الأخوات برونتيروايات

صراع الأصوات السردية بين روايتي جين إير وبحر سارغاسو الواسع

قراءة في رواية بحر سارغاسو الواسع

لا بدَّ أن شارلوت تكنُّ ضغينة ما لجزر الهند الغربية، وكنت غاضبة بشأنه وإلا لمَ قادت تلك الهندية الغربية إلى ذلك الجنون الفظيع“.

إنَّ هذا التعليق الذي تقوله ريس يمثل مفتاحًا لفهم رؤيتها التي عادت من خلالها إلى رواية شارلوت برونتي “جين إير” لتستقرئها وترد الاعتبار الذي غاب عن بيرتا مايسون أو أنطوانيت كوسوي وفقا للتاريخ الحياتي الذي كتبته لشخصيتها، التي كانت على نحو ما نظيرة من نظائر جين ريس المولودة عام 1890 لأب ويلزي وأم خلاسية وسليلة أحد مالكي العبيد المُستعمرين في الجزيرة، التي لم تُلغَ العبودية فيها حتى عام 1834. عانت ريس في طفولتها من تشتت الهُوية والانتماء في جزيرة الدومينيكان، إحدى جزر الهند الغربية. وقد شابهت أنطوانيتُ/ بيرتا جينَ ريس في كونها من جاماكايا، إحدى جزر الهند الغربية، ومن عائلة كانت مالكة للعبيد، وذات بشرة بيضاء، مما جعلها وأمها من قبلها تقاسي رفض السكان المحليين وكراهيتهم. ليبدأ منذ وقت مبكر في حياة أنطوانيت/ بيرتا التمزق الهُوياتي وإحساس اللا انتماء الذي ضرب الشخصية والكاتبة على حد سواء واستمر معهما حتى وفاتهما.

الصرصور الأبيض يعبر بحر سارغاسو

ابتدأت معاناة جين ريس في حياتها في جزيرة الدومينيكان لكونها بيضاء البشرة مما سبب عرقلة انسجامها في المجتمع المحلي ورفضها إياه، ولُقِّبت في المدرسة بالصرصور الأبيض، اللقب الذي خلعته على شخصيتها أنطوانيت أيضًا. أدَّت معاناة جين هذه في الدومينيكان أن تصلي في صغرها لتصبح سوداء وفاقم سوء حالها علاقتُها غير المتوافقة مع أمها بسبب هذا الإرث الاستعماري الذي رأت أمها فيها منصفةً بإفراط مع مجتمعها المحلي مما ولَّد لديها إحساس اللا انتماء، وبعد انتقالها في عام 1907 بسن السادسة عشرة إلى إنجلترا فقد قاست أكثر ابتداءً مع خالتها التي انتقدت فيها عدم الإحساس الامتناني لفتاة مُستعْمَرة ثم الرفض الذي تعرض له في إنجلترا أثناء الدراسة الجامعية في كامبريدج حيث لُقِّبت بالزنجية وعيبَ عليها لكنتها مما اضطرها للكلام همسًا. انحدرت حياتها إلى فوضى مستمرة لم تفارقها حتى وفاتها في عام 1979. لكنها زاولت الكتابة في خضمِّ هذه الحياة العاصفة والمتقلبة والمشتتة والمُعلَّمة بالخروج الدائم من العلاقات الغرامية الفاشلة والشائبة بإدمان الكحول والشعور بالغربة والحنين إلى البلد الأم والزيجات الفاشلة والعلاقة السيئة مع ابنتها، ومن بين أعمالها التي رفعت من شأنها كانت رواية بحر سارغاسو الواسع الذي نُشرت في عام 1966 بعد غياب عن الأنظار والكتابة قرابة عقدين من الزمن؛ اُعتقدَ فيهما أنها تُوفيت لكنها ظهرت مجددًا وبقوة لتعيد بيرتا عبر بحر سارغاسو، الواقع في وسط شمال المحيط الأطلسي ولا بدَّ للمسافر الآتي من جزر الهند الغربية وإلى إنجلترا (أو العكس) أن يقطعه، إلى جامايكا في ردٍ على واحدة من أشهر كلاسيكات الرواية الإنجليزية، جين إير، لشارلوت برونتي.

إنَّ هذا الصراع الذي اشتعل فتيله مع شارلوت برونتي كان القاعدة التي انطلقت منها جين ريس لتكشف للقارئ ذلك الماضي وسيرة الحياة التي قاستها أنطوانيت/ بيرتا حتى وصلت إلى تلك النهاية الفظيعة التي اختارتها لها شارلوت برونتي في روايتها.

بيرتا مايسون – جين إير

إنَّ أول ظهور لبيرتا مايسون هو في رواية جين إير التي لا يعرف القارئ للرواية إلا القليل عنها والتي تتكشَّف هويتها تدريجيًا وعلى نحو متفرِّق. فقد وُصِفت في رواية جين إير بأنها خلاسية أصلها من جامايكا، تزوجها روتشيستر حسب روايته بسبب أبيه البخيل الذي نوى أن يحرمه من الإرث ويمنحه كله لأخيه الأكبر لكي لا يقسم ثروته، وكان له صديق في جزر الهند الغربية، مستر مايسون، ولديه ابنة سيزوجها ويمنحها ٣٠ ألف جنيه إسترليني، كانت كافية للابن وزواجه وتأمين حياته بعدها. هكذا تم الزواج الذي يرى روتشيستر فيه نفسه ضحية لأن الجميع شاركوا بخداعه وأخفوا عنه حقيقة تلك الأسرة ذات اللوثة العقلية المتوارثة والبنت ذات الطباع المخبولة التي سرعان ما اكتشف حقيقة جنونها وإدمانها الخمر إثر زواجه وتفاقمت خلال السنوات الأربع الأولى من زواجهما وعيشهما معا في جامايكا مما اضطره لحبسها هناك قبل أن يقرر العودة إلى لندن وحبسها في قصر ثورنفيلد والتكتم على أمرها. ليعيش في السنوات العشر التالية حياة متنقلة بين إنجلترا وإسكتلندا وأوروبا ويتقلب في علاقته مع السيدات حتى وصلت جين إلى قصر ثورنفيلد. لم يضع روتشيستر أي احتمالية أخرى في روايته لأسباب ما حدث سوى تلك التي ربطها بزوجته وطبيعتها المخبولة وتصرفاتها المشينة.

هكذا فقد كانت بيرتا حبيسة في علية قصر ثورنفيلد، وقال عنها روتشيستر بعد أن فُضح أمر زواجه منها بأنها مجنونة ومن أسرة مجانين في ثلاثة أجيال، وأمها مجنونة وسكيرة. تدرَّج ظهورها في الرواية منذ مهاجمة غامضة على ريتشارد مايسون، أخيها غير الشقيق، وبعض الصرخات القوية التي سُمعت في القصر كما تذكر جين إير، ساردة الرواية. ثم تأكد وجودها بظهور غريب لها قبل الزواج المزمع عقده بين جين وروتشيستر حين تراءت لجين في غرفتها قبيل طلوع الصبح، وكان وصف جين لها فظيعا وبشعا، ومزق ذلك الشبح المخيف خمار عرسها، لكن روتشيستر حاول تكذيب ما حصل ووعزه إلى تخاريف ومخاوف وكوابيس وأن لا بد التي فعلتها كانت إحدى الخادمات.

*

لم يكن لبيرتا صوتا سرديا في رواية جين إير، فلم تمنحها شارلوت أي فرصة للدفاع عن نفسها، أو تمكنها من إسماع صوتها، وبقيت في كل مراحل الرواية مقصيّة ومهمَّشة وليس لها أي صوت، في الوقت الذي كان لغريمها، روتشيستر، المساحة الكاملة لحكي ما حدث له مع زوجته وإلقاء اللائمة عليها وحدها. وصوِّرت بيرتا في حالة أقرب ما تكون إلى الهمجية وجُنَّت فاقدة عقلها ومحاولةً الانتقام من زوجها روتشيستر دون أن تفسح شارلوت المجالَ لبيرتا الرد على روتشيستر الذي اكتفت بشهادته عنها. كان مصير بيرتا هو الانتحار وإحراق قصر ثورنفيلد قبل ذلك، فهي تبقى في الرواية مجنونة محبوسة ومهمشة وتعامل مثل حيوان أو أقل، بل وتكون نهايتها هي بداية سعادة جين بزواجها روتشيستر التي كانت بيرتا عائقا أمامه لكونها زوجته التي حبسها في بيته مخفيًا إياها عن الأبصار والأسماع.  فحينما كانت تتّرقي فيه حياة وذات جين إير كانت بيرتا تنحدر حياةً وذاتًا لتصل في النهاية إلى القدر المحتوم، القدر الذي كان أشبه بوصفة تكميلية تجميلية داخل العمل وأحداثه دون أن يكون له وزن أو قدر فلم يؤبه لها في النص، ولم تظهر إلا لإكمال الصورة الشيطانية العنيفة التي رُسمت لها وحبست فيها. لقد سلب روتشيستر بيرتا من حياتها وأتى بها إلى لندن آخذا ثروتها ومسيئا معاملتها وحابسا إياها في الأخير لتعيش غربة مضاعفة تنتهي بالانحدار إلى الجنون التام والبهيمية وأخيرا الموت. وفي الوقت الذي سلبها روتشيستر كل شيء فقد سلبتها شارلوت صوتها السردي وتركتها حبيسة الصفحات حتى حررتها جين ريس.

صراع الأصوات السردية

لم تُرد جين ريس الدفاع عن أنطوانيت/ بيرتا أو إدوارد روتشيستر بل ما فعلته هو إفساح المجال لكليهما في تولي مهمة سرد القصة، قصتهما، دون أن يكون لها رأي خاص أو نظرة متحيِّزة تجاه أي من الاثنين، وتُرك الأمر للقارئ لمعرفة القصة ومن فيهما الجاني أو الضحية، وهنا يكمن الرد على رواية شارلوت التي سلبت صوت بيرتا السردي ومنحته روتشيستر الفرصة وحده ليتكلم ويكيل التهم إلى خصمه دون أن ينال الخصم هو الآخر فرصة الرد على تهم خصمه. إنَّ تعددية الصوت السردي في جين ريس يأخذ العمل إلى إلى حقل آخر من الصراعات الاستعمارية (المُستعمِر والمُستعمَر) والانتماء والاغتراب وتشكل الهُوية وصراعاتها الذاتية والغيرية، لذا فهذا النص من النصوص المهمة في دراسات ما بعد الاستعمار الذي ذاع صيتها في القرن الماضي وكان لهذه الرواية حضورها المميز في هذه الحقل الدراسي الذي يمثل صراع السرد فيها صراعًا أكبر بين التابع والمتبوع وكيف تؤثر الخلفية الاستعمارية في صوت الكتابة وفكر الرواية، هذا التأثير الذي كانت جين ريس واعية له وسعت إلى إشراع الباب أمام روتشيستر وأنطوانيت ليعرضا القصة دون تدخل أو إسكات أو إخفاء للحقائق أو تحيُّز مُسبق لطرف دون آخر.

لكن قبل ذلك فثمة سؤال يُطرح هل كانت شارلوت برونتي واعيةً بإقصائها الآخر وتهميشه في نصها أو أن الأمر محض حبكة روائية صادفَ لسوء الحظ أن تقع عقدة الأحداث في بيرتا الجامايكيّة؟

يعود تاريخ بدايات الاستعمار والسيطرة الإنجليزية والإسبانية لجزر الهند الغربية منذ منتصف الثاني للقرن الخامس عشر ثم أصبحت الكثير من تلك الجزر منها جامايكا والدومينيكان جزءًا المقاطعات البريطانية التابعة للمملكة المتحدة منذ منتصف القرن السادس عشر. لذا فمن المستبعد أن يكون اختيار شارلوت -مع كل هذا الإرث الاستعماري التاريخي لبلدها في تلك الجزر النائية والقصيّة في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي- اختيارًا عبثيًا أو غير مدروسًا فالتعامل مع الآخر البعيد عن أرضه بتلك القسوة والوحشية والحبس ستكون له تبعاته القانونية فيما لو كانت بيرتا إنجليزية أو حتى أوروبية، لكن الأمر مختلف تمامًا مع كونها غريبة في أرض لا تنتمي لها، بلا أهل أو أصل، لذا فإنَّ كل قيمتها القانونية في إنجلترا هو في كونها زوجة إنجليزيّ، أي تابعة لزوجها ولا تأثير أكبر لها وإلا لما تجرأ روتشيستر على هذا الفعل. يكمن هنا الشطر الأول الذي يبدو هو ما أثار حفيظة جين ريس ودفعها إلى اتخاذ موقف عنيف من الرواية، والشطر الآخر هو ذلك الجنون والنفسيّة المتوحشة والصفات البهيمية التي خلعتها شارلوت على بيرتا، فهذا المصير المجنون هو مصير ليس مصير بيرتا بل مصير الآخر الذي لم تهذِّبه الحضارة والمدنيّة بعد، وتلك النفسية المتوحشة هي نفسية الإنسان البدائي الذي استعمره الأبيض وامتهنه وصيَّره عبدًا له، ولم يكُ له أن يكشف عن هذه النفس المتوحشة لولا السلوكيات البهيمية التي يستطيع من خلالها أن يقرر الأبيض درجة تحضُّره ومستواه العقلي وقابلية تهذيبه. رأت جين ريس في رواية شارلوت كل هذا، لكنها لم ترها تهمة أو سمة تخص بيرتا وحدها، بل تخص سكان الهند الغربية، وفي الأخير تخصها هي، نفسها، التي رأت في نفسها بيرتا، لا ليست بيرتا، لسان حالها يقول، بل هي أنطوانيت، وإن سلْبَها صوتها وذاتها وثروتها وأرضها وحياتها لا يمكن أن يكتمل دون أن تُسلب اسمها، فالاسم هو ما يُعرَّف به الإنسان، ووقتما تغيَّر اسمه تغيَّر رسمه. فقد أعادت ريس إلى بيرتا هُويتها القديمة، الأصلية التي لا بد أن تعرف بها بعيدًا عن الرواية الآخر “الزاعم بفوقيته”، أن يُعاد لتلك المرأة المحبوسة كاملُ ذاتها وهُويتها، أن تعودَ بيرتا إلى أنطوانيت المرأة الجامايكية، الإنسان، لا الآخر التابع البهيمي المحبوس.

أنطوانيت تروي وروتشيستر يرد 

تتوزع رواية بحر سارغاسو الواسع في ثلاثة أقسام، اثنان منها لها الحصة الأكبر في الرواية يسرد القسم الأول أنطوانيت بدايات حياتها وعلاقتها مع أمها في جامايكا ومحيطها والثاني خاص بروتشيستر الذي يتحدث عن قدومه إلى جامايكا من أجل زواج أنطوانيت مايسون ثم سنواته اللاحقة معها في هذه الجزيرة قبل أن يقرر العودة إلى إنجلترا، والقسم الأخير يعود الصوت لأنطوانيت التي تتحدث عن حالها في قصر ثورنفيلد ونهاية حياتها التي كانت شارلوت قد اختارت أن تكون في روايتها مأساوية بحرق أنطوانيت للقصر وانتحارها.

تبدأ رواية بحر سارغاسو بسرد بضمير المتكلم على لسان الصغيرة أنطوانيت التي تعيش مع أمها في جزيرة جامايكا لكن هذه الحياة مضطربة وعنيفة ولا يوجد فيها التئام كامل مع المحيط الذي كره الأم والبنت كونهما من سلالة المستعمرين وإن كانت الأم والبنت خلاسيتين تنتميان إلى هذه الأرض، لذا فقد بدأت رحلة التشتت والضياع بعيدًا عن الذات وعدم التشكل للهُوية والانتماء لدى الصغيرة مبكرًا وفاقم الأمر ما كانت تعاني منه الأم من كراهية الآخرين لها، ووفاة زوجها الذي لا ندري متى حصل لكنه كان كافيًا ليجعل من حياة الصغيرة أنطوانيت مع أمها حياة مضطربة فالأم التي سرعان ما بدأت تحاول الانعزال والابتعاد عن ابنتها، وحتى بعد زواجها مايسون ثم مهاجمة السكان المحليين لمنزلهم وقتل ابنها الصغير، فقد انحدر حالها كثيرًا ما بين هذه العزلة والكراهية والخوف وإدمان الرَّم. أما أنطوانيت فهي الأخرى فقد أُقصيت بعيدًا عن أمها بطلب من الأخيرة وعاشت في دير. هكذا لم يكن لأنطوانيت هُوية تشعر بها حتى بتقدُّمها في السن، وكان الاغتراب عن الذات متشكِّلًا بسوء العلاقة مع الأم وتلك الكراهية التي تشعر أن الآخرين يكنونها لها، ولم ينتهِ الأمر هنا لكنه ازداد أكثر بعد زواج روتشيستر الذي حدث سريعًا وأملت أن تجد فيه نجاتها أو حتى خلاصها لكنه كان مرحلة ختامية من الاضطراب والتشتت العقلي.

يبدأ بعدها روتشيستر بالسرد وهو العارف تمام المعرفة أن قدومه إلى جامايكا وزواجه أنطوانيت هو بترتيب من والده وأخيه ومايسون لأجل الثروة التي ستحصل عليها أنطوانيت من السيد مايسون بعد زواجهما، لذا فإن هذا الزواج لم يكن يُشكل لديه إلا حاجة ملحَّة حتى لا يعيش حياة بلا ثراء. وفي الوقت الذي بدا على أنطوانيت أمارات الرفض بل حتى تصريحها بالرفض فقد أقنعها بقبول الزواج. يبدو روتشيستر هو الآخر في ضياع أو بحث عن حياة مستقرة لكنه واعٍ أكثر من أنطوانيت بحقيقة ما يُريد، لذا فلم يُكوِّن أي عاطفة حقيقية أو حب تجاه الأخيرة التي سريعًا ما شعرَ تجاهها بمشاعر غير وديّة ثم عرف عبر دانيال كوسوي، الذي زعم أنه ابن غير شرعي لكوسوي والد أنطوانيت، أنَّ من تزوجها وأمها وأخيها مصابون بالجنون ولوثة العقل وأنه قد خُدع بهذا الزواج. يظن روتشيستر نفسه ضحية مؤامرة حيكت ضده اشترك فيها والده وأخوه ومايسون لزواج أنطوانيت، وإخفائهم عنه حقيقتها المجنونة. تُعلِّم هذه المعرفة المتأخرة انحدار العلاقة بين الزوجين، وتتفاقم بمرور الوقت، يصبح فيها روتشيستر جلادًا عبر تجاهله أو قلة اكتراثه بأنطوانيت التي يُشرع عملية سلبها هُويتها والإمعان في زيادة ضياعها بتسميتها بيرتا، هذا السلب للاسم يلقى ردًا رافضًا من أنطوانيت التي تعاقر شراب الرم بكثرة وتنعزل عن روتشيستر، الذي يخونها مع خادمة وتعرف بذلك ويسعى روتشيستر لعدم إخفاء خيانته لكي يزداد وضها أنطوانيت/ بيرتا سوءًا، وفي محاولة حثيثية لكسب حبه، الحب القليل الذي محضها إياه، لكنه يرفض أن يمنحها حتى هذا الحب القليل، ليتحول كل شيء حول أنطوانيت كارهًا لها ونافرًا منها حتى من ظنته خلاصها وملجأ الأخير. ينتهي هذا الصراع بين الاثنين إلى ترك أو فرار روتشيستر من جامايكا وأخذه بيرتا معه إلى إنجلترا وحبسها في قصر ثورنفيلد.            

من الجاني، ومن الضحية؟

في خضمِّ هذا الصراع بين الاثنين، دون إغفال الماضي الشخصي لكل منهما تبدو عملية الفصل بينهما ومعرفة الجاني من الضحية أمرًا يزداد صعوبة ويتعقَّد بكشف أوراق الاثنين. فأنطوانيت تعاني منذ طفولتها في حياة مضطربة وعائلة ممزقة ومجتمع رافض وهُوية غير واضحة الملامح وتتزوج رجلا جاء إليها من أجل ثروتها لا أكثر بتخطيط من والده الذي قرر حرمانه من ثروته وسرعان ما يعرف أن حقيقة زوجته أو ما يشاع عنها هو الجنون الضارب في أسرتها فيجد نفسه قد وقع ضحية من طرفين لكنَّ هذا لا يرفع عنه مسؤولية الشروع في زواج كان يعرف منذ البداية أنه بُني لأجل المصلحة لا أكثر لكنه لم يستطع أن يتحمل أن يُخدع من الطرفين، ففي الوقت الذي كان أحد الطرفين بعيدًا عن انتقامه فقد كان الطرف الآخر والأضعف قريبًا والانتقام منه في متناول اليد. لكن هذا الطرف الأضعف، هذا الآخر ليس بالإنسان السوي الكامل، فهو يعيش صراعاته الداخلية التي تعزله عن العالم وعن زوجه، ويبدو أن انحدارها في بئر الجنون والاضطراب النفسي لا محالة. وتتبادر نيَّات السوء لدى روتشيستر إلى ظهور مبكرًا مما يعجل من انحدار زوجته التي بدأها بسلبها اسمها، ثم الإساءة في المعاملة وخيانتها دون محاولة إخفاء ذلك على العكس كشفه للأمر واعترافه بعد حبه لها وأنه لن يمنحها حبه ثم كراهيته للمكان الذي يعيشان فيه. ينتقل هذا الاضطراب السلوكي والنفسي من أنطوانيت إلى روتشيستر لكن الأخير يستقبله بكامل وعيه وإرداته عكس الأولى التي تبدو أنها واقعة منذ طفولتها في شِركِ الحياة المشؤومة، فقد كانت بحاجة إلى دفء الأسرة وحب الآخر لها، لذا فقد طلبت من روتشيستر أن يحبها وسعت لنيل المساعدة من العجوز كريستوفن لتجعل زوجها بسحر الأوبيا  يحبها. هل كانت تبحث أنطوانيت عن الحب فعلًا؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال مبهمة لأن أنطوانيت ذات شخصية غامضية ومتقلبة ومضطربة فليس بالضرورة أن ينقذها الحب من كل هذا الضياع لكنه فقدانه بالتأكيد سيُشرف على نهايتها التي عجَّل فيها روتشيستر بأخذها من موطنها في سلب آخر لوهيتها بعد اسمها ثم حبسها في ضربة قاضية يُنهي بها سلامتها العقلية ويختم على جنونها.

إنَّ أنطوانيت ضحية حياة أكثر مما هي ضحية شخص، ضحية تاريخ استعمار لجزر الهند الغريبة، ومعاملة الآخر المختلفة معاملة دونية، ضحية البيئة التي رفضت اندماجها ورأت فيها صرصورًا أبيضَ وأنها لا تنتمي إلى هذه الأرض وبذات الوقت لا تشعر بالانتماء إلى أرض الآخر ومرفوضة منه كذلك، ضحية لحياة أسرتها المضطربة وعلاقتها السيئة مع أمها التي تركتها لتنحدر إلى جنون وإدمان الرم، ضحية مايسون ووالد روتشيستر اللذين عملا على تزويجها روتشيستر، ضحية روتشيستر الذي تزوجها لأجل الثلاثين ألف باوند ثم أساء معاشرتها وأخذها معه إلى إنجلترا لتعيش حتى نهايتها المأساوية.

لقد أجادت ريس في رسم صورة كاملة لحياة أنطوانيت ورفع الستار عن الخلفية التي شكلت حياة بطلتها دون أن تقف معها علانية أو تهاجم خصمها صراحة، عرضت الأمر والحقيقة من كل الزوايا المحتملة، فهل ثمة حقيقة واحدة يمكن العودة إليها والاحتكام إليها أو أن الحقيقة التي لفَّت صوت روتشيستر وأنطوانيت ستبقى متنقلة بينهما إلى الأبد؟   

المراجع والمصادر:

أدباء حياتهم وأعمالهم: جين ريس، ترجمة مؤمن الوزان.

جين إير – شارلوت برونتي، ترجمة منير بعلبكي.

بحر سارغاسو الواسع – ترجمة فلاح رحيم

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى