عيار الشعر – ابن طَباطَبا
اعتنى العرب بالشعر عناية جليلة نظما وحفظا ورواية ونقدا ودراسة، ويكاد يكونون أكثر أهل الأرض اهتماما بالشعر، إن لم يكونوا كذلك حقا. ومع أن بداية شعر العرب مجهولة، حاله كحال العربية، فإن براعتهم فيه عظيمة، فعُرف شابا فتيا بلغ أوجه وعانق ذرى مجده منذ أكثر من ألف وخمسئة سنة، حتى صارت عيون الشعر القديمة مصادر للغة والتاريخ الغابر، وتسيدت المعلقات ما قرضه العرب حتى بعد مرور قرون طويلة، وصار الشعر ديوان العرب ومحفل المفاخر وسيف القبائل ولسان الخلفاء ويد السائل ومطية الراغبين في الخلود. رافق ذلك نقدهم الشعر ومعرفة جيده من رديئه، ويرجع واحد من أقدم أخبار النقد عندهم إلى ما روي عن زوج امرئ القيس أم جندب إذ نزل ذات يومٍ علقمة بن عبدة على امرئ القيس وتناشدا الشعر، وجعلا أم جندب حكما بينهما. فأنشد امرؤ القيس قصيدته:
خليليّ مرّا بي على أم جندب
لِتُقضى لباناتُ الفؤاد المعذّب
وأنشد علقمة قصيدته:
ذهبتِ من الهجران في كل مذهب
ولم يك حقا كل هذا التجّنب
فحكمت أم جندب لعلقمة لأن امرأ القيس حين وصف حصانه قال:
فللساق ألهوب وللسوط ذرةٌ
وللزجر منه وقعُ أهوج مِنعبِ
أما علقمة، وقصيدته مقاربة لقصيدة امرئ القيس موضوعا ووصفا وتشبيها، فقال واصفا فرسه:
فأدركهن ثانِيا من عنانه
يمر كمَرٍّ رائحٍ متحلّبِ
وعللت رأيها قائلة: إنَّ فرس علقمة أجود من فرسك لأنك زجرت وحركت ساقيك وضربت بسوطك، ولم يفعل هو بفرسه شيئا من ذلك. فغضب امرؤ القيس منها وطلقها، وتزوجها علقمة فلُقّب بعلقمة الفحل. ونقد بيت امرئ القيس يذكره ابن طباطبا في كتابه دون إسناده إلى أم جندب.
ولما استقر أمر العرب بالإسلام وبزغ نجمهم وعلت رايتهم وأسسوا دولتهم شرعوا في الكتابة والتدوين. فدونوا أجود ما قالته العرب في قصائدها، وأُفردت كتب عن نقد الشعر وصنعته وأدواته، من بينها كتاب عيار الشعر لابن طباطبا العلوي، وهو من أعلام القرن الثالث والرابع للهجرة. ولد ابن طباطبا وعاش في أصفهان حتى وفاته سنة 322 هـ، وكان من شعراء عصره، وله دراية في الشعر وتجربة. طبع ما بقي من شعره في ديوان ابن طباطبا، جمعه وحققه وقدم له الدكتور شريف علاونة. فقدت معظم آثاره الأدبية من بينها كتاب في العروض قال عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء إنه لم يُسبق إلى مثله. ويذكر ابن طباطبا نفسه في عيار الشعر أن له كتابا آخر اسمه “تهذيب الطبع” يستوفي فيه ما نقص في كتابه، فيقول “فهذه أمثلة لأنواع التشبيهات التي وعدنا شرحها، وفي كتاب تهذيب الطبع ما يسد الخلل الذي فيها، ويأتي على ما أغفلنا وصفه والاستشهاد به من هذا الفن إن شاء الله تعالى”. وهذا كتاب لم أهتد إليه وأحسب أنه مما فقد من آثاره. ينحو ابن طباطبا في عيار الشعر منحى تعليميا في نظم الشعر، وبيان ما يحتاج إليه الشاعر إذا ما أراد أن يكتب شعرا جزلا له وقعه في نفوس السامعين، ويسحر به ألباب المنصتين، ويكشف له عما يعتري الشعر من خطأ وعورات وضعف وعثرات، وما عليه اقتفاؤه حتى يتجنب ما وقع فيه السابقون ويسلك درب الشعراء الفحول، معززا نصائحه بشواهد من الشعر. وإن كان من شيء يؤخذ على الكتاب فهو كثرة الشواهد مع قلة شرحها وبيان محاسنها ومقابحها، إذ اعتمد على فطنة القارئ ورجاحة عقله، فلم يتوسع فيما أراد بيانه إلا قليلا. يبرز الكتاب عقل ابن طباطبا المتقد، ومعرفته بصنعة الشعر، وتوسعه في شعر العرب، وتمييزه الجيد من السيئ، وإن لم يسلّم له القارئ بكل رأيه ذهب إليه، غير أنه يحتفظ بفضله وجودته وحاجة الأديب إلى الاطلاع عليه والنهل من علمه.