النقد الأدبي

صنعة الرواية – بيرسي لوبوك

بيرسي لوبوك، ناقد وكاتب مقال وسيرة، ولد في إنجلترا سنة 1879، ويعد كتابه صنعة الرواية “The Craft Of Fiction” من أهم الدراسات النقدية في الرواية حين نشر عام 1920، واستمر تأثير هذا الكتاب بعد نشره فتُرجم للعربية سنة 1972 من الدكتور عبد الستار جواد. وزع الكتاب على ثمانية عشر فصلا، شمل دراسات لروايات عدد من الروائيين البارزين: تولستوي وروايته الحرب والسلم، وآنا كارينينا، فلوبير وروايته مدام بوفاري، ديكنز وثاكري ومجموعة من رواياتهم، هنري جيمس ورواياته السفراء وأجنحة الحمام وهاري ريشموند والسن المحرج، وبلزاك ومجموعة من رواياته. خصص لكل راوٍ من هؤلاء مواضيع معينة من رواياتهم كالشكل والزمن والعنصر الدرامي والأساليب، والمشهد التصويري والبانورامي في السرد وعرض القصص. 

إن تعامل بيرسي لوبوك مع العناصر الفنية للرواية وتناوله لها بأسلوب شائق ومحترف جدا، والنقد الذي يسلطه على هذه الأعمال لمعرفة كيف تُبنى الرواية وصنعتها، وتفحص أسلوب كل راوٍ بطريقة تُشكل العمل من الصفر حتى الوصول إلى القمة، حيث التحليل وتفكيك المشهد الروائي، يتم بالطول والعرض والتعمق من أجل ملامسة الأسس التي بُنيَ عليها. ويبدو واضحا في أسلوبه النقدي، عملية نقل الرواية ومعالجة مشاهدها من خلال تسقيطها على المسرح ومسرحة الرواية Dramatization. وهذه الطريقة التي جعلت فهم المشهد التصويري أو البانورامي يبدو أكثر سهولة مما لو تُعومل مع الحدث الروائية بالأسلوب المعتاد من خلال دراسة الحدث والشخصيات والأفعال والأفكار بطريقة تحليلية فقط. ويحتل العرض المشهدي والبانورامي حيزا كبيرا في الكتاب والفرق بين الأسلوب المشهدي والبانورامي، أن الأول يعمل على تبني أو الإيحاء للقارئ أنه يتبنى وجهة نظر معينة من خلال عرض الرواية من خلال شخصية وجهة نظر التي من خلالها يسرد ويتابع القارئ القصة حيث يكون (الراوي = الشخصية)، والآخر، أسلوب السرد البانورامي، ذو الزوايا المتعددة والكبيرة التي تحتوي جميع التفاصيل من بُعد معين يقف فيه الرواي وينقل المشاهد والأحداث مثل مصوّر، وفي أحيان كثيرة لا يخفي الراوي مهمته وآلة تصويره بل يُعلِم القارئ فيها، ويوضح عمله ويشرك القارئ في رؤية المشهد وتصويره بقرب أو بعد، وهو بهذه المهمة تُتاح له مزية الاقتراب أو الابتعاد في تصوير المشهد حسب ما يراه ملائما في نقل الحدث. إذًا، فالفرق بين الأسلوبين يبدأان من دور الراوي هل هو سارد عليم أم هل هو شخصية داخل عمله الروائي، وباختيار دوره تُتاح له الإمكانية في اختيار أسلوب العرض الدرامي للأحداث. 

إن النقد في هذا الكتاب كثير ما نحن بحاجة إليه من ناحية التعامل مع الرواية وكيفية نقدها إذ يقول: إن عملية النقد تسترعي قراءة بناءة للعمل الروائي وتتبع الأسلوب ودراسة الصيغ من أجل إعادة خلق للكُتّاب خلقا قويا، وإن هذا هو الاهتمام الوحيد للنقد اليوم. ويقول: لقد كان مؤلف الكتاب صانعا بارعا، وعلى الناقد أن يباغته وهو منهمك في عمله ويرى كيف صنع الكتاب.

ملاحظات وتلخيصات من الكتاب

– إن بداية نقد الرواية يبدأ بالقراءة السليمة.

– بعد فصلين تقديمين عن القراءة والنقد والكاتب والناقد، يشرع لوبوك في كتابه النقدي في بحث الشكل والزمن في رواية تولستوي الحرب والسلم، الرواية التاريخية الأعظم بالنسبة للكثيرين التي أرّخت مرحلة الصدام الأوروبي-النابليوني في معركة أوسترليتز وغزو نابليون لروسيا وفشله بعد معركتي بورودينو هذا ما مثّل جانب الحرب، أما جانب الحياة والسلم فمثلته شخصيات كثيرة منها عائلة بولكنسكي وبيير ورسوتوف. ما يُعالجه وينقده لوبوك هو شكل الرواية المتشعب والمُفصّل والواسع والذي لا تحده حدود حيث يبدو شكلا لا يُمكن رسم حدوده خاصة وأنه يتوزع على حياة شخصيات ومواضيع كثيرة، هذا الشكل الكبير اللا محدود واللا منتظم في إطار معين يُعطي للرواية سمات الحياة التي تستمد الرواية نفسها منها، أحوال الحرب العصيبة وحياة المدينة السلمية، والتداخل بين الحالتين واشتراك هؤلاء الأفراد ما بين حياة رفاهية وانتقال لساحة المعركة للدفاع عن أرضهم، روسيا التي هي الأخرى تمتد لمساحات شاسعة واسعة. يعمل لوبوك على إمساك شكل رواية الحرب والسلم لتولستوي، وهي مهمة ليست سهلة بالمرة، إذ يبدو النقد ومحاولة إعطاء شكل للرواية متداخلا مع الأحداث والشخصيات وليس إطارا عامة أو ثيمة تندرج فيها الأحداث ويتحكم بها الراوي، الشكل الذي يُخضع الراوي، ويتركه يتحرك مع شخصياته فيه، إذ لا مجال للسيطرة عليه، إذ هو كالحياة، وأنّى للبشر أن يحددوا شكلها المتغيّر باستمرار بسهولة، الصعوبة تكمن أن شكل الرواية يبدو كأنه لا شكل له، هذا التنويع بين في الأحداث والتنقل بين شخصيات مختلفة، يجعله كما يصفه لوبوك بأنه يكتب روايتين في آن واحد، وقد سبق لي وذكرت شيئًا مشابها حول حياة الأمير أندريه، إذ تبدو حياته التراجيدية وتقلباتها ونهايته الحزينة كأنها رواية داخل رواية، ولا يعني هذا أنها منفصلة عن جسد الرواية العام لكنها مستقلة وقائمة بذاتها وتدعم الأصل الذي تتفرع منه، هذه العبقرية الفذّة لتولستوي في كتابة روايته وهذه الحدود التي لا تنتهي تجعل من شكل روايته هو الآخر متعدد السمات متغير دائما مع تقدم الرواية مما يُضفي له الجدّة في الشكل بتقدم الرواية في أحداثها حتى النهاية. الفصل الآخر الذي يخص رواية الحرب والسلم والذي يتناوله لوبوك يخص الزمن في الرواية، الزمن في رواية تولستوي يتمدد بنحو آني وتلقائية يعبث بيده الطويلة الخفية المؤثرة في حياة الشخصيات، فالشخصية تتقدم في السن، وتتغير أفكارها، وتنقلب حياتها رأسا على عقب. الزمن هو أداة تأثير ومصدر تُشعُ منه إشعاعات لا تُرى لكن ما تُحدثه في حياة الشخصيات هو المهم، وهو الذي يكون له قيّمته، إذ الزمن ليس من وظيفة الروائي أن يتحكم به وإن عمل على تقديمه وتسريعه، أو إبطائه أو إرجاعه إلى الماضي، لكنه يبقى فضاءً ليس له حدود ولا يمكن مسكه إذ يندفق برتابة وبطء في رواية الحرب والسلم، يعمل تولستوي وسيطا بينه وبين شخصياته. ينحت الزمن في الشخصيات كل التغييرات التي تفرضها الحياة، ويكشف تولستوي هذا النحت للقارئ، إذ يكتب شخصياته ويراقبها وهي تكبر في السن أو تموت، يتماهى مع الزمن أو هكذا يوهم القارئ، وهي مهمة تبدو من العظمة بمكان أن تجعل الزمن يأخذ دوره بكل استقلالية وتكون أنت وسيلته للكشف عن نفسه، ولكن لا تنسى دورك الريادي في فعل ما تريده أو ذكر ما تشاءه، كصاحب إرادة في تسيير الرواية إلى حيث تشاء، وتجعل سفينتها ترسو في ميناء أفكارك التي تكتبها في تدوين مرحلة مهمة كم تاريخ روسيا الاجتماعي والحربي. يقول لوبوك: 

“في كل لحظة من اللحظات هناك قطاعات ضخمة من هذه الحياة تُهمل وتحول إلى لا شيء فكانت النتيجة ليست سلبية وحسب، ذلك لأن الحياة المهملة والمادة غير المستغلة في أي لحظة تنقسم وتُضعِف من تأثير الصورة التي ابتدعت من البقية. إن البقايا الكبيرة من أي شيء تُعطينا مقياسا لعبقرية تولستوي التي تُصبح من أكثر الأشياء  غرابة حين تستطلع البنية المضطربة لكتابه. إنه قادر على أن يعمل بذلك الإهمال الكبير لموضوعه وهو مع ذلك قادر على إنتاج مثل هذا الكتاب، ومن المؤكد أن عبقرية تولستوي هي العليا بين الروائيين”. 

– الفصلان اللاحقان هما عن فلوبير وروايته مدام بوفاري، هذه الرواية التي تدور قصتها عن إيما بوفاري التي بعد انتقالها للعيش مع زوجها في مدينة صغيرة، يصيبها الملل وتبدأ بمرحلة جديدة في حياتها مع العشّاق تنتهي بموتها منتحرة. يعمل لوبوك في هذين الفصلين في الكشف عن  أسلوب فلوبير في عرض المشاهد وسرد أحداث روايته، التي يجعل المشهد أمام القارئ، إذ ينقله إليه تصويريا كأنه صورة تتجلى أمامه أو مسرحية يجري تمثيلها على حد وصفه. إن العملية التصويرية للمشهد ونقلها بهذه الشاكلة تحتاج إلى وصف لخلفية الحدث “المكان” ونقل جميع تفاصيله مما يجعل القارئ ملما بالجوانب كافة التي يقع فيها المشهد الروائي سواء على مستوى الجو الاجتماعي أو العلاقاتي ما بين الشخصيات أو وصف الديكور والأثاث أو طبيعة المكان إذا كان الحدث في الخارج كأن يكون حقلا أو بستانا أو طريقا عاما أو حديقة، ووصف جغرافية المكان قد تكون سابقة للحدث أو تقديمية للقارئ قبل أن يقحم في خضم الصراع والأحداث، وإعطائه صورة سلفا للمكان الذي يتم فيه مشهد من مشاهد الرواية أو حتى الرواية كليا. ما يحدث في رواية مدام بوفاري أن المدينة تُرى من خلال أعين إيما، وبهذا تكون النظرة قاصرة عليها، وما يُطلعنا عليه الروائي من أعين شخصيته. إن سرد القصة والأحداث بهذا الأسلوب يجعل الرواية تعتمد اعتمادا كليا على إيما بوفاري وحياتها مع عُشّاقها، ولا يمكن الانتقال إلى شخصية وجهة نظر أخرى، إنما يحدث هو عملية ربط الرواية بشخصية واحدة هي المحور الأساسي التي تدور حولها وفيها القصة بأكملها، بأفكارها، بصراعاتها، بما أراده الكاتب، وكيف يُمكن أن نتأكد من أي شخصية تمثل وجهة نظر الكاتب، وتتبنى رؤاه، وهل الكاتب مهتم أن يكون له وجهة نظر معينة، أكثر من رغبته بأن يكون ناقلا لأحداث ولرؤى ولتصادمات فكرية ونزعة اجتماعية مطمورة يود الكشف عنها، أن يخرج من مظلمة التآمر اللا معلن، أن يكشف الحقيقة عارية كما هي، دون أن يكون مضطرا أن يقف بجانب معين دون آخر أو أن يتبنى رأيا دون آخر، هنا قد تكمن عظمة بعض الرواة، أو أكثر مهامهم إثارة للجدل، بأن يكونوا وسيطا بين الحدث وصاحب الحدث -الشخصية- والقارئ والمجتمع من خلفه، هذا الصراع الذي يدور بين الجميع وهو في غنى عن الاشتراك فيه لكنه يرى ضرورة إشاعته وإعلام الجميع به. فهل عمد فلوبير إلى عرض قصة إيما بوفاري ليركز الاهتمام إلى قضة اجتماعية أخلاقية أم هل أراد أن يُشيع الفساد كما اتهم؟ لكن ما يهمنا هـو عمله الروائي وأسلوبه في عرض قصته مما أعطى عمله مكانة في عالم الرواية.

– يعرض أسلوب السرد البانورامي التصويري المشهد على نحوٍ تصويري محاكاةً للواقع وشاملًا لكل الأجزاء التي تدخل في صنع والتأثير في الحدث، فيكون السرد من زوايا متعددة ومختلفة ويكون الراوي السارد أكبر من كل الشخصيات وأعلم من الجميع، ولا يتبنى رأيا لكنه قد يتدخل في إبداء رأي ما أو إضافة معينة تعمل على مساعدة القارئ في فهم جوانب مخفية عنه حول الشخصيات أو الأحداث، وعلم الرواي لا يجعل يتسيد الموقف ويدير الأحداث كما يشاء بل يبقى كأنه ناقل لحدث درامي مسرحي أثناء وقوعه، مزودا القارئ بالمعلومات التي تُقحمه في خضم الحدث.

– الفرق بين الأسلوب المشهدي والبانورامي، أن الأول يعمل على تبني أو الإيحاء للقارئ أنه يتبنى وجهة نظر معينة من خلال عرض الرواية من خلال شخصية وجهة نظر التي من خلالها يسرد ويتابع القارئ القصة حيث يكون (الراوي = الشخصية)، الآخر أسلوب السرد البانورامي ذو الزوايا المتعددة والكبيرة والتي تحتوي على جميع التفاصيل من بُعد معين يقف فيه الرواي وينقل المشاهد والأحداث كمصور، وفي أحيان كثيرة لا يخفي الراوي مهمته وآلة تصويره بل يُعلم القارئ فيها، ويوضح عمله ويشرك القارئ في رؤية المشهد وتصويره بقرب أو بعد، وهو بهذه المهمة تُتاح له مزية الاقتراب أو الابتعاد في تصوير المشهد حسب ما يراه ملائما في نقل الحدث. 

– إذًا، فالفرق بين الأسلوبين يبدأ من دور الراوي هل هو سارد عليم أم هل هو شخصية داخل عمله الروائي، إذ باختيار دوره تُتاح له الإمكانية في اختيار أسلوب العرض الدرامي للأحداث.

– يقول بيرسي لوبوك “إن القصة إذًا، سير الأحداث، خلاصتها التي لا بد أن تمثل تجربة المؤلف المنظمة والتي على هذا الأساس أيضا يتعين أن تكون في طبيعتها مثل الصورة، هذه القصة يجب تقويتها وإعطاؤها قوة تقترب من قوة الدراما حيث لم يعد هناك إحساس بتدخل القاص. 

– بإمكان الروائي الذي يسرد الرواية بضمير المتكلم أن يسرد لنا الرواية ويصورها لنا من خلال عيني الشخصية لكنه لا يُمكن له أن يجعلنا ننظر لداخل الشخصية من خلال منظار خارجي ينظر إلى الداخل. فما لا تستطيع أن تفعله الشخصية بنفسها والنظر إلى داخلها من منظور خارجي لا يُمكنها نقل هذا التصوير والرؤية للقارئ.

– لا تدع البطل يدخل بيننا بعقله الفعّال، ولا تدع البطلة تقف في مواجهة عواطفها ثم ترسم لنا هذه العواطف ما لم يكن هناك مبرر لذلك أو نتيجة مطلوبة، ربما تفوتنا إذا فعلنا غير ذلك. بيرسي لوبوك. 

– يميل الروائي إلى الأسلوب غير المباشر أكثر من الأسلوب المباشر، وذلك لأنه يجعل ذهن الشخصية حقيقة ملموسة تدركها الحواس. بيرسي لوبوك. وهذا الأمر يُساعد الكاتب على بناء الدراما في قصته وسردها بما يُمكن القارئ من الوقوف على أحداث الرواية بصورة أكبر مما لو كان السارد المباشر -ضمير المتكلم- الذي تبقى إمكانياته محدودة بما يراه ويُشاهده ويُخبره عن نفسه. هذه الصراعات النفسية للشخصية التي تمثل دراما الحدث والرواية كما في رواية الجريمة والعقاب، حيث عذابات الضمير لراسكولنيكوف التي يسردها دوستويفسكي هي الدراما والمحور الذي تمضي فيه الرواية ويتابعه القارئ حتى النهاية. 

– الفصل الحادي عشر، وهو عن رواية السفراء لهنري جيمس، هذه الرواية التي تدور حول الرجل ستريثر الذي يرسل من قبل سيدة إلى فرنسا لإعادة ابنها إلى أمريكا وتخليصه من هذه التي أغوته، وبعد وصول ستريثر إلى باريس، ولقاءه هناك الشاب والسيدة التي يحبها ويعيش معها، تبدأ مرحلة التغيير في مهمة ستريثر ويرى الحياة التي يعيش بها الشاب هناك، واقتناعه بحق هذا الشاب بالعيش بالطريقة التي تناسبه. يعمل لوبوك في هذا الفصل على تحليل الطريقة التي تعامل معها هنري جيمس في سرد هذه الأحداث من خلال وعي ستريثر حيث القارئ يشاهد الدراما والتغيّر الذي يحدث لستريثر من خلال فكر ستريثر ونظرته الخاصة للأمر، إذ ينسحب الراوي ويترك القارئ مع ستريثر ليروي ما يشاهده ويفكر فيه ويقوله، كل هذه الأمور التي تحدث في ذهن ستريثر خاصة وأنه يجد نفسه وقد فاته الزمن ليعيش هو الآخر حياته كما يريد وأنه أصبح غير مرتبط بناضيه أو بمدى نجاح أو فشل المهمة التي أوكلت له. يعمل هنري جيمس على معالجة الحالة التي تُصيب ستريثر والتحول في أفكاره ونظرته إلى أوروبا، والعمل كما يقول لوبوك على مسرحة المشاهد، حيث يجعل هنري جيمس ستريثر يُعبر عن فكره ووعيه وكل ما يدور في ذهنه للقارئ بشكل مسرحي درامي، موصلا للقارئ كل هذه الانطباعات والتداعيات الفكرية، ومهمته تفرق عن مهمة الممثل على خشبة المسرح الذي يعبر عن دوره بالأفعال والحركات ونبرات الصوت وملامح الوجه ويترك للمشاهد فهم الحدث، لكن ستيرثر عن طريق الحديث أو التعبير عما يدور في ذهنه، يوصل للقارئ كل هذه الأشياء بقالب درامي مشهدي.  

– من الأساليب السردية التي يستخدمها بعض الرواة بعرض القصة من خلال شخص مشاهد للحدث، ومن ثم نقله لهذه الحدث وتكون الدراما هنا عبارة عن صورة ومرور من مخيلة شخص ما، ثم تحديد ردة الفعل إزاء هذه الصور وهذا المرور. العرض سيكون هنا هو صورة عن صورة وعرض عن عرض ومخيلة عن مخيلة، هي سرد عن حدث لم يحدث أمام السارد بل حدث أمام شخصٍ يروري هذه القصة للسارد، واعتمادًا على ما يقوله الشخص السارد يتفاعل السارد الأصلي -المؤلف- للحدث.

– الفصل الخامس عشر، هو فصل عن بلزاك وبعض سماته الروائية التي تختص بالتفصيلات الدقيقة، التي لا يُمكن لبلزاك أن يكتب عن شخصياته دون ربطها والتفكير بالمنزل التي تسكنه، وتخيل الشخصية لديه مرتبط بتخيل المدينة والمقاطعة. إذًا، فالشخصية تنتمي إلى المكان الذي تعيش فيه، وهذا يجعل من تفاصيل المكان العامة والدقيقة جزءا محركا في الحدث الذي يقع للشخصيات. ويستمر في استعراض عدد من روايات بلزاك موضحا فيها أساليبه الروائية وطرق تعامله مع الزمن الروائي وتقدمه وتأثيراته، وكيفية التعامل مع الأحداث وسردها بطريقة توحي بالوعي الشامل بالقصة.  

– الفصل السادس عشر، وفيه عودة لتولستوي وأسلوبه المشهدي في رواية “آنا كارينينا” ومقارنة هذا العمل بأسلوب بلزاك الشمولي، حيث يوضح الفرق بين الأسلوبين وكيف سيكون عرض قصة آنا كارينينا لو كان كاتبها بلزاك. إن أسلوب تولستوي في هذه الرواية وتركيزه على تقلبات حياة آنا كارينينا دون الاهتمام الكبير بالأسباب التي دفعتها إلى أن تُنشئ علاقة خارج إطار الحياة الزوجية أو التمهيد الكافي لهذه النقلة. الأمر الدي سيختلف مع بلزاك إذ أنه سيكون مهتما بتاريخ آل كارينينا والبحث في ماضيها، والإحاطة بجميع الأسس التي تكونت عليها حياة آنا كارينينا، لكن هذا لا يعيب الرواية إذ استطاع تولستوي بأسلوبه المشهدي في السرد، وعرض قصة آنا كارينينا، أن يعطي للرواية حيويتها الكاملة، والدرامة اليومية الكافية لجعل الرواية تستمر نحو الأمام.  

– ينهي لوبوك كتابه بفصلين ختاميين يتحدث فيهما عن الراوي وكلمة ختامية عن النقد الروائي، ويذكر عدة ملاحظات: 

– إن الدراما في الرواية صارمة، ولذلك يجب أن يُبقي الراوي عيني القارئ مركزة على المشهد الذي أمامه، وأي عملية يُلقي بها النظر على المشهد من الأعلى تُضعف الأسلوب الروائي الدرامي. 

– القصص لن تتكيف بنفسها بصورة طبيعية مع وجهة نظر القارئ، ونحن نحسبها تصويرية أكثر مما هي درامية، لذلك يوجب الأمر شخصية تعرف كيف تتأمل الحقائق وتصوغ منها إحساسا معينا. 

– إن الكتاب بمثابة تجربة للإنسان فيمكن رواياتها، أو إنه التأثير العام الذي خلفته أشياء عديدة في ذهن معين، إنه تلاحم عناصر لا حصر لها وترسبات فترة من الزمن. وإن الطريقة المباشرة لتقديم هذه التجربة من قبل المؤلف نفسه أو الشخصية، يتطلب النظر في الماضي وتأمل أحداثه ومعالجتها، يستذكر الأحداث، ويمعن النظر فيها ثم يلخصها. 

– إن عملية قص الراوي لأحداث ما، تعني قص صورة الأحداث في الماضي كما يراها، وإن ما يراه القارئ هو مجرد انعكاس لهذه الأحداث في المرآة، ولا مجال للشك بها إذ تحدها حدود تجربة القاص الشخصية. وقد يستخدم المؤلف مجال نظر هذه الشخصية، ويحتفظ بها بأمانة، كما لو كانت تتحدث الشخصية بنفسها. 

– إن عملية النقد تسترعي قراءة بناءة للعمل الروائي وتتبع الأسلوب ودراسة الصيغ من أجل إعادة خلق للكُتّاب خلقا قويا كما يقول لوبوك أن هذا هو الاهتمام الوحيد للنقد اليوم. ويقول: لقد كان مؤلف الكتاب صانعا بارعا، وأن على الناقد أن يباغته وهو منهمك في عمله ويرى كيف صنع الكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى