
ينتمي ثيدرك (ديترش بالجرمانية) إلى جماعة الأبطال الأسطوريّين في شمالي أوروبا، وتداولت أخباره القبائل الجرمانية والإسكندنافيّة فشاع ذكره وكثرت الحكايات والقصائد عنه، وظهرَ في غالب الحكايات المتعلقة بسيغورد/ سيغفريد، وكنز النبيلونغ/ النيفلنغ، أشهر الأبطال في المخيال الأوروبيّ الشماليّ في الألفيّة الأولى، وترسّخت أهميته بنشيد النبيلونغ وسيرة آل فولسونغ، وما دونهما من نصوص خلّدت اسمه وأخباره. كتبت سيرة ثيدرك في القرن الثالث عشر بالنوردية القديمة في النرويج ثم ترجمت إلى السويدية في القرن الخامس عشر، وهي نسخة معدلّة ومحرّرة فحذفت وأضافت على ما أراده منها الناسخ. جُمعت في هذه السيرة غالب الحكايات والقصائد المعروفة عن ثيدرك ورجاله، فجاءت مقسمة إلى فصول، بعضها حكاية قائم بحاله وليس له تأثير مباشر في قصة ثيدرك، وبعض الفصول يروي حكايات رفاقه ومحاربيه وتاريخهم قبل الانضمام إليه مثل فيدكه وأبيه فولند، وهيلدبراند، وديتسليف، وبعضها يناقض أحداثه فصولا لاحقة من السيرة. وهي في بعض أجزائها تجميع حكايات وأخبار أكثر منها قصة واحدة متناسقة الفصول ومتعاضدة الأحداث، جاء فيها أيضا أشهر الحكايات وأخبار الأبطال التي اشتركت في تناقلها القبائل الجرمانية والإسكندنافية مثل حكاية الملك أتيلا/ إتزل، ورودولف/ رودغر، وسغموند وسيغورد/ سيغفريد، وسيغورد وبرينيلا وكريميلا (برنهيلد وكريمهيلد/ غدرون)، والإخوة هاغن وغونار وغيرنوت وغينتر (غونتر)، وحكاية ثيدرك منذ تتويجه ملكا على بيرن مرورا بنفيّه ولجوئه إلى بلاط أتيلا، ومعركته ضدّ عمه ملك روما إيرمنتريك في معركة غرانسبورت (أو رافينسخلاخت) حين أراد استرداد ملكه، ثم معركة القصر ومقتل الإخوة الأربعة، وفي الأخير رجوعه إلى مملكته بيرن وخلافة عمه في ملك روما.
استمدت شخصية ثيدرك وبطولاته، في غالب الرأي، من حياة ملك القوط الشرقيين ثيودوريك العظيم. وكان هذا رهينة في طفولته في القسطنطينية، ثم شرع بعد أن بلغ واشتدَّ عوده وحكم القوط الشرقيين في غزو إيطاليا سنة 488م، وهزم في السنة التالية الملك أودوسير في فيرونا وصار ملك إيطاليا. كان ظهوره الأول في قصائد جرمانيّة مثل نشيد هيلدبراند في القرن التاسع للميلاد، وهيلدبراند أحد رفاقه الأوفياء ومن بقي ملازما له طوال حياته قرنين من الزمن تقريبا، وذكر في قصائد إيدا، أقدم القصائد المتوارثة عند الإسكندنافيّين والمدوّنة في آيسلندا ما بين القرنين التاسع والحادي عشر للميلاد، في نشيدي غدرون الثاني والثالث، وذُكرَ في قصائد أخرى عرفت باسم حلقة ثيدرك ضمّت نحو ست عشرة قصيدة مُدوّنة بالجرمانيّة والنورديّة القديمة والدنمركيّة والإنجليزية القديمة، وفي مجموعها تقدّم حكاياتٍ من حياة الملك ثيدرك ومغامراته ومآثره ومناقب رفاقه. ضمّنت هذه السيرة نحو ثماني قصائد في فصولها فضلا عن الحكايات الأخرى عن ثيدرك وأتيلا وسيغورد وأصهاره من الإخوة الأربعة.
تنتمي هذه السيرة إلى عصر السير الملحميّة الذي ابتُدع وشاع في آيسلندا ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وإنْ دوِّنت هذه في النرويج فغالبا قد دوِّنت بيد كاتب آيسلنديّ في بلاط هاكون الرابع. تكمن أهمية هذه السيرة، بعد حفظها حكايات الملك ثيدرك وأخباره لشيوع ذكره وذيوع صيته، أنّها تمنح رواية ثالثة عن حكاية سيغورد ومقتله وصراع أصهاره والملك أتيلا من بعده، والقارئ لنشيد النبيلونغ ومرثيّة النبيلونغ وسيرة آل فولسونغ سيقف على فصول موفّقة ما بين الروايتين الجرمانية والإسكندنافيّة والاختلاف بينهما، وإنْ حملت هذه السيرة روايتها هي أيضًا لواحدة من أشهر الحكايات في الأدب الأوروبيّ القروسطيّ. واحد من الاختلافات ما بين الروايتين الجرمانيّة والإسكندنافية هو كيف مات سيغفريد/ سيغورد وأين مات؟ فتذهب الرواية الجرمانية أنّه مات في الغابة عند الغدير على يد هاغن، وتقول الرواية الإسكندنافية أنّه مات في فراشه في أثناء نومه في فراشه على يد غوتورم. يذكر غيست في حكاية ضيف العرّافات عندما زار بلاط الملك أولاف تريغفسن أنّ الجرمانيّين والإسكندنافيّين اختلفوا في ذلك، وهو اعتراف صريح بشيوع التضارب والخلاف بين الروايتين. وفي سيرة ثيدرك فإن مقتله كان في الغابة غير أنّها توفّق بين الروايتين إذ يرد أنّ الإخوة هاغن وغونتر وغيرنوت بعد قتل سيغورد في الغابة حملوه إلى مهجع أختهم وزوجته ليلقوه في فراشها فتصحو على فاجعتها المأساويّة. وفي حين تورّع الشاعر الجرمانيّ عن قول إنّ سيغفريد افترع زوجة غونتر برنهيلد، أحد أسباب مقتله، واكتفى بالإشارة إلى أنّه منعها في الظلام من تقييده، إذ ظنّت أنه زوجها ولم ترغب أن يفترعها في ليلة الزفاف، فتمكّن بعدئذ غونتر من افتراعها، وكذا الحال مع الرواية الإسكندنافيّة، وإن تزوجها بخديعة شارك فيها سيغورد، فإنّ سيرة ثيدرك تنصّ على أن غونتر يطلب من سيغورد أن يفتضّ بكارتها وإنْ لم يقدر عليها فلن يقدر عليها أحد شرط ألا يعلم مخلوقا بذلك، فوعده سيغورد بذلك. وما لم يذكره السابقون عن سبب رفض برنهيلد أن يفترعها زوجها، وألمح إليه شاعر النبيلونغ بذكر هوانها الأنثويّ بعد الافتراع جاء صريحا على لسان سيغورد في سيرة ثيدرك إذ قال إنّ طبعها الحرون لن يتغيّر ما دامت عذراء، وستبقى أقوى من أي رجلٍ. وتجيب السيرة أيضا عن كثير من أسئلة وأقوال بقيت مبهمة أو غير واضحة في نشيد النبيلونغ أو مرثيّة النبيلونغ منها ماذا حلَّ بالملك إتزل/ أتيلا بعد معركة القصر؟ يقول شاعر المرثيّة إنّ مصير إتزل مجهول فلا أحد يدري أين اختفى أتبخّر أو ابتلعته الأرض أو ذاب أو افترسته الحيوانات بعد مقتل زوجته ومعظم جيشه في معركة القصر، وهي احتمالات افترضها قومه بعد اختفائه. وتقول الرواية الإسكندنافيّة أن غدرون (كريمهيلد) قد انتقمت منه ثأرا لإخوتها، الذين قتلهم في معركة القصر، بمعونة ابن أخيها هاغن. وفي سيرة ثيدرك فإنّ ألدريان، الذي أحبل هاغن أمه في ليلة موته متأثرًا بجراح معركة القصر، يسوق بعد بلوغه الملك إتزل إلى كهف حيث احتفظ بكنز النيفلنغ، الكنز الذي نزلت بهم المصائب بسببه، فلما دخل إتزل الكهف أغلق عليه ألدريان المدخل، فمات هناك وانقطع خبره وهذا سبب جهل قومه بمصيره. تنتهي مرثيّة النبيلونغ بمغادرة ديترش (ثيدرك) وهيلدبراند بلاط إتزل، غير أن سيرة ثيدرك تُخبرنا أنه بعد ذلك رجع إلى بيرن والتقى بعض رفاقه ورجاله القدامى واستعاد ملكه في بيرن ثم توفي عمّه إيرمنتريك وورث ملك روما من بعده.
قد لا تتضح أهمية سيرة ثيدرك في معزل عن سياقها التاريخي والثقافي والأدبي، لكن الاطلاع الكامل والإحاطة بأساطير أوروبا الشماليّ القديم والقروسطيّ وأدبها يعطي صورة كاملة المعالم عن الملك ثيدرك أو ديترش والملك أتيلا وسيغورد وأصهاره وكنز النيفلنغ أو النبيلونغ، لتبقى هذه الحكايات أفضل ما جادت به قرائح الجرمانيين والإسكندنافيّين في القرون الخالية.
ليس يخفى على قارئ اهتمامي بهذه الحكايات إذ ترجمت غالب المادة الموجودة منها وكتبت عنها، ما بين مواد منشورة وأخرى لم تنشر بعد، وستكون سيرة ثيدرك آخر ما سأنقله إلى العربية في قادم الأيام إن شاء الله.