الأخوات برونتيشعر

عشر قصائد لإميلي برونتي

اختيار وترجمة: مؤمن الوزان

السجينة 

لا دثار لي هذا دأبُ الظالمين معي، 

سنةٌ تلوَ أخرى في الدُّجى واليأسِ العقيم؛

يتنزَّلُ عليَّ كلَّ ليلةٍ بشيرُ الأمل،

يعرضُ حياةً قصيرةً وانعتاقًا أبديًّا.

يُقبل مع الريحِ الغربيّة وهواءِ المساء الطوّاف،

مع الغسقِ النقي لسماءٍ تزخرُ بالنجومِ:

للريحِ نغمُ تأمُّلٍ، وللنجمِ نورٌ في وهن، 

تبزغُ الرؤى وتتبدَّلُ، وتقتلُ فيَّ الأمينةَ. 

ما أدركتُ كنهَ أمنيةٍ في سنيّ البلوغ،

ساعةَ يغضبُ الجذلُ بهلعٍ، ويحسِبُ دموعَ المستقبل: 

ساعةَ أجهلُ مقدمَ شَرارِِ الدفء مالئا سماءَ روحي؛

أمن الشمسِ أقبلَ أو مِن عاصفةِ البروق.   

يسبقُ تنزُّله صمتُ سلامٍ، وهدوءُ سكوتٍ 

وينتهي صراعُ القلقِ، والجزعُ العنيف. 

تمسحُ صدري موسيقا خرساءُ، ومناغمة بكماء

ما وسعني تُخيُّلها قطُّ، حتى أفقدَ من الأرض مكاني. 

فجرٌ غير مرئي، ويكشفُ المجهولُ حقيقتَه 

يتلاشى إحساسي بخارجي، وأشعرُ بوجودٍ داخلي

جناحاه طليقانِ، عثرَ على منزلهِ ومينائه

جالَ في الخليجِ، ثم انحدر، واجتازَ التُخُمَ الأخير. 

ما أفظعَ الاختيار، يُفاقمُ الكَرْبَ- 

حين تبدأ الأذنُ بالسَّماع، والعينُ بالإبصار 

والقلبُ بالخفقانِ، والدماغُ بالتفكير-

واستشعرَ الروحُ الجسدَ؛ استشعرَ الجسدُ القيد. 

ما فقدتُ لَسَاعتِه، وما تمنيَّتُ عذابًا أهونَ؛

كلما اشتدَّ البلاءُ أبكرَ ببركاته؛

أكوّنته نيرانُ السعير أو نورُ إشراق فردوسيّ، 

لو أنَّه نذيرُ الموت فالرؤيا حينئذ سماويّة. 

*

الفيلسوف

أيها الفيلسوف كفى فِكرًا

سلختَ الزمانَ حالمًا

ما استنرتَ في ذي الحجرة الموحشةِ 

وشمسُ الصيفِ من حولكَ مشرقةٌ! 

روحٌ تجوبُ الفضاء، فيا له من انكفاء حزين

أوتراكَ تستنبطُ تأملاتكَ من جديد؟ 

“آه، حين يأتي زمنُ أهجعُ فيه، 

بلا هُويَّة، 

غيرَ مكترثٍ بنزولِ المطر، 

ولا بالثلجِ يكسو جسدي. 

ليست الجنَّةُ الموعودةُ موجودةً، 

ولا الأمنياتُ الجامحةُ، 

لا كلُّها ولا حتى نصفها. 

وما الجحيمُ المتوعِّدةُ بألسنةِ اللهبِ 

بقادرةٍ على كبحِ إرادتي الحرون”. 

“هذا ما قلتُه، وسأقوله أبدا؛

سأبقى أقول حتى موتي: 

ثلاثة آلهة في ذا الشكلِ الصغير، 

يُحاربون في الليل والنهار، 

ما للسماء من سعةٍ لضمِّهم، 

لكنَّهم موجودون في داخلي، 

وحتى أنسى -سيبقون فيَّ- 

كينونتِيَّ الآنيّة! 

حتى ذاكَ الأجل- في حناياي

سينتهي صِدامُهم. 

حتى ذاك الوقت، حين سأرتاحُ

ولا أعاني أبدًا”. 

“أبصرتُ قائمًا روحَ إنسانٍ 

قبلَ ساعةٍ حيثُ أنتَ قائمٌ الآن، 

انبجستْ من تحت قدميه ثلاثةُ أنهرٍ، 

غَورهما واحدٌ، والجريانُ مُتَفِقٌ، 

نهرٌ ذهبيٌّ، وآخرُ مثلُ الدمِ، 

وثالثهما كالياقوتِ بدا ليْ، 

جرتْ وتشكَّل تيَّارٌ ثلاثيْ، 

انحدرَ إلى بحرٍ حبريْ.

حدَّقَ الروحُ تحديقةً برَّاقة-

إلى دُجى البحرِ الكئيب، 

وأنارتْ كُلُّها بوهجٍ باغت، 

تلألأ الغورُ البهيجُ باتِّساعٍ وبريق، 

أبيضَ كالشمس، وأجمل بكثير وكثير- 

من منابعِه ذات الفرقة والتقسيم”. 

“لأجَّلِ ذيَّاك الروحِ الشاهدِ، 

أبصرتُ عمري، وبحثتُ عنه مديدا

بحثتُ في الجنانِ والجحيم والفضاء، 

سعيتُ بلا انتهاء، وما نلتُ إلا الخواء.   

أتُراني بَصرتُ عينه المجيدة لا غير

أضاءتْ سحابًا أضلَّني السبيل، 

ما صحتُ قطُّ صيحةً جبانة-

لأتوقفَ عن التفكير وعن الوجود، 

ما سَّميتُ النسيانَ نعمةً، 

ولا مددتُ إلى الموت يدين راغبتين، 

مناشدًا تغييرًا لراحةٍ بلا إحساس، 

أيها الروحُ الحاسُّ، أيها النَّفسُ الحيُّ، 

اتركاني أموت، ولعلَّ من انقضاء- 

للخصام القاسي بين القوَّةِ والإرادةِ؛   

المغزوُّ بخير، والغازي عليل،

وأضيعُ في هجوعٍ وحيد”.

الرواقيُّة المسنة

أمسكتُ الثراءَ في نورِ التبجيلِ،

وضحكتُ هازءة بالحبِّ؛

ما شهوة الشهرةِ إلا حُلمٌ

تلاشى مع انبلاجِ الصباحِ 

إنْ دعوتُ فدعائي الوحيد،

ما تتحرَّكُ به شفتاي: 

“غادرْ القلبَ الذي في صدري

وهبني الانعتاق”.  

بلى، حين تبلغُ أيامي ما ترومُ 

فذا ما أتوسَّلُ إليه؛ 

روحٌ بلا قيدٍ في الحياة والموت، 

وشجاعةٌ للتَّجلُّدِ والاحتمال.  

*

الحب والصداقة 

الحبُّ مثلَ وردةٍ بريّةٍ في البراحِ 

الصداقةُ مثل شجرة الهولي1

تَسوَّدُ الهولي حين تُزهر الوردةُ 

لكن أيهما سيكون إزهارُه أدوم؟

حلوةٌ هي الوردة البريّة في الربيع، 

ويفوحُ أريجها في هواء الصيفِ 

لكن مهلًا حتى يُقبلَ الشتاءُ 

من ذا يرى الوردة البريّة فاتنة؟ 

اهزإِ الآن بالوردة البريّة التافهة،

وزيّن نفسكَ ببريقِ الهولي، 

فإذا ما أفسدَ كانونُ الأول طلَّتَك، 

خلَّفَ أكاليكَ مُخضرَّةً.  

1- شجرة دائمة الخضرة

*

حلم يقظة

ذات ظهيرة صيفيّة، 

استلقيتُ وحدي فوقَ تلّةٍ مُشْمِسةٍ،

كان الزمانُ ميعادَ زواجِ أيار،

وحبيبِها الفتيّ حَزيران.

كرِهتِ الانفصال عن قلبِ أمها، 

تلكَ الملكةُ المجلَّلةُ بمفاتنِ الزفاف، 

ابتسمَ الأبُ لطفلته الحبيبة، 

مَنْ احتضنها بين ذراعيه أبدا.  

هزهزتِ الأشجارُ ذُراها الزغبيّةَ، 

وغرَّدتِ الطيورُ السعيدةُ بابتهاج.

وأنا من بين كلِّ ضيوفِ العُرس،

كسا طلَّتي وحدي هنالك العبوس.    

ما حداني أملٌ لشيءٍ خلا-

تبديدَ طلَّتي معدومةَ الحبور، 

حدَّقتْ إليَّ الصخورُ الرماديّةُ الدكناءُ، 

وقالت ’أيُّ شأنٍ لكِ هنا؟‘ 

ما أحرتُ لها ردًّا، 

والحقُّ يُقال لا أعلمُ- 

لما جئتُ إلى هنا بعينٍ مغرورقةٍ

لأُحييَ هذا البريقَ العميم. 

مُستلقيةٌ فوقَ ظهرِ البراحِ

ضممتُ قلبي إليَّ، 

ورحنا معًا بانغماس حزين- 

إلى حُلمٍ يقظة. 

فكَّرنا ’حينُ يُقبل الشتاءُ مجددًا،

أين سيحلُّ هذا النورُ وأهله؟

سيختفي الجميعُ مثل طيفٍ كاذبٍ،

فيا لها من هُزْءٍ خدَّاع!‘ 

’والطيرُ المغرِّدُ بفرحٍ الآن، 

فوقَ الصحاري، وصقيعِ البراري،

هذا الشاهدُ لاختفاء الربيع، 

سيطيرُ من جوعه في أسرابه‘.   

’علامَ الجذلُ بذا المرأى إذًا؟

خضرةُ أوراقِ الشجر باهتة-

إرهاصٌ قبيلَ سقوطها، 

فهل يُرى مَسْقطُها من الأرض!‘ 

أحقًا هذا ما كان حالها، 

لا يسعني التيقُّن أبدًا، 

في كَربٍ حَنقٍ يليقُ بذاك، 

تمدَّدتُ في البراح. 

أبصرتُ آلافَ آلافَ الأنوار

تتألقُ بسطوعٍ في السماء، 

وآلافَ آلافَ القيثاراتِ الفضيَّات

تُدوِّي أنغامهن في المدى. 

وحسبتُ أنَّ كُلَّ نَفسٍ من أنفاسي

مملوءٍ بشررٍ قُدسيّ،

وكُلَّ آرائكِ الخَلَنجِ حولي 

كُلِّلتْ بغارٍ من إشراقٍ إلهيّ!     

أوَّبتِ البسيطةُ الرنينَ المتعاقبَ

لذاكَ الإنشادِ الفريد، 

غنَّتِ الأرواحُ الضئيلةُ المتلألئة لي، 

أو هذا ما بدا لي: 

“يا فانية! يا فانية! ليموتوا 

ليأتي عليهم الزمانُ والدموعُ 

حتى نغمرَ نحنُ السماء

بفرحةٍ كونيّة! 

ليُلهي الأسى صدرَ الموجوعِ،

وتُضلُ الظلمةُ دربَه،

يَحُثَّانِ خطاه إلى راحةٍ أبديّة، 

ونهارٍ لا ينتهي. 

الدنيا في عينه مثلُ قبرٍ، 

والصحراءُ شاطئٌ عارٍ، 

نُبصرهما إزدهارًا لا تحدُّه العقول،

يزدادُ ألقهُ يومًا بعدَ يوم. 

لنرفعْ عنه الحجاب، ونمنحْ- 

عينيه لمحاتٍ من إبصارٍ، 

إنْ سعدتَ بمرأى الأحياء 

لأنَّ مآلَ حياتها إلى مَوات” 

توقَّفتِ الموسيقا، وحُلمُ الظهرِ،

مثل حُلمِ الليل، ينسحبُ في تلاش، 

لكن ما زالَ الخيالُ في أحيان،

يُصدّقُ الرائي خَلْقَه المحبوب.   

*

أستُلهمَك الأرضُ 

أستُلهمَك الأرضُ بعدَ اليوم

أيها الحالمُ الوحيد؟

فما عادَ للشغفِ مَوْقِدُ نارٍ فيك،   

أستتوقفُ الأرضُ عن الانحناء لك؟ 

عقلُكَ في تطوافٍ أبدي

بلغَ مسالكَ مُظلمةً في ناظريك، 

تذكَّر تطوافكَ الخائبَ؛ 

ارجعْ واسكنْ إلي. 

أعرفُ أنَّ نسائمَ جبلي 

ما زالتْ تفنتنُكَ وتُريحكَ،

أعرفُ أنَّ شروق شمسي

يُبهجُك رغمَ إرادتِكَ الحرون. 

حين اتَّحدَ النهارُ بالليل،

مختفيًا من سماءِ الصيف،

أبصرتُ روحَكَ تركعُ 

في وثنيّة عزيزة. 

راقبتُكَ كلَّ حينٍ، 

أعرفُ أنَّ شديدَ تأرجُحكَ،

وقويَّ سحرَكَ، 

سيبدِّدان عنكَ أحزانَك. 

قليلةٌ هي القلوب على البسيطة، 

مَنْ تهبُ الفانينَ توقًا بربريًّا،

وما من امرئ سيسألُ السماءَ 

أرضًا كهذي التي بين يديك. 

هلّا أسكنتْ رياحي لواعجَك، 

يا رفيقي افسحْ لي الدربَ، 

فما من أحدٍ قربكَ يُنعمُ عليك، 

عُدْ واسكنْ إلي. 

*

ذكرى 

باردٌ في بطنِ الأرض، والثلجُ متكوِّمٌ بكثرةٍ فوقكَ، 

مطروحٌ بعيدًا، بعيدًا، والبردُّ في القبرِ الموحش يضمُّكَ! 

أنسيتُ حُبيَّ الوحيدَ، أنْ أحبَّكَ، 

وقد آلمني في آخر المطافِ زمنٌ ذو تباريح؟

الآن، وأنا وحيدةٌ، أستحومُ أفكاري 

فوقَ الجبالِ، والساحلِ الشمالي، 

تستريحُ بجناحيها عند براحٍ وورقِ سرخسٍ 

يكسو قلبكَ الشريفَ دائمًا، وإلى الأبد؟ 

باردٌ في بطنِ الأرض، وأيامُ منتصفِ كانون الأول الشديد، 

في هذي التلال البُنيّة، قد ذابتْ في الربيع، 

مُخلصةٌ حقًا هي الروح التي تتذكر- 

بعد سنين المعاناةِ والتغيير!  

يا حُبَّ الصبا العزيز، اغفرِ لي لو نسيتُكَ، 

فموجُ الدُنيا يجرفني معه في السبيل، 

تُكدِّرُني مآربُ أخرى وآمالٌ أخرى،

آمالٌ تُضلِّلُني لكنها لن تُسيءَ إليك!   

ما أنارَ سمائي من بعدكَ ضياءٌ، 

ما أبلجَ عليَّ من بعدكَ نهار؛ 

كُلُّ نعماء حياتي من حياتِكَ الأثيرةِ وُهِبْتُها،

كُلُّ نعماء حياتي في القبر ترقدُ معك.  

حين تلاشتْ أيامُ الأحلامِ الذهبيّة، 

وأضحى اليأسُ عاجزًا عن التدمير؛

تعلَّمتُ ما أغلى أن يكونَه الوجود،

وما أقواه، يعتاشُ بلا عونِ البهجة.  

تحسستُ بعدها دمعَ عشقٍ عقيم، 

فطمَ روحي الفتيّةَ من التوقِ إليك، 

وأنكرتُ بحزمٍ رغبةً تلحُّ بالنزولِ، 

على عجلٍ إلى قبرٍ دخلته إليك.

ما جرؤتُ على تركها في ذبول*، 

ولا جرؤتُ على انغماسٍ في ألمِ ذكرى بهيج؛

إذا ما المرءُ عبَّ من وجعٍ إلهيّ، 

فأنَّى له بعدئذٍ السعيَّ في عالمٍ خميص؟ 

* أي الروح.

*

نسيم الليل 

في ليلٍ صيفيّ رقيق 

أشرقَ قمرٌ دفيءٌ 

داخلًا نافذة حجرتنا المُشرعة، 

وأشجارُ الوردِ مُخضلَّة بالندى. 

أقعدُ في تأملٍ صامتٍ، 

والنسيمُ العذبُ يداعبُ شعري،

يقول لي إنَّ السماءَ مجيدةٌ، 

والأرضَ الهاجعةَ بهيّةٌ.  

ما أنا بحاجةٍ لنفثهِ، 

ولا أن يوحي لي بفكرِه، 

لكنه يبقى هامسًا في اتئادٍ 

“ما أعتمَ ما ستكونه الغابةُ!”  

والأوراقُ الثخينةُ في همهمتي

لها حفيفٌ كأنه حُلمٌ 

وكأنَّ كلَّ أصواتِها الوفيرةِ

فطريَّةٌ في روحي.

قلتُ ’اذهبْ أيها المنشدُ الوديع،

صوُتُكَ الودودُ بهيجٌ، 

لكن إياكَ أن تحسبَ لموسيقاك

سلطانًا يمتدُّ على عقلي‘. 

’داعبِ الوردةَ العَطِرَةَ، 

وغصنَ الشجرة القويَّ الفتيَّ، 

دعْ عنكَ مشاعري البشريّة 

تتدفقُ في مجراها‘. 

ما اكترثَ الطوَّافُ بي، 

ما زال يُدفئُ قُبْلتَه لي: 

نفحَ بوداعةٍ ’باللهِ عليكِ!

سأفوزُ بكِ رغمًا عنكِ‘

’أما كنا صَحبًا منذ الصبا؟

ألم أحببِكِ إلى الأبدِ؟

سأبقى ما دام الليل الرزين، 

يوقظُ بالصمتِ نشيدي.

’حين يرقدُ قلبُكِ مُرتاحًا

تحتَ صخرِ مجازِ الكنيسة،

سأُمْنحَ زمنًا للنواحِ عليكِ، 

يا مَن ستكونين وَحْدَكِ‘.    

*

زهرة الجُرَيس1

زُهرةُ الجُريسِ أجملُ الأزهار،

تتمايلُ مع هواء الصيف،

لزهرِها أعظمُ قوًى 

تُزيحُ عن روحي شقاها.  

سِحرٌ في ذا البراحِ الأرجوانيّ،

جدُ غريب، وبأسًى عزيز، 

وللبنفسجِ نَفَسٌ شذيٌّ، 

لكن ما عاد لأريجهِ تبشير.  

الشجرُ بلا ورقٍ، والشمسُ باردة،

ونادرًا نادرًا ما تُرى 

السمواتُ وقد أضاعت طوقها الذهبيّ،

والأرضُ بسلبها ثوبَها الأخضر.

ألقى الجليدُ فوقَ الجدولِ البرّاقِ 

بظلاله المُعتَمَة، 

والضبابُ القارُّ قد اكتسحَ الوديانَ

ولفَّ كلَّ تلٍ قريبٍ وبعيد. 

أينَ فتنةُ زهرةُ الجُريسِ الآن، 

وهذا البراحُ ما عاد له إزهار، 

والبنفسجُ في الفجِ تحت قدميّ

تلاشى منه الأريجُ الذكيّ.

أبكي زهرةَ الجُريس الجميلة،

لكن ما ذا بخيرِ مسالكي،

أعرفُ ما أسرعَ اغريراقَ عيني بالدمعِ،  

حتى أراها باسمةَ الثغرِ في يوم.  

أوَّاهُ من شعاعٍ للشمسِ باردٍ 

ينزلُ من تلكَ السماءِ المُوحشة، 

يُضيء ذيَّاك الجدارَ المظلمَ الرَّطِبَ

ببهاءٍ لا يدوم.

لكن، أنَّى لي أن أنتحبَ، أنَّى لي أن أشتاقَ-

لزمنٍ يُقبلُ بالأزهارِ، 

ويُبعدني عن البريقِ المتلاشي، 

والبكاءِ على حقولِ الديار.  

1-زهرة زرقاء تشبه الجرس واسمها بالإنجليزي Bluebell والمعنى الحرفي لاسمها الجرس الأزرق.

*

ليس لي روحٌ جبانة1

ليس لي روحٌ جبانة، 

ولا ارتعاشٌ في مدى رياحِ الدنيا الهوجاء:

إني أرى شروقَ أمجاد السماء، 

وسطوعَ الإيمانِ سواء؛ يُسلِّحاني في وجه الخوف.

يا إلهًا كامنًا في صدري

يا عظيمًا يا دائمَ الوجود، 

هجعتْ في داخلي الحياةُ 

وقوَّتي فيك حين تُحتضرُ الحياة.

آلافُ العقائد هباء،

وما تخفقُ به قلوبُ الناس له كُلُّ الخواء، 

لا خيرَ فيها كعشبٍ ذابل، 

أو زبدٍ يذهبُ جفاء في خضمِّ بحرٍ بلا ساحلٍ.

أن تُوقظَ الشكَّ في واحدةٍ،

متشبِّثًا على عجلٍ بأبديَّتِك، 

راسيًا بيقين غير زَحزاحٍ 

على صخرةِ الخلودِ الراسخة.  

بالحبِّ المُحتضنِ الرحيب

تُحيي روحُكَ سنينَ أبديّة،  

تتغلغلُ وفي العلا تتأملُ، 

وتُبدلُّ، وتؤازرُ، وتُبدَّدُ، وتخلُقُ، وتُنشئُ. 

لإن اختفى الأراضي والإنسان، 

وتلاشتِ الشموس والأكوان،

وخُلِّفتَ وحدكَ في الوجودِ، 

فكونُكَ في داخلكِ موجود.  

ليس للموت هنالكَ مكان،

وما من ذرةٍ تفسحُ له المجال،

أنتَ أنتَ من يكون ويتنفَّسُ، 

وأنتَ الذي لست بهالكٍ أبدًا. 

1-قصيدتها الأخيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى