التراث العالمي

حكاية تريستان وإيزولت

يبقى الحبّ واحدا من أعظم التجارب البشريّة، وقد يفوتُ المرءَ عيشُ تجارب تقرّبه من ذاته من دون أن تكون عائقا في معرفته نفسه، إلا الحبّ فألا يحبّ يعني أنه أضاع معرفة نفسه التي لا تُعرف إلا بالحب. ليس في ذلك تهوين من التجارب الحياتية والشعوريّة، غير أن الحب يرقى بالنفس لأنه يجرّد المرء من الأثرة وتفضيل الذات ويعلّمه الإيثار وتقديم الآخر. ولأن الحب، في هذا المقام، هو حب الآخر، ذكرا أو أنثى، يجمع النقيضين المتجاذبين، فتجربته لا تقتصر على الذات بل تشمل الآخر، هو الامتزاج الروحانيّ والالتقاء الجسدي، هو تقريب البعيد وانضمام الاثنين في الواحد، الاتحاد الأبديّ الذي لا تنفكُّ عراه ولا تتحلحل أواصره حين يكون صادقا متبادلا. الحب سجنٌ. الحب حرية. الحب سعادة. الحب شقاء. فيه كلُّ المتناقضات، لأجل ذلك أجلَّ الناس، كلُّ الناس، الحبَّ ونظروا إليه بعين التوقير والرغبة في الشرب من كأسه، وتركت حكايات العشّاق وأخبارهم أثارها في الأمم، شاع بعضها في أمته وانتشر بعضها ليكون تراثا إنسانيّا جامعا، فالحب لغة يتكلمها الناس ويفهمونها من دون أبجدية مشتركة. الحب شعور. الحب التقاء. الحب يكسر كلّ الحدود. الحبّ تقيّده الظروف. تريستان وإيزولت حكاية حبيبين شاعت في أوروبا القرون الوسطى، نُسجت أخبار العاشقين من الأساطير السلتيّة، لم توجد مخطوطة أصل لهذه الحكاية لكن ذاع صيتها واحتضتنها أقلام الأدباء والشعراء ليعيدوا روايتها وقصّها شعرا ونثرا، فزاد من صيتها واشتهارها. تروي الحكاية خبر تريستان الفارس الهمام، وبطل مملكة كونوال، الذي قاده قدره إلى إيزولت أميرة أيرلندا لخطبتها على خاله الملك مارك. في طريق العودة شرب الاثنان من شراب الحبّ، الذي أعدّته أم إيزولت لابنتها والملك مارك، كان عمل هذا الشراب أن يجعل العروسين يحبان بعضًا حبًا جمًا حتى آخر الحياة، ولن يُنزع من نفسيهما بأي شيء وفي أي ظرف. عند ذاك عُلّمت بداية المأساة إذ تولّد الحبُّ بينهما، وصار تريستان في صراع بين حبّه لإيزولت وولائه لملكه وخاله مارك، وقاست إيزولت الأمرّين بحبها لتريستان وصيانة شرفها وزواجها بمارك. ما بين الحبّ وبين العُرف والواجب اشتدَّ بؤس حياتهما وشقائهما المشترك. انتهى الحبُّ العفيف بين العاشقين نهاية حزينة إذ مات تريستان ولحقت به إيزولت إلى الصرح السماويّ المشرق دائما، الذي وعدها به ساعة أظهر جنونه، ليعيشا معا حياة أبديّة حُرما منها في الدنيا الفانية. كأنَّ كمال الحبّ ألا يكتمل، وجماله في ألا ينتهي جميلا، ولعلَّ أسطوريّة الحبّ في مأساته ولا اكتماله، فالعاشق المحزون كثيرُ الشكوى والنجوى واللهفة والشوق، والعاشق السعيد ضائع في ملذّات محبوبته ليس لديه ما يقوله سوى السكوت عن سعادته.

لا تكاد تخلو أمة من الأمم من قصص شبيهة، وقصص العشّاق العرب في تراثنا كثيرة جدا، ولا تفرق عن حكاية تريستان سوى أنّها لم تشتهر وتتحوّل إلى أسطورة تتداولها أقلام الكتّاب أو فرشات الرسامين أو تأليفات الموسيقاريين كما الحال مع تريستان وإيزولت. كتب الألماني غوتفريد قصيدة رومانس عن تريستان في نحو عشرين ألف بيت لم تكتمل إذ وافته المنية نحو عام 1210م، غير أن القصيدة منشورة مشهورة. وحولها الموسيقار فاغنر إلى مقطوعة موسيقية، وهو المعروف في الاستقاء من أساطير أوروبا لا سيما بدراماه الموسيقية خاتم النبيلونغ. وهذه النسخة من الحكاية من عمل الفرنسي جوزيف بيدي اعتمد في روايتها على المصادر الفرنسية للحكاية وأقرّها المجمع الفرنسي.  وظهرت الحكاية أيضا في أعمال سينمائية. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى