التراث الآيسلنديالتراث الأدبيالنقد الأدبي

الأدب الآيسلندي-النوردي القديم Old Norse-Icelandic literature

مقدمة قصيرة - هيثر أودونوغي

يقدم هذا الكتاب في فصول خمسة متنوعة المواضيع الأدب الآيسلندي التراثي (1400-1100) مستعرضا تاريخ آيسلندا واستيطانها في القرن التاسع، ثم نشأة الأدب لا سيما السيرة الملحمية Saga، ومناقشا طبيعة السيرة الملحمية ونوعها وأصولها، ثم وصول الأدب الآيسلندي إلى إنجلترا وعلاقة الأدب الإنجليزي بالآيسلندي، وختاما تأثيره في نتاج  لفيف من أدباء اللغة الإنجليزية. 

كان الأدب الآيسلندي التراثي ركنا ركينا في الأدب الأوروبي القروسطي، وله قصب السبق في الإبداع النصيّ والأسلوبي وفي جعل الأدب وسيلة للحفاظ على الهوية والتاريخ، وإن لم يفرق كتّاب السير الملحمية الأوائل بين التاريخ والكتابة التخيّليّة Fiction. تمثلت قوة الأدب الآيسلندي في أنه كتب باللغة الآيسلندية المحكية (النوردية الغربيّة) بعد تبني الأبجدية اللاتينية، التي دخلت آيسلندا بعد تنصرها رسميا سنة 1000، عوضا عن الأبجدية الإسكندنافية (Futhrak). وبفضل انعزال جزيرة آيسلندا حافظ أهلها على لسانهم وبقي أدبهم يتداول ويتطور دون تغيّر اللغة، إذ عملت ديمومة اللغة، واحتفاظها بنحوها وصرفها وألفاظها وأساليبها، على إبقاء الآيسلنديين في تماس مع أدبهم وقراءته بلا انقطاع. ثم كانت المزاوجة ما بين غنى الإرث الوثني الثقافي والفكري والأدبي والدين النصراني عاملا في نشأة أدبٍ بقي في معزلٍ عن التأثير النصراني أو تنصيره، مما حفظ له هوية مائزة تنوّعت مواضيعه بفضل ذلك. بل إن الآيسلنديين لم يتنكروا لإرثهم الوثني فدوّنوا قصائد وكتبوا كتبا حفظت أساطير الأولين كما فعل سنوري ستورلوسون في كتابه الشهير إيدا النثري Prose Edda، وكذلك ما فعله الذين قيّدوا قصائد إيدا Poetic Edda (إيدا الشعري)، التي تناقلوها شفويا، في الصحف. وبهذا احتفظ الآيسلنديون بإرث إسكندنافي غني. وهذا ما افتقرت إليه أوروبا النصرانيّة سواء في لغاتها أو أدبها. حلت بعد ذلك حقبة ذهبية في الأدب الذهبي -القرنان الثاني عشر والثالث عشر- جعل فيها الآيسلنديون استيطانهم في آيسلندا، والمستوطنين الأوائل، وتحولهم إلى النصرانية، وحياة قادتهم وأساقفهم والمشهور من رجالهم، مادة غنية في كتابة أهم ابتكاراتهم الأدبية المعروفة باسم Saga (أفضل ترجمتها إلى السيرة الملحميّة والاكتفاء بلفظ سيرة). فهل كانت السيرة الآيسلندية رواية قروسطية أو كتاب وقائع تاريخية وما أصولها؟ يناقش أودونوغي ذلك في كتابه، ويعمد إلى عدها نوعا نثريا يروي قصة بأسلوب له خصائصه المميزة لكنه لا يشبه الرواية إذ تفتقر إلى ما أُسمي بلاغة الرواية، ويتقدمها عنصر حرية الراوي في سرد قصته دون موّجه أعلى، وهذا ما لا يوجد في السيرة لأن راويها يقصّها كما جاءته، ويرويها كما سمعها، ويسرد أحداثها كما وقعت دون أن تكون له يد في ذلك، في الأقل نظريا. مع ذلك فإن السيرة تمتاز بغنى أسلوبي وتنوّع موضوعي وتزاوجا ما بين النثر والشعر النوردي Skaldic Poetry، وتضمينها حكايات خرافية وأسطورية، ووظيفتها في الحفاظ على التاريخ ووقائع الماضي، وتصوير المجتمع تصويرا واقعيا لا سيما في السيرة العائلية. لعل هذا التداخل بين القصة المتخيلة والتاريخ الشفوي الحكائي جعل من العسير ضم السيرة إلى جنس الرواية أو جنس التاريخ، وتفرّدها في جنس أدبي يخصّها والآيسلنديين دون سواهم -ووضع بعض الدارسين عناصر مفتاحية لمعرفة بنية السيرة هي المقدمة، الصدام، الذروة، الانتقام، التصالح، ما بعد الواقعة-. أما كيف اهتدى الآيسلنديون لكتابة السيرة، فهذه مسألة أيضا أسالت الحبر وأثارت الجدل فقال بعضهم إنه ثمرة اتحاد التعليم النصرانيّ والتراث الشفوي، ورأى آخرون أنهم تأثروا بأسلوب الحكايات السلتيّة حين سكنوا أول مرة في أيرلندا ثم نقلوها إلى وطنهم الجديد، وزعم آخرون أنها من تأثير ترجمة الرومانس الأوروبي. سبّبت السيرة إثر هذا مرارة لدى بعض دارسي الأدب الإنجليزي الذين تساءلوا بحسرة لمَ لمْ يكتب مستوطنو إنجلترا في القرون الوسطى، من الأنغلوسكسونيين والقبائل الإسكندنافية، على الرغم من التماس ما بين الغزاة الفايكنغ وأهل إنجلترا، السيرة كما كتبها الآيسلنديون؟ ولم يبحث أودونوغي غياب السيرة الملحمية وكتابتها في سائر إسكندنافيا إذ هم أقرب إلى كتابتها من إنجلترا، وما منع الإسكندنافيين من كتابة السيرة على الرغم من التماس والتجاور والقرب اللغوي والوحدة السياسية قد يعطي تصورا أوضح لتفرد الآيسلنديين بهذا الضرب من التأليف. يجعل هذا وأكثر آيسلندا الرحم الخصبة التي أنجبت السيرة لالتقاء عوامل لغوية واجتماعية وفكرية ودينية وسياسية وتاريخية وجغرافية لم تلتق في أرض أخرى. تطور الأدب الآيسلندي في معزل عن أوروبا، بل وصفت آيسلندا في كتابات الرحالة في القرون الوسطى بأوصاف عجيبة، إذ حوطوها بوحوش البحر، وجعلوا أهلها كائنات بربرية تأكل الشمع وتغتسل بالبول، ووصفهم رحالة إنجليزية بأنهم “مخلوقات متوحشة”. لكن الآيسلنديين، ومنذ القرن الحادي عشر، كانوا على معرفة بالأدب الأوروبي واللاتيني وترجموا بعض الأعمال إلى الآيسلندية منها ملحمة الإلياذة المختصرة باللاتينية. ولما تعرّف الأوربيون عن قرب إلى آيسلندا، بدأوا بترجمة الأدب الآيسلندي إلى اللاتينية، وظهرت ترجمات متعاقبة لسير وقصائد، ومع مطلع القرن التاسع عشر ازداد الاهتمام الحقيقي بالأدب الآيسلندي ونقله إلى الإنجليزية ودخوله في أروقة الجامعات، وبدأت دراسته وربطه بالأدب الإنجليزي للتقارب اللغوي بين الإنجليزية والآيسلندية، وكذلك لأسباب عرقية إذ ربط بعضهم الإسكندنافيين (والآيسلنديون) بأهل إنجلترا، وأنهم من أرومة واحدة. يبرز مثال قصيدة بيوولف الملحمية نصا مشتركا ثقافيا ولغويا وجغرافيا ودينيا ما بين إنجلترا وإسكندنافيا، آيسلندا تحديدا، وهذا ما ناقشته سابقا في مقالتي عن قصيدة بيوولف. تتحدث قصيدة بيوولف عن البطل القوطي بيوولف وحياته وكيف قضى على ثلاثة وحوش في حياته هددت أرض الدنمرك وشعبها وأرض القوط (منقطة في السويد حاليا)، ويُرجَّح أن هذه القصيدة انتقلت إلى إنجلترا مع القبائل الإسكندنافية التي هاجرت من شمال أوروبا في الألفية الأولى حيث استقرت. لا تخرج جغرافية القصيدة عن حدود الدول الإسكندنافية (السويد، الدنمارك، فريسلاند “شمالي غرب أوروبا”)، وكذلك تقاليد تلك الأقوام الشمالية بما فيها حرق الموتى، وقاعة الاحتفال وشرب الميد، وأسماء الشخصيات، لكننا في المقابل نجد أن الديانة المسيحية التوحيديّة بعبادة رب الخلق والعالم هي المهيمنة على معتقد شاعر القصيدة الذي يتجلى في بعض مقاطعها في غياب تامٍ للأساطير الإسكندنافية وآلهتها، مثل أودين وثور، التي انتشرت عباداتها لدى هذه القبائل قديما، مما يُنشئ مفارقة تاريخية وتلاعب دينيّ بجعل بيوولف يتوكل على الرب في قتاله. ولعل أبرز تناقض في ذلك هو الاستمرار في طقس حرق الموتى الذي لا تقرُّه المسيحية التي تدفن الموتى كسائر الأديان الإبراهيمية كما حصل مع بيوولف وحرق جثمانه بعد موته. وقد يشير هذا إلى عملية التنقيح والتحرير الديني الذي طال القصيدة الشفوية عند تحولها إلى نص مكتوب باللغة الأنغلوسكسونية (الإنجليزية القديمة). إنَّ هذا التداخل ما بين مكان القصيدة، حيث تدور أحداث القصيدة، وزمانها في إسكندنافيا وما بين مكان تدوينها ولغتها في إنجلترا يجعلها عملًا ينتمي إلى أدبيّن، إذ يضعها بعضهم في أول سلّم الأدب الآيسلندي أو الإسكندنافي (إذ جرى التفريق بين الأدبين)، وتصبحُ بذلك من النصوص التأسيسية في الأدب الإنجليزي لغةً والآيسلندي والإسكندنافيّ نشأةً وموضوعًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى