روايات

Miss lonelyhearts

ناثانيل ويست

تجرفنا بعض الأعمال بساحريتها حتى تمنعنا من كل شيء سوى قراءتها وقراءتها حتى ننهيها، ورواية Miss lonelyhearts واحدة من هذه الروايات المدهشة بروحانيتها والمذهلة بتعامل كاتبها مع قضايا كالألم والمعاناة والمأساة والعذابات الإنسانية، صاهرا إياها في قالب من الكوميديا السوداء والفلسفة والدين والسلوكيات الأخلاقية والمعاملات الإنسانية. 

ولد ناثانيل ويست في عام 1903 في نيويورك. عمل مديرا في فندق وكاتب سيناريو وروائيا كتب روايات ساخرة سوداوية. جمعته صداقة مع الروائي الأمريكي الشهير ف. سكوت فيتزجيرالد حتى وفاة الاثنين، ويُزعم أن سبب موت ناثانيل بحادثة سير مع زوجته في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1940، بعد يوم واحد من وفاة فيتزجيرالد- هو لقيادته السيارة بسرعة متأثرا بوفاة صديقه. على أي حال، فإن حياته القصيرة لم تكن حاجزا أو مانعا من الإبداع الأدبي والروائي، فكتب روايات من بينها روايتنا هذه. ورواية “Miss lonelyhearts” أشهر أعماله رغم قصرها. نشرت في عام 1933 في عصر الكساد الاقتصادي العظيم الذي استمر منذ عام 1929 حتى نهاية ثلاثينات القرن الماضي، ويبدو تأثير هذه الأزمة الاقتصادية وما تجره على حياة الأفراد من عواقب وخيمة- واضحا في الرواية وحبكتها وأسباب كتابتها، فالرواية ابنة عصرها ومرآة أزماته. عرفتُ هذه الرواية أول مرة وقرأت نبذة عنها وأنا أقرأ رواية “الرجل في المعقل العالي” للروائي الأمريكي فيليب ك. ديك، حين كان تتناقش شخصياته باول وبيتي كاسورا مع روبرت تشيلدان حول مغزى ناثانيل في روايته، المغزى الذي بدا عسيرا عن الفهم للياباني باول طالبا مساعدة الأمريكي روبرت تشيلدان. حظيتُ بالرواية بعدها وشرعت بقراءتها في يوم واحد فقد جذبني موضوعها منذ بدايتها وحتى نهايتها. 

بداية من العنوان الغريب الذي لا يُفسر ولا يفهم إلا بعد قراءة العمل ليتضح بعدها مغزاه. يشير العنوان إلى الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي Miss lonelyhearts، كاتب العمود في صحيفة post-dispatch، العمود الذي خُصص لإعطاء النصائح والإرشادات لكل أولئك الذين يعانون في حياتهم من مشاكل أو أمراض أو ظروف سيئة وقاهرة. يحاول Miss lonelyhearts الذي اتخذ الأمر في بادئ الأمر على نحو غير جدي بالكامل أن يساعدهم ويعمل في وسط ينظر إلى أعمدته الصحفية على أنها طُرف للضحك لا أكثر. يتلقى Miss lonelyhearts من قرّائه ومعجبيه رسائل يبثون فيها ما يمرون به أو يعانون منه، ويحاول Miss lonelyhearts أن يكتب أعمدة تكون ردًا على رسائلهم آملا أن يكون فيها خلاصهم أو طريق نجاتهم. وهنا يتضح عنوان الرواية ومعنى اسم الشخصية إذ يشير إلى إخفاقات أو مشاكل القلوب الوحيدة أي أولئك الذين يقاسون في هذه الحياة ويبحثون عن سبيل النجاة، وهناك ما يعرف بـ  A lonely hearts column والذي يشير إلى مشاكل الأفراد الشخصية. بدأت هذه المشاكل تتسلل إلى ذات Miss lonelyhearts وتُشعره بأنه ملزوم بإيجاد حلول لهم، حتى أصبح يعاني من عقدة المسيح (وهم المخلص والمنقذ للبشرية)، أو ما سماها “الإنسانية” فيلفي نفسه محكوما ومحوّطا بهذا الوهم بل الحقيقة الإيمانية التي اعتنقها، ولم تنجح محاولات أصدقائه وحبيبته وعشيقته (زوجة صديقه ومدير عمله) من شفائه منها، لتتفاقم بعدها حتى تمرضه وتجعله طريح الفراش إثر مرض نفسي أكثر مما هو بدني، مرض الإنسانية والمعاناة وغاية إنقاذ البشرية من آلامها. يقتنع بعدها بمحاولة خطيبته Betty للذهاب إلى الريف علّه يجد بين الأشجار والطبيعة وحيوانات البرية خلاصه، يجد راحة في الريف، لكنه كما وصف نفسه فقد كان مخادعا غاشا لنفسه، فهذه الراحة التي شعر بها هي خدعة شوشت عليه أفكاره وضللت على ذهنه مسعاه الذي ينوي إليه. لذا يستمر Miss lonelyhearts في تماهيه مع عقدة الإنسانية والسعي من أجل إنقاذ من يراسلونه، فيصل في النهاية وبعد عدة محطات مأساوية تارة وساخرة سوداوية تارة أخرى مع أصدقائه أو من التقى بهم ممن يراسلونه إلى مرحلة السلام الداخلي يصبح إيمانه بمعتقده الإنقاذي للبشر صخرةً، كما يسميه “الصخرة”، هذه الصخرة التي لا تتأثر بشيء، لا بمطر ولا ريح، ثابتة وراسخة، هي ما سعى خلفه وتصيّر في ذاته صخرة بكل جمودها وثقلها، ورمزا إلى يقينه التام من مهمته التي انتهت بالتوحد مع الله، والله هنا بالنسبة له هو المسيح، يتحول Miss lonelyhearts إلى مسيح عصره أو كما يسميه صديقه Shrike بـ “كل قساوسة القرن العشرين”، يتحدث باسم المسيح، وفمه فم المسيح، وكلاهما واحد، هذه التجلي الواضح للصوفية في نهاية الرواية، والمتمثل في أعلى مراتب التصوف المتطرف في التوحد مع “الإلهية العيسوية”، ينتهي نهاية مأساوية بالموت على يد أحد أولئك الذي يعانون وكان Miss lonelyhearts يسعى إلى إنقاذهم.

تطرح الرواية مسألة المعاناة وهل هي نتجية ذنب وخطيئة ما أو أنها بلا مسبب؟ تمثل المعاناة في أديان كثيرة نتيجة كأن تكون مطهّرًا للذنوب أو حساب أولي يكفّر عن الخطايا وكما يقول دوستويفسكي (تأثر Miss lonelyhearts بشخصية الأب زوسيما ويرد في الرواية مقطع من رواية الأخوة كارامازوف) في رواية الجريمة والعقاب: 

تقبّل المعاناة وكفّر من خلالها، هذا ما يجب عليك فعله. 

وغني عن الذكر ثيمة وموضوع المعاناة الإنسانية في روايات الروسي دوستويفسكي وما مثلت لها من سبيل إلى الذات البشرية وسبر غورها، لكن Miss lonelyhearts لا يبحث عن سبر غور النفس البشرية (وإن حاول تفسير بعض تصرفاتها بوصفه عدة الأشخاص أن سبيل بقاؤهم حيا هو سرد القصص وإعادتها لأنهم لا يملكون سواها) بل سبر غور المعاناة فحسب، وبمعرفته ذات المعاناة وأسبابها سيكمن السبيل الذي من خلال يكتب ويرشد أولئك الذين يقاسون في هذه الحياة. 

فما المعاناة؟ وما أسبابها؟ وهل حقًا نحن بحاجة لأن نعاني لأجل التكفير؟ وماذا عن أولئك الذي يعانون بلا سبب أو يولدون وهم يعانون من أمراض أو علل مزمنة؟ قضية كثيرا ما تطرح بقصور أو تستخدم مطية لتمرير غايات مادية أو دوافع إلحادية. يبقى الجواب منوطا بكل منا، بكل Miss lonelyhearts في داخلنا، وكما يقول Shrike: 

Everyman his own Miss lonelyhearts. 

تمتاز الرواية وعلى مدى فصولها بسخرية لاذعة، وكوميديا سوداء تجعل المواقف الجدية التي لا تقبل التهاون والعبث كالخيانة الزوجية والضرب للآخر مواقفَ مُضحكة، يتنزع منها قالبها اليقيني والجدي ويُلبسها قالب الشكية والتهكم الساخر كما حدث مع السيدة Shrike والسيدة Doyle، وتبقى بهذا الجو من الكوميديا السوداء حتى نهايتها، حين يركض Miss lonelyhearts نازلا باتجاه المعاق مناديا إياه وفاتحا ذراعيه إليه وهو يرى فيه كل المعانين الذي كانوا يكتبون إليه، فاقدا بصيرته بسذاجة وهمه في إنقاذ البشرية!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى