التراث الآيسلنديالتراث الأدبيمقالات أدبية

الزواج والمرأة في سيرة هرولف بن قوطرك

Saga of Hrolf Gautreksson

سيرة هرولف بن قوطرك واحدة من السير المشهورة في التراث الآيسلندي إذ بلغ عدد مخطوطاتها نحو ستٍ وستين مخطوطة، يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة 1300. ينحصر موضوع السيرة في مسعى الزواج والمغامرة من أجل خطبة امرأة وزواجها، وما يعوق هذا المسعى من منافسين وآباء رافضين أو أعداء أو حتى نساء رافضات للزواج، وما يجرّه ذلك من معارك وحيل ونزالات تنتهي في صالح أبطال السيرة وفي مقدّمتهم الملك هرولف بن قوطرك بن قوطي. موضوع خطبة النساء ومسعى الزواج واحد من أكثر المواضيع رسوخا وتكرار في آداب الأمم ويكاد لا يخلو أدب منه، إذ الزواج تمام الرجولة ولا يبلغها الرجل إلا بالزواج. تبدأ سيرة هرولف بخبر الملك قوطرك في سيرته إذ يلازم قبر زوجته بعد وفاتها، ويسعى قومه ليتزوّج أخرى، لتبدأ معه سلسلة من مساعي الزواج لشخصيات السيرة، ما بين مفصّلة ومختصرة، يكون المسعى من أجل المرأة هي غاية الحكاية وأصل حَبكتها. أعلت السيرة من حكمة النساء ورجاحة عقولهن وصواب رأيهن، وتكاد تكون سيرة في مديح عقول النساء، على عكس السائد في آداب أمم أخرى لكن ليست الحال كذلك في الآداب الإسكندنافية. تتوزع وقائع السيرة على بلدان كثيرة تشمل إسكندنافيا وروسيا وبريطانيا وإسكتلندا وأيرلندا، مما يعطي مسعى الزواج طابعا توسعيّا وشموليا لجغرافيا الحكايات الخرافية الآيسلنديّة، وتبرز فيه سمة العالميّة لا المحليّة، فالزوج الكفؤ تضرب لها أكباد المطايا ويُشق لها عُباب البحار على متون السفين.

مسعى الزواج 

يرتكز موضوع سيرة الملك هرولف على مسعى الزواج وخطبة النساء وطلب المرأة الكفؤ لتكون زوجة ملكٍ وتُنجب ورثة ملكه من بعده، ولمّا كانت الغاية من الزواج عظيمة فلا بد لهذه المرأة المنشودة أن تكون عظيمة أيضًا. أتحفتنا الأساطير والقصائد الإسكندنافية القديمة بعددٍ من قصص الزواج وطلب المرأة الشريفة بكلٍ سبيل ممكن حقا كان أو باطلا، سواء تحقق مراد الخاطب أم لم يتحقق. وفي سيرة هرولف تدخل عناصر أخرى في مسعاه مثل منافسة غيره أو بمنافسة المخطوبة نفسها أو قتال وليّها الرافض للزواج. تتشكل أجزاء حكاية مسعى الزواج من غاية الزواج وطرحه على الرجل، السؤال عن المرأة المنشودة وإيجادها، الشروع في خطبة المرأة التي تتخللها الموانع، الزواج بالمرأة بعد تجاوز الموانع. تبدأ السيرة بخبر الملك قوطرك الذي آثر ملازمة قبر زوجته المتوفاة واعتزال الناس فنسي ملكه وسياسته، فاجتمع إليه خاصة قومه ومستشاروه يطلبون إليه أن يتخيّر زوجة ينجب منها ابنا يكون خلفا له في الملك، فما أرادوا أن يحكمهم رجلا من غير سلالته. فسعى في خطبة إنغبيورغ المشهورة بالحسن والذكاء، فنافسه عليها أمير يُدعى أولاف، فاختارت إنغبيورغ في خُطبة ذات بلاغة وبيان ورأي سديد قوطرك على غريمه، الذي رغب في الانتقام وقاتل بجيش يفوق عدده موكب الشيخ العروس قوطرك فغلبه الشيخ وأثبت نفسه جديرا بالعروس بالصيت والشجاعة، وأكّد رجاحة عقل إنغبيورغ في تفضيله على سواه. يعلّم مسعى الزواج الأول مسارَ السيرة إذ تتكرر الحكاية على اختلاف أحوالها وحبكتها مع ابنه هرولف وثورنبيورغ، ثم ابنه الآخر كيتل وآلوف، ثم صديق هرولف آسموند وإنغبيورغ، وتزوّج آخرون مثل إنغيالد والمحارب الجسور ثورير والمحارب الآخر غريم. تتشابه النساء المنشودات للزواج في سماتهن بل تطغى على كلّ امرأة ترد في السيرة صفاتُ الحُسن والذكاء ورجاحة العقل والبصيرة، ويتفوّق جمعهن على جمع الرجال، فإذا ما برز هرولف بحسن سياسته الأمور وإدراكه بواطن الأمور وامتيازه بالحكمة وسداد الرأي، فإن نساء السيرة كلهن، لا سيما المخطوبات، لهن من الحكمة والرزانة ما يجعلهن في المقام الأول دون سواهن. بل أبرزت السيرة خفة عقول الرجال وتهورهم وغياب الحكمة والبصيرة عند المُلمّات لتحضر النساء المصباح المنير والهادي الرشيد إلى الصواب. حين حار الأب ثورير في أمر الخاطبين قوطرك وأولاف ترك الخيار لابنته إنغبيورغ لتختار بعلها، وحين أراد الملك هرنغ أن يغدر بصاحبه الملك قوطرك حجزته امرأته ببصيرتها عما أراد وأشارت عليه بما يفعل، وكان الحق فيما ذهبت إليه. أما ملك السويد إريك فقد كانت عقيلته ذات رؤى وأحلام ومؤوّلة مصيبة التأويل لها، وهي مستشاره الوثيق، بل موجّهته فيما يجب أن يفعله وما لا يجب، وكعادتها أصابت في كلّ رأي ذهبت إليه ومشورة أشارت عليه بها. وكذا حال ثورنبيورغ زوجة هرولف، وإنغبيورغ زوجة آسموند. إذًا فالحكمة لصيقة بنساء السيرة، ونادرا ما نقرأ سيرة أو حكاية إسكندنافية تكون كفة النساء راجحة على الرجال في العقل والبصيرة على نحو يبدو حتى تهكّميا ساخرا، لا سيما أن غالب هذه الحكايات عن الغزو والحروب والمغامرات التي تتطلب الرجال والمقاتلين. لا يعني ذلك أن مقام النساء مبخوس في الحكايات غير أن لهن مكانتهن المتوافقة مع حالهن الاجتماعية، فهي حكيمة في الشأن المخصوص بها لا سواه كالملك وسياسة الرعية وتدبير شؤونهم، لذا قد تستبطن السيرة غايات لا يكشف عنها السطح. لم ينتقض هذا العقد بين النساء والحكمة إلا في حدثين ثانويين كان الأول مع العجوز التي طلبت من الملك هرولف علاجا للشيخوخة فعالجها آسموند بضرب عنقها، ثم علم من الملك عيلا أنّها كانت عجوز سحر وشر، وخير ما فعل بأن خلّص البلاد والعباد منها. والحدث الآخر كان في نهاية السيرة حين جاءت ثورنبيورغ في جيش من أجل إنقاذ الملك هرولف بعد هزيمته وأسره في أيرلندا، فشرعت في حرق القصر، ولم تدرِ أن الملك هرولف في إحدى حجراته قد أنقذته الأميرة إنغبيورغ، فخرج إليها وحين عرف فيها زوجته قال موبّخا “من العسير الثقة بنساء من شاكلتك حين جئت تريدين حرقي في الداخل”، فأجابته “عليك أن تكبر صنيعنا إن شئت ذلك”. يبدو توبيخ الملك هرولف لزوجته التي جاءت تسعى لإنقاذه بعد هزيمته المذلّة في أيرلندا سخرية من حاله لا إهانة لها، وما كان جوابها إلا دليل ذلك إذ طلبت منه أن يُجلّ فعلها لا أن يرميها بالسوء. في تلك الحال العصيبة وحين غلب على الملك الحكيم الرزين هرولف ضعف بصيرته واستعجاله كان جواب زوجته العاقلة واضحا أن هدّئ من روعك فقد جئنا لإنقاذك لا قتلك. لم يطش صواب ثورنبيورغ ولا استعجلت في الرد فالحكمة غالبة عليها في حلّها وترحالها، كسائر النساء في السيرة. يدفعنا هذا إلى السؤال هل كاتب هذه السيرة امرأة؟ لا سيما مع تكرار الحبكة بين خطبة وأخرى، إذ السيرة مؤلّفة من حكايات متكررة في مسعى الزواج تكللت بالنجاح دائما؟ تساؤل مشروع غير أن الجواب غير أكيد، ولعلّ الكاتب أراد انتقاد حالٍ بأن وصم الرجال بقلة البصيرة وأنهم بحاجة دائمة إلى طلب المشورة والنصيحة، بل والاستماع إليها والعمل بها حتى لا يردوا المهالك، وكثيرا ما وردوها فأنزلوا بأنفسهم وقومهم الشرور والخسران، ولعلّها سيرة ساخرة بأن صوّرت الشيء على غير حقيقته، أي حكمة النساء.   

يكشف مسعى الزواج عن حقيقة اجتماعية عند القبائل الإسكندنافية متمثلة في أنّ الملك بحاجة ماسة إلى زوجة، فالزواج هو تمام الرجولة والملك والبطولة، ولا معنى لملكٍ ومُلكٍ من دون امرأة، ولا بطل من دون امرأة، وإنْ جرّت عليه الهلاك كحال سيغورد قاتل التنين. حين يسأل هرولف أخاه كيتل عما ينقصه في حكمه فأجابه “لمن يسير رؤية ذلك، وهذا في أنك عَزَب بلا امرأة، ولو تزوّجت لأجلّك الناس أكثر من ذي قبل”. ونرى بعد حين من زواج هرولف سعي كيتل المحموم للزواج، ومن بعد زواجه يحوم آسموند حول الزواج حوم الحمام العطش حول الماء. كلهم يريد الزواج، فهي أمارة تُعلّم كمال الرجولة، ولا معنى حتى للمُلك من دون زواج. لذا نرى أن مسعى الزواج محفوف بالأخطار وليس مفروشا بالورد، فما رغبة الرجل في مرأة يتزوّجها إلا رغبة في إثبات رجولته، فتحتّم عليه حينذاك أن يتغلّب على ما يواجهه من أخطار وخصوم. ولو كان ذا زوجٍ يوما، وملكا أثبت رجولته في قومه، فإن الزواج الجديد يتطلّب أن يعيد الكرّة ليثبت للمرأة الأخرى جدارته بها واستحقاقه لها كحال الملك قوطرك في زواجه الثاني. لكل امرأة مسعى، ولكل زواج شروط، لا بد أن تتوفر في الخاطب وعليه أن يُتمّها جميعا حتى ينال المرأة عن حقٍ وحقيق. إذًا فمسعى الزواج ليس خطبة امرأة ينتهي بزواجها بل رحلة إثبات الجدارة بتجاوز العقبات، وإقصاء الخصوم، والفوز بالعروس جائزةً في آخر مطاف يقطعه أكثر منها غايةً يبلغها في آخر الرحلة، فتُعلّم اكتمال الرجولة والبطولة والمُلك. 

المرأة المسترجلة 

برزت من بين نساء السيرة الحكيمات والحسناوات امرأة، شذّت عن البقية إذ كانت محاربة جسورة ومقاتلة باسلة، هي ثورنبيورغ ابنة إريك ملك السويد. ليست المرأة المحاربة شخصية غريبة عن الحكايات الإسكندنافية والسير الآيسلنديّة ولا عن الواقع الاجتماعي لقبائل شمال أوروبا الوثنية، إذ المرأة تحارب عند الضرورة مثل الرجل، ولا يقلل ذلك من أنوثتها أو يمنعها من تعلّم مهام النساء وأدائها. تبرز برنهيلد أبرز محاربة في التاريخ الأدبي الإسكندنافي، ودورها شهير في قصة سيغورد قاتل التنين، وكيف آثرت القتال وقيادة الجيوش على القعود في البيت تنهض بأعمال النساء، وإن انتهى بها المطاف زوجة رجل. وكذا حال الفالكيريات، محاربات أودين، ورسله اللائي يبعث بهن إلى سوح الوغى بعد أن انتهاء المعارك ليلتقطن القتلى الأبطال ويصعدن بهم إلى قصر القتلى، فالهالا، حيث يستقبلهم أويدن، ويبقون في نزالات واحتفالات حتى معركة نهاية العالم، راغناروك. وتحضر الأرواح المحاربات، المعقّبات، ليحمين المحاربين أو يعنّهم في معاركهم ومهامهم، وهنّ مخلوقات سماويّة هامشية التأثير غالبا. إذًا، فالمرأة المقاتلة ليست أمرا غريبا أو فريدا، غير أنه مع ثورنبيورغ يستحق الوقوف عنده، ذلك لأنها لم تكتفِ بأنها مقاتلة بل رغبت في الاسترجال وأن تُعامل كرجل، مثل هيرفور في سيرة الملك هيدرك الحكيم إلى حدٍ ما. نشأت ثورنبيورغ في حجر أبيها الملك، فتعلّمت ما تتعلمه النساء في قومها، لكنها زادت عليه بأن تعلّمت ما يتعلّمه الرجال أيضا من فروسية ومطاعنة ومسايفة ومقاتلة، وشبَّت بنزعة إلى الحرب وذات صبغة رجوليّة، مخالفة مشيئة أبيها الذي أراد لها أن تلزم خدرها كسائر النساء. لم ترض ثورنبيورغ بذلك وآثرت أن تكون كالرجال، في شخصها وعملها. طلبت إلى أبيها بعد أن اشتدَّ عودها وبلغت أن يُسلم إليها ثلث مملكة السويد لتحكمها، وحجتها في ذلك أنَّها وريثته والموكلة بأمر المملكة من بعده، ولزاما عليها أن تعرف سياسة الملك والبلاد والعباد. فلا معرفة بلا مباشرة الحكم بنفسها، وأنها لو حكمت ستكون في مأمن من الخاطبين الذين تردّهم وترفض زواجهم. قامت محاججتها على عنصرين، الأول في طلب المعرفة بالعمل والمعاينة والآخر في تحصين المملكة من أيدي أعدائها المحتملين. انطوى العنصر الثاني من محاججتها على نية مبيّتة من ثورنبيورغ قائمة على رفض الخاطبين، أي اعتزال الرجال ومنعهم من الاقتراب منها حتى بالزواج. أذعن أبوها الملك لما طلبت منه، وأقطعها ثلث مملكته لتحكم شعبه وتسوس أمره وتقود محاربيه. غير أنَّ الحكم وحده لا يكتمل عندها من دون أن تتخلّص من كلِّ ما يميّزها عن الرجال، أي التخلّي عن الأنوثة، وهي فطرية بها، فغيّرت اسمها واتّخذت اسم ذكر ثوربيرغ، وغيرت هيئتها فلبست كما يلبس الرجال، واختتمت الاسترجال بأن حظرت على حاشيتها ورعيتها أن يُخاطبوها مخاطبة الأنثى. أدركت ثورنبيورغ أنّ الاسترجال لا يكتمل إلا باللغة، فغيرت اسمها ثم أمرت أتباعها بأن يخاطبوها مخاطبة الرجل، فهي اليوم ملك لا ملكة، ومحارب لا محاربة، ورجل لا امرأة. اكتملت حينئذ الحال التي عاشت فيها ثورنبيورغ وتحصّنت داخلها، فأصبحت ملكا وحرّمت نفسها على الرجال، وجعلت تردّ من يأتيها خاطبا بالسخرية والاستخفاف والإهانة، قد أعانها على ذلك شجاعتها، وقوّة قومها، فتركت من يخطبها ينقلب على عقبيه يجلله الخزي والعار. وصار من يأتي ليخطبها حينئذ بمنزلة من يأتي ليُنزل بها إهانة تستحق العقاب، وذلك لسببين، وإن كانا رمزا لا حقيقة، يوجبان الردّ المكافئ في الإهانة. الأول في أنّ خطبتها وهي رجل تعريض برجولتها ورميها بالأُبْنة والتخنّث، وفي مجتمع فحوليّ حربيّ فهذا تعريض ما بعده تعريض، وسبة ما بعدها سبّة، والآخر أن زواج الأنثى مجلبة للضعف وأمارة على التابعيّة، لذا فمن يأتي لخطبتها كأنه جاء يطلب منها أن تعلن له الطاعة والولاء وتدفع الجزية مقابل الحماية أو تسليم أمر مملكتها ليديه حتى يكفّ عن غزوها وحربها. وبهذا فإنّ الخطبةَ حسب السببين، اللذين فرضتهما ثورنبيورغ على قومها والأجانب، إيذانٌ بالمعاداة والحرب توجب إما الاستسلام وإما القتال، خفَّ أو ثَقُل. لم تجبن ثورنبيورغ عن طرق سبيل القتال بكل جسارة ووقاحة وشجاعة. ولتعذرنا بمخاطبتها مخاطبة الأنثى، وهذا أمر تنبّه إليه الراوي إذ خاطبها في فصول استرجالها مخاطبة الذكر في الوصف والضمائر. عزمت ثورنبيورغ سلفا على ما وقع لاحقا حين سلكت مسلك الرجال وطلبت إلى أبيها ثلث المملكة، ثم حققته بالهيئة واللغة، ثم مارسته وبلغت به حدَّ المجاوزة والمغالاة بإهانة الخطّاب بإذلال واستحقار. ولعلّها تحقّر من الرجال لأنها امرأة تتمنى أن تكون مثلهم، ومحال عليها ذلك، فلزمها أن تُخرّب هذا المثال وتحطّ منه حتى لا يبقى فارقًا بينها وبينه، ما دامها تقوم بأعمال الرجال وتهينهم بعد أن تشبّهت بهم.  

يُضمر استرجال ثورنبيورغ أكثر مما يكشف، فهو نتاج تقاليد اجتماعية وعادات قبليّة رأت في الأنثى رمزا للضعف، وفي الرجل رمزا للقوة، وفي الزواج أمارة للتابعية، وهو ضعفٌ كلُّه جسديا بأن يعلوها الرجل ويكبح جماحها، وفكريا بأن تخضع له في سائر شأنها. ولامرأة جامحة وأميرة ابنة ملك أرادت أن تكون كالرجال يشي برغبة نفسية دفينة في ألا تخضع، وأن تأمر لا تُؤمَر، وأن تقود لا تُقاد، وليس لها هذا حين تلزم مخدعها وتقوم بأعمال النساء. إنَّ انقلاب أدوار النساء والرجال، المتزوجون منهم في السيرة، جليّ لا لبس فيه، وأخذت الشخصيات الأنثويّة صورا متعددة. فأولا لدينا المرأة الحكيمة التي يقع على عاتقها أن تختار زوجها بنفسها لا باختيار أبيها، ولدينا المرأة المتحكمة بأفعال زوجها بأن ترشده وتجعله ينزل على رأيها لرجاحته، ولدينا المرأة المغرورة، آلوف، والرافضة لقول نعم لمن يسألها حتى لو سألها في وجهها، وردّت الخطّاب وسخر منهم محاربو أبيها. يغلب هذا الطابع على النساء في السيرة فكلّهن لا يردن الخضوع للرجل، ويتمرّدن عليه، وكلٌّ حسب منزلتها وقدرتها. سلكت ثورنبيورغ الطريق الأوضح والأصعب بأن تكون رجلا ومحاربا وملكا، ولتدعيم هذه الأحوال الثلاث رفضت الزواج بل طردت مهينة من يقبل عليها يسألها إياه. مثّل الزواج، كما جاء في عدة نصوص إسكندنافية وجرمانيّة، ضعف المرأة، ولا أعني بالضعف اتباعها زوجها في أمورها وخضوعها الجسديّ له بل الضعف بمعنى استلاب القوة. ترتبط هذه القوّة بالبكارة، ويقترن الضعف بالافتراع، فالعذراء قويّة قوة جسمانيّة ونفسانيّة والثيّب ضعيفة ضعفا جسمانيّا ونفسانيّا، وإن انتقال الانثى من حال العذراء إلى حال الثيب هو انتقال من حال القوة إلى حال الضعف، وتضحي المسألة صراعا بين البكارة والافتراع. لم تصرّح سيرة هرولف بهذا لكنها كشفت عنه في سلوك ثورنبيورغ. وإذا ما وسّعنا دائرة الاستقراء سنقف على نصوص إسكندنافية وجرمانية أكّدت هذه الحقيقة المتخيّلة لدى تلك الأقوام في تلك الأزمان. يرد في نشيد النبيلونغ الجرمانيّ، وأكّدته سيرة ثيدرك ملك بيرن صراحة لا تلميحا، أن زواج برنهيلد بغونتر الذي افترعها بالحيلة والخداع قد سلبها قوّتها وجعلها امرأة كسائر النساء بعد أن كانت ملكة جبّارة قوية متغطرسة، غير أنّها هُزمت بالغش أمام الرجل في مسابقة الزواج على نفسها ورأسه، وهُزمت بالغش في الفراش أيضا، فسُلبت ما كان لها من قوة سلبا نزل بالكارثة في آخر المطاف على الرجلين اللذين خدعاها. لا تختلف كثيرا حال ثورنبيورغ إلا في أنَّها حاربت الملك هرولف وجيشه، وابتنت حصنا منيعا حول مدينتها، وقاتلت في معركة فاصلة انتهت بهزيمة جيشها واستسلامها. في أثناء المعركة وحين يُقاتلها كيتل أخو هرولف ويتمكّن منها يضربها بعرض سيفه على عانتها، ويقول لها هكذا سنهرش لك حكة عانتك، في إشارة واضحة إلى أنّ هزيمتها في المعركة كناية عن هزيمتها في الفراش، إذ تحضر هذه الإلماحة بالضرب على العانة بما تحمله من دلالة رمزيّة عن المرأة، والرجل يضرب على كفليه سواء بعرض السيف أو بقطع جزء من مأكمته إلماحا إلى هزيمته العسكرية والرجوليّة ورمزا لتخنّثه. أقرّت ثورنبيورغ بهزيمتها عندئذ ورضيت بالزواج لكنها طلبت من الملك أن يخطبها إلى أبيها الذي أصبح الآن، بعد أن كبح جماحها، وليّها والمسؤول عنها، في عودة إلى الأدوار الطبيعية للرجل والمرأة في المجتمع. وحين رجعت إلى أبيها وأعلمته بخسارتها صارحها برغبته القديمة المتجددة في أن تلزم مخدعها وتقوم بشؤون النساء، فخضعت لأبيها هذه المرة فسلّمت سلاحها لحفظة الملك وقصدت أمها لتطرّز معها، فرجعت إلى حيث ابتدأت وقد كرهته ذات يوم. ينتقل دور ثورنبيورغ بعد زواجها إلى حال المرأة الحكيمة والمستشارة لزوجها، وإن كان هرولف حكيم ليس بحاجة إلى مشورة من زوجته أو آخرين. غير أنها في الوقت نفسه احتفظت بقدرتها على القتال، وعلى أهبّة الاستعداد للوثوب إلى السلاح والميدان إذا ما استدعى الأمر ذلك، وهذا ما كان بعد أن أسر هرولف في أيرلندا فجاءته زوجته تسعى بجيشٍ لتحريره.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى