسم عثماني من الفارسيّة يعني زينة القلب، وفي ذات سياق الخلط الثقافي ذكر ورد التوليب وهو ورد لم يعرفه العرب بهذا الاسم ولم يرد في كتبهم أنه عرفوه، إنما اشتُهر عند العثمانيين في القرن السابع عشر وانتقل منهم إلى أوروبا. أما الوقفة الثانية ولا تخرج عن حيّز اللغة فهي في نظام الاشتقاق الصوتي للأسماء في الحكاية، فوزير الواثق يُدعى مغربيباد Morakanabad، وهذا الاسم غالبا محاكاة لاسم سندباد وحسبَ بيكفورد أن باد لاحقة تُضاف إلى آخر الاسم، كما الحال مع اسم المهتدِدين Al Mouhateddin الذي هو جمع ما بين المهتدي ودين، على غرار بهاء الدين ونور الدين، ولعلّه حاكى به اسم علاء الدين. ونقحرَ اسم “نورُ النهار” في حال الرفع إلى Nouronihar وبقي الاسم بالإعراب المرفوع صيغة ثابتة للاسم في كلّ أحواله الإعرابية. أما اسم گلچين، وهو اسم فعل يعني قاطف الورد بالفارسية ويستعمل أحيانا اسم علم أنثوي، فصاغه گلچينروز، فجاء بنصف فارسي ونصف إنجليزي Gulchenrouz، واستعلمه مع شخصية ذكر وإنْ كانت الإشارة واضحة إلى تخنُّثه وسلوكه الأنثويّ. وصاغ أسماء أخرى بدت غير مفهومة الأصل، أو هي من بُنيّات خيالاته الصوتية عن العربية مثل رئيس خصيان الواثق بابابالوك Bababalouk، والجَمَل ألبوفاكي Alboufaki. لكنه اجتهد وأخطأ في نقحرة بعض الألفاظ والعبارات فكتب لا إله إلا الله- لا إله إيليا أليا La Ilah ilia Alia، وكتب إيمان على أنها إمام، فنقرأ: شرع الإيمان (الأئمة) في صلاتهم Imans began to recite their prayer. وفي ملاحظات الحكاية يكتب معرّفا الإمام، “An iman is the principal priest of a mosque. It was the office of the imans to precede the bier, praying as the procession moved on. Relig. Cerem. vol. VII. p. 117″ أي “إيمان هو القس الموكل بمسجدٍ، ووظيفة الإيمانيين (الأئمة) تقدّم الناس في صلاة الجنازة في أثناء أدائها”. وهو تعريف صحيح غير أن النقحرة خاطئة. لم يقتصر الخطأ هنا فقد ذكر الجسر المُهلك The Fatal Bridge، وأراد به الصراط على ظهراني جهنم، ويكتب في الملاحظات أنه يُدعى Al Siral السِرال.
رجعَ الواثق بكافر الهندي معه إلى القصر فأكرمَ ضيافته غير أن الخلاف دبّ سريعا بينهما لسوء أدب كافر في حضرة الخليفة، ولما هجم عليه تحوّل كافر إلى كرة كبيرة، وأخذَ الخليفة وحاشيته يلاحقونها في البلاط وحجرات القصر ثم شوارع المدينة، في فانتازيا هزلية ومحاكاة ساخرة للشخصيات الساحرة التي تتحول من مخلوق إلى آخر في حكايات ألف ليلة وليلة، حتى اختفى في وادٍ قريب من المدينة. لزمَ الواثق طرف الوادي وأقام عنده وأمرَ خدمه والناس بالبحث عن الكرة، كافر، حتى لا تضيع في الوادي. لم تُسفر محاولاته في البحث عن شيء، حتى اهتزّت الأرض ذات ليلة تحت أقدام الواثق وناداه صوت كافر يعده ببلوغ قصر النار حيث طلاسم الملك سليمان التي يحكم من يحوزها الدنيا، والكنوز العظيمة، والمعرفة المطلقة. وما كان لهذه الوعود بالسلطان والثراء والمعرفة أن تلقى أذنا صاغية لولا جشع الواثق ورغبته في حيازة كلّ ذلك، لكن شرط كافر الذي ظهر وخلّفه بوابة سوداء هو أن يكفر الواثق بمحمد ويتنكر لتعاليم دينه، فكفرَ الواثق، ولما طلبَ الدخول قال له لن تدخل حتى تأتيني بقربان من خمسين فتى من أحسن أبناء وزرائك وسادة مدينتك، فوعده الواثق بذلك. ثم احتال الخليفة حيلته على أهل بلاطه ومدينته فأقام مسابقة واختار خمسين طفلا ألقاهم في الوادي، غير أن كافر أخلف وعده واختفى، وهاج أهل المدينة عليه بعد أن علموا بفعلته النكراء، فآوى إلى برجه معه أمه. عملت أمه كاراذيس بشعوذتها وسحرها أن القصرَ في مدينة إصطخر، وأن على الواثق أن يقصده في موكب عظيم من نسائه وخصيانه حاشيته وألا ينزل في منزلٍ حتى يبلغ وجهته. انطلقَ الواثق بموكبه في رحلة إلى قصر النار، حيث كلُّ ما أراده وتمنّاه وقاده إليه جشعه وكفره وطغيانه، غير أن الرحلة ما كانت يسيرة بل دربها وعر وكلُّها مشاقٌ ومتاعب، وانحرفت عن مسارها وبلغَ فيها الواثق قصر الأمير فخر الدين. عند هذه النقطة تستطرد الحكاية بحلقة جديدة تُحاكي حكايات ألف ليلة وليلة التقليدية حيث تظهر الغادة الحسناء نور النهار ابنة فخر الدين وحبّها لابن عمها گلچينروز، ويهوى الواثق نور النهار حين يعلم بها ويلتقيها، ويقع الواثق في نفسها موقعا حسنا فتميل إليه. لما علم فخر الدين بذلك أراد التفريق بينهما لا سيما بعد أن خطبها إليه الواثق فرفض ذلك معللا بأنه وأخوه علي حسن تعاهدا أن يتزوج ابن أحدهم ابنة الآخر فكانت في حكم المخطوبة ولا يسعه فسخ الخطبة. أدركَ الأمير بأن رفضه سيستنزل عليه غضب الخليفة فاحتال حيلة بأنّ سقى العاشقين الصغيرين شرابا مخدّرا، وأرسلهما برفقة معلمها شعبان والخادم سطليميمي وأربعة خصيان إلى كهف قريب من القصر ومؤونة شهر، من أجل يُوهمَ الاثنين أنهما ميتان وعلى الرفقة إقناعهما بهذا. أذيع في القصر خبر وفاتهما فحزن عليهما الجميع وبكوا، وأقيمت جنازة وهمية وأديت عليهما الصلاة ورفعت لهما الدعوات، وادّعى فخر الدين أنهما دفنا في قبر بكهف حتى ينسى الخليفة ابنته وينصرف عن خطبتها. غير أن ما لم يفطن إليه فخر الدين هو أنّ الواثق قد عشق نور النهار عشقا ملك عليه قلبه فأحبّها حبا جما وشرع يزور قبرها كلّ يوم ويبكي عنده، حتى إنه قرر النزول عن كلّ شيء ويصبح ناسكا يتعبّد عند قبرها ويتوب عن كلّ آثامه. في الطرف الآخر بقيت نور النهار في المكان الذي أخذت إليه مع ابن عمها غير مرتاحة وتتجول فيه ويخامرها شكٌّ في كلِّ ما حولها، حتى خرجت ذات يوم وصدف أن بلغت موضعا كان عنده الواثق والتمَّ شملهما بعد أن فُرّق بينهما، فتزوّجها الخليفة وأخذ يستمتع معها بملذات العاشقين، رغم أنف أبيها الرافض والخائف من الخليفة. رأت السلطانة ديلارا، زوجة الواثق، بأنّ الخليفة انحرف عن مسار رحلته وما خرجَ في طلبه فخلد إلى الراحة والدعة والمتعة مع نور النهار، وكانت تُمنّي النفس هي أيضًا بالكنوز والسلطة بعد الوصول، فأرسلت إلى أمه كاراذيس تعلمها بحال ابنها، فغضبت منه وركبت جملها ألبوفاكي وأقبلت عليه. حين وصلت إلى ابنها أنكرت عليه وأمرته بإكمال المسير إلى مدينة إصطخر وبلوغ قصر النار، وهي الأخرى ترغب في نيل ما في القصر من قوى وسلطة. وجعلت نور النهار بعد أن سمعت ذلك تحضّ الواثق على المسير ومرافقته، وتؤمّل نفسها بالسلطان فتخيّلت نفسها بلقيس على عرشها والجن والعفاريت ساجدون لها.
يبلغ الواثق ونور النهار قصرَ النار فيستقبلهما كافر الهندي ويفتح لهما بوابة القصر العظيم، فأعجبهما مرآه العجيب، فدخلاه يتقدّمهما كافر الهندي ويرشدهما في مجازاته وحجراته ورأيا أناسا كثرا في حالٍ من الانشغال بالنفس لا يألون على شيء، فسأل عنهم الواثق فأجاب كافر الهندي بأنه سيعرف الجواب قريبا ويصبح مثلهم ولم يفطن الواثق للمآل. تقدّم الثلاثة حتى بلغوا حضرة إبليس فسجد له من رهبته الواثق، غير أن نور النهار رفضت ذلك إذ ظنّته سيكون عملاقا من العمالقة مهيبا لا ذاك الشخص بالقوام الشبيه بالبشر والسمات الوديعة. ثم أخذهما كافر الهندي بعد ذلك إلى حيث يرقد سليمان وطلاسمه، فلم ينل الواثق ما يريد بل اكتشف في آخر المطاف أن دخوله القصر جلب عليه العذاب الأبدي، وأن كل الكنوز بطن الأرض لن تنفعه في شيء، ولن يخرج من القصر، وأن قلبه سيشتعل نارا بين ضلوعه أبد الأبدين مثله كمثل سكان القصر الذين قادهم الجشع والطمع وانتهاك الحرمات إلى قصر النار، وصاروا عُبَّاد إبليس وأتباعه. ندم الواثق على ما رغب وأراد وسعيه إلى الطلاسم والكنوز، لكن ولات حين مندم، فقد سبق السيف العذل ووقع المحظور وسيطَ سوط عذاب. ظلب الواثق حينئذ قبل أن ينزل به العذاب من عفريت أن يأتيه بأمه فجاءه بها، ونالها العذاب أيضًا فأخذت تولول وتتندم وتتحسّر لكن هيهات لها النجاة بعد دخول قصر النار. يقول الراوي عن أحوالهم: “في الحال خسروا هبة السماء الثمينة: الأمل”. تنافرَ الواثق ونور النهار وأمه وكره كلٌّ رفيقه ليصبحوا الأخلّاء المتنافرين والأحباء المتباغضين كما في الآية “الأخلاء بعضهم لبعض عدوٍ إلا المتقين”. تقوم فكرة العذاب في قصر إبليس على المفهوم القرآني للصحبة والمحبة، فكلُّ صحبة ومحبةٍ ليست في الخير ستكون وبالا على صاحبها، وكلُّ صاحبين وحبيبن لا يجمعها الصلاح والتقوى ويتبعان شهوات النفس وأهواءها، ويمضون في درب الشيطان، فإن مصيرهما النفور والمعاداة والمعاناة الأبدية في النار.
1- اشتهر لفظ كافر مع قصيدة الكافر للورد بايرون وهي عن العلاقة ما بين الشرق والغرب واختلاف عاداته. أحبّ الكافر التركية ليلى إحدى حريم الحاكم حسن باشا فقتلها حسن فانتقم منه الكافر وقتله، غير أن الثأر لم يكن كافيا ليزيل عن نفسه ما أصابها.