ديوان أُميَّة بن أبي الصَّلْت

ما أكثرَ الشعراءَ العرب قديما وحديثا، وما أعسرَ الإحاطة بكلّ شعرهم. ولعلّ الواحد فينا إنْ لم يكن متخصصا أو باذلا وقته جميعا لقراءة دواوين الشعراء لما كافاه عمره في الوقوف عليهم كلهم ولا الإحاطة بأشعارهم كاملة، ونبقى على حال من المقاربة والتسديد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. غير أنّ المرء يجد نفسه أحيانا مندفعا إلى شاعرٍ دون سواه، لأسباب تخفى أو تجلو، وهذا ما اتّفق لي مع الشاعر أُمية بن أبي الصَّلْت في رمضان الفائت وأنا أقرأ في صحيح مسلم كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل صحابته عن شعر أمية وأن ينشدوه مما يحفظونه من شعره، حتى هفت نفسي لقراءة ديوانه حبًا برسول الله، والمرء مع من أحبَّ يوم القيامة حشرنا الله في زمرة نبيه، وقد فرغت من قراءته منذ أيام.
أورد مسلم في صحيحه، في كتاب الشعر، عن عمر بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال “هل معك من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلت؟”، قلت “نعم”، قال “هيه” فأنشدته بيتا، فقال “هيه” ثم أنشدته بيتا، فقال “هيه” حتى أنشدته مئة بيت. وفي حديث آخر قال: وزاد، أي رسول الله، قال “إن كاد ليسلم”. وفي حديث آخر قال “فلقد كاد يسلم في شعره”. وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل. وكاد [أُميَّة] بن أبي الصلت أن يُسلم. وأورد البخاري هذا الحديث في صحيحه في كتاب الأدب، حديث رقم 6147، وفي كتاب مناقب الأنصار، حديث رقم 3841. وجاء في حديث آخر في الاستيعاب ص 1889 “أن أخته الفارعة قدمت على رسول بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب بها، وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟ فأخبرته خبره، وما رأت منه، وقصَّت قصّته في شق جوفه، وإخراج قلبه، ثم صرفه مكانه، وهو نائم”.
عاش أميّة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف ضمن الحجاز ما بين سني 550-625م، وكان رجلا عارفا جوّالا كثير الترحال في البلاد ذا علم ودراية بأحوال عصره، وعارفا بعلوم أهل الكتاب، حتى إنه عرف الصفات التي يكون الرجل بها نبيًّا، كما وصفه الجاحظ، وكان يهمُّ بادعاء النبوة ويتمناها لنفسه لا سيما بعد قراءته كتب اليهود والنصارى ومعرفته باقتراب أجل ظهور نبي في العرب. ولعل رفضه اعتناق الإسلام بعد بعثة النبي لما كان عليه من تأميل النفس بأن يكون هو نبيًا، وإنْ شهد أمية بصدق رسالة النبي، وأيضا خجله من قومه لما كان يقول لهم عن نفسه، كما ورد في أكثر من أثر منه أنه قال لأبي سفيان حين لقيه وعلمَ ببعثة النبي: “اتّبعه فإنه على الحق. قلتُ فأنت؟ قال لولا الاستحياء من نُسيات ثقيف إني كنت أحدثهم أني هو [أي النبي] ثم يريني تابعا لغلام من بني عبد مناف. وفي آخر أنّه خرجَ إلى رسول الله صلى عليه وسلم ليسلم فلقيته جماعة من قريش، وسألوه أين يريد فقال أريد محمدا، قالوا له أتدري من في هذا القليب، وكان فيه قتلى قريش، فقال لا، قالوا له إنّ فيه عتبة وشيبة ابني ربيعة، ابني خالك، وفيه فلان، فلطم وجهه وشق جيبه ولوى زمام ناقته وأنشد قصيدته التي رثى بها قتلى بدر من الكافرين، ومطلعها:
هلّا بكيت على الكرا * م بني الكرام أولي الممادح
كبكا الحمام على فرو * ع الأيك في الغصن الجوانح
وقيل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية قصيدته المذكورة. وورد أيضا أنه عند موته قال: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيّتي، وأنا أعلم أن الحنفية حقٌّ، ولكن الشك يداخلني في محمد. وورد في شعره مديح للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولربما يكون شعرا منحولا عليه، أذكر منه بعض الأبيات في آتي المقال.
اختلف في دين أمية فذهب بعضهم إلى اليهودية، وإلى النصرانية، وبعضهم إلى الإسلام، وبعضهم إلى الحنفيّة وهذا الغالب عليه. ولعلَّ القارئ شعره لا يشك أنَّه مسلم أو أنّ شعره إسلامي لكثرة ذكره الله واليوم الآخر والعقاب والحساب، وما أورده من قصص القرآن والوصف القرآني، الذي يكشف جليا أنه استمع إلى القرآن بل ربّما حفظَ شيئا منه، ومديح النبي، غير أنّ الراجح موته على الكفر، وكما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم كاد يسلم، أي إنه شارف على الإسلام لكنه لم يسلم، وفي حديث آخر يرد عن النبي أيضا قوله “آمن شعره وكفر قلبه”. وفي آخر المطاف فإنّ دينه لنفسه وشعره لنا، والله يتولى الحساب والمصير.
اشتهر أميّة من بين شعراء العرب لأنه اختطّ لنفسه موضعا لم يشابهه به أحد من معاصريه أو لم يقتفِ به أثر سابقيه، وكان مرجعا للاحقيه، وهو الشعر في الآخرة والخَلقْ والإله والحساب والأنبياء، أي موضوع الدين. يقول عنه الأصمعى “ذهب أميّة في شعره بعامة ذكر الآخرة، وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة عامة ذكر الشباب”. ولو كان لأميّة شعرٌ في غير ذكر الآخرة فإنّ عامة ما عندنا من شعره عن الآخرة. وأورد الأصفهاني في الأغاني: قال أبو عبيدة: “اتّفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب، ثم عبد قيس، ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت. وقال الكميت بن زيد الأسدي: أمية أشعر الناس، قال كما قلنا، ولم نقل كما قال”. تؤكد هذه الأخبار صيت أمية وجودة شعره وتميّزه عن أترابه غير أنَّ ما تفرّد به كان في طيّاته ما هوِّن من شعره لغويا فما اُحْتُجَّ بشعره في العربية، إذ أتى بألفاظ لم تعرفها العرب في كلامها، وغالبا مصادرها كتب أهل الكتاب والكتب القديمة، مثل ساهور وهو غلاف القمر، وسمّى السماء صاقورة وحاقورة وبرقع، وسمّى الله عز وجلّ بالسلطيط والتغرور، لذا قال ابن قتيبة “وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلة”.
لم يرد في شعر أميّة مدحٌ كثير غير أنه مدح عبد الله بن جدعان غير مرة، وهذا رجل من سادات قريش وكرامهم واشتهر بكرمه وفضله، منه قصيدته:
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إنّ شيمتكَ الحياءُ
وكذلك قصيدته:
علم ابنُ جدعان بن عمــــ * ـرو أنه يوم مدابرْ
ومسافر سفرا بعيـــ * ــدا لا يؤوب به المسافرْ
ومدح سيف بن ذي يزن في أبيات مطلعها:
جلبنا المدح تحمله المطايا * إلى أكوار أجمالٍ ونوقِ
ومدح النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدري أهو من صحيح شعره أو المنحول عليه:
فيقول في قصيدة:
ألا أيها القلب المقيم على الهوى * إلى أي هذا الدهر منك التصددُ
عن الحق كالأعمى المحيط عن الهوى * وقد جاءك النجد النبي محمدُ
بنورٍ على نورٍ من الحق واضح * دليل على طرق الهدى ليس يُخمد
ويقول في قصيدته أخرى:
محمد أرسله بالهدى * فعاش غنيًّا ولم يُهتَضَمْ
عطاء من الله أُعطيتَه * وخصَّ به الله أهلَ الحرمْ
وقد علموا أنه خيرُهم * وفي بيتهم ذي الندى والكرمْ
…
أطيعوا الرسولَ عباد الإلــ * ــه تنجون من شرّ يوم ألمْ
وتنجون من ظلمات العذاب * ومن حرّ نارٍ على من ظَلَمْ
دعانا النبيُّ به خاتمٌ * فمن لم يجبه أسرَّ النَدَمْ
*
من شعر أميّة الكثير الذي في جاء في ذكر الله وخلق السموات والأرض والملائكة والأنبياء واليوم الآخر، وهو ما يُعرف بموضوع الآخرة، قصيدته:
لك الحمد والنعماء والملك ربنا * فلا شيء أعلى منك جدًا ولا مجدُ
وقصيدته:
والأرضَ نوّخها الإله طروقةً * للماء حتى كلُّ زَندٍ مُسفِدُ
وقصيدته:
عرفتُ أن لن يفوتَ اللهَ ذو قَدَمٍ * وأنّه من أميرِ السوء ينتقم
وقصيدته:
ويوم موعدهم أن يُحشروا زمرا * يوم التغابن إذ لا ينفع الحذرُ
وهي من القصائد التي تبيّن معرفته بالقرآن وآيه ما لم تكن منحولة عليه إذ يقول فيها:
وآخرون على الأعراف قد طمعوا * بجنّة حفّها الرمّان والخُضَرُ
يُسقون فيها بكأس لذةٍ أُنُفٍ * صفراءَ لا ترقبٌ فيها ولا سُكُرُ
مزاجها سلسبيل ماؤها غدق * عذبُ المذاقة لا مِلحٌ ولا كَدَرُ
وقصيدته:
إله محمد حقًا إلهي * وديني دينه غير انتحال
يقول فيها في وصف أهل النار:
إلى نارٍ تُحشُّ بصمِّ صخرٍ * وما الأوصال من أهلِ الضلالِ
إذا نضجت جلودهم أعيدت * كما كانت وعادا في سِفالِ
ونادوا ويلنا ويلا طويلا * على ما فاتنا أُخرى الليالي
فهم متلاعنون إذا تلاقوا * بها لعنا أشدَّ من القتالِ
فنادوا ويلنا ويلا طويلا * وعجّوا في سلاسلها الطوالِ
إذا استسقوا هناك سقوا حميما * على ما في البطون من الأكالِ
شرابهم مع الزقوم فيها * ضريع يجتلي عقدَ الخبالِ
وفي وصف أهل الجنة يقول:
ظلال بين أعناب ونخل * وبنيان من الفردوس عالي
لهم ما يشتهون وما تمنوا * من الأفراح فيها والكمالِ
ومن إستبرق يكسون فيها * عطايا جمَّة من ذي المعالي
ومن خَدَم بها يُسقون منها * كدرٍّ خالصِ الألوان غالي
وأشربة من العسل المصفّى * ومن لبنٍ ومن ماء السجالِ
وكأس لذةٍ لا غول فيها * من الخمر المُشعشةِ الحلالِ
ومن شعره في قصص الأنبياء، قصيدته في ثمود والناقة:
كثمود التي تفتّكتِ الدين * عُتبا وأمَّ سَقْبٍ عقيرا
وفي فرعون قصيدته:
ولفرعونَ إذ تساقَّ له الما * ء فهلّا للهِ كان شكورا
وفي قصة نوح قصيدته:
سمع الله لابنِ آدمَ نوحٍ * ربنا ذو الجلال والإفضالِ
وأيضا:
مُنجِ ذي الخير من سفينة نوحٍ * يوم بادت لبنان من أخراها
وفي قصة إبراهيم وابنه قصيدته:
ولإبراهيمَ الموفّي بالنذ * ر إحسابا وحاملِ الأجزالِ
وفي قصة عيسى بن مريم قصيدته:
وفي دينكم من رب مريمَ آيةٌ * مُنبِّئة بالعبدِ عيسى بن مريمِ
وفي قصة لوط قصيدته:
ثم لوطٌ أخو سدوم أتاها * إذ أتاها برشدها وهداها
*
ومن حكيم شعره:
بالحزم تظفر قبل البأس والجَلَد * والحزمُ بالرأي تجنيه مدى الأبد
والرأي تحصين أسرارٍ تروم بها * إدراك حاجكِ في قُربٍ وفي بُعُدِ
–
من يطمس الله عينه فليس له * نور يبين به شمسا ولا قمرا
–
كلُّ عيشٍ وإنْ تطاولَ دهرا * صائرٌ مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
اجعلِ الموتَ نُصْبَ عينك واحذر * غَولة الدهر إن للدهر غُولا
*
ومما نسبَ إليه من شعر، وهو أشبه بشعر المتنبي:
كأنما الوردُ الذي نَشرُهُ * يعبقُ من طيب معانيكا
دماءُ أعدائكَ مسفوكةً * قد قابلت بيضَ أياديكا
وأيضا:
من لم يمت عَبطةً يمت هرما * للموت كأسٌ والمرء ذائقها
وأيضا:
أنا الذائدُ الحامي الذمارَ وإنما * يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وأيضا:
يا قليل العزاء في الأهوال * وكثيرَ الهموم والأوجالِ
صبّرِ النفسَ عند كلّ مُلمٍّ * إن في الصبر حيلة المحتالِ
لا تضيقنّ بالأمور فقد يُكـــ* ـــشف غماؤها بغير احتيالِ
ربما تجزع النفوس من الأمـــ * ــر له فرجةٌ كحلِّ العقالِ
قد يُصاب الجبان في آخر الصّـــ * ــف وينجو مقارعُ الأبطالِ