روايات

وارث الشواهد

وليد الشرفا

وأنا أقرأ هذه الرواية رأيت الروائي الراحل غسان كنفاني، يُبعث من الكلمات، وشعرتُ لوهلة أني أقرأ له، أقرأ حيفا التي بكاها، والموتى الذين قتلتهم الشمس، وأم سعد ووشائج حبها للوطن، والأدب الذي يكسب معناه من القضية التي كُتب لأجلها، بهذه الرواية تسمو غاية الكتابة وهدفها حفظ التاريخ والدفاع عن الحقوق، والمقاومة، والحب، وأرض فلسطين. هنا فوضى الدين والتاريخ والحاضر والقتل واليهود والعرب، هنا الشهيد المذبوح فوق الرصيف، هنا الشتات والإقصاء والتهجير، لم يرث بطل هذه الرواية الشاهدشاهد منزل جدهوحده بل جميع من يقرأ وارثٌ وله دوره في أحداثها. هذه الرواية من الروايات التي تزداد ألقا وسطوعا إذا قُرئت، هي شهادة لا تُسمع إلا في حضرة قاضي القراءة، أما أن تبقى حبيسة في الأوراق، هي خيانة أخرى لفلسطين أرضا وتاريخا وقضيةً. إن الأدب الذي يستفز مشاعرك ويُلهبها بعد إيقاظها، الأدب الذي يحمل بين حروفه عبءَ الدفاع عنك، ويحتضن قضيتك، يرافع عنها، ويصفع بيد قوية من يحاول أن يشكك بها، حين يُقاوم العدو الذي يحاول قتلك أو قتل أرض أو تشويه جسد تاريخك، أو يعبث بمقدرات مستقبلك، هو الأدب الذي يستحق أن ينال الجوائز، وأن يقف في المقدمة، وارث الشواهد، لوليد الشرفا، هي من أجمل ما قرأت في الأدب الفلسطيني، أدب الصمود والمقاومة

ما بين الماضي والحاضر، ما بين هجرة قسرية، وأمل بالعودة إلى الأرض، يُبعثر القدر بطل الرواية، تبدأ من مقتل والده على يد الصهاينة، ليُحبس بعدها خلف قضبان هذه الأرض أو الفكرة التي تبلورت عنها، فهي المركبة التي تستمد منه وقودها، وتتركه بعدها في صراع مع الواقع، مع الإرث الذي كتب باسم جدهتتنوع المواضيع التي تطرحها الرواية والقضايا التي تمر عليها، وبصياغة دينية لكثير من المواضيع، فيها التهكم على إقحام الدين في شرعنة القتل والاغتصاب لشعب وأرض، تلف محاور الرواية، ما بين ذكر التهجير من حيفا، وقيمة الدم الفلسطيني، وصراع الهوية العربيةالإسرائيلية، والعودة إلى الأرض، وقضية دعم أوروبا لليهود في استحلال أرض فلسطين بعد أن كانوا يُذبّحونهم، فيها لقاء الشرق والغرب فوق سرير اللذة، والغوص في تاريخٍ يبدو غير واضح الملامح، وعن قيمة النص وأدلجته لخدمة الغايات وجعله غطاءً لتمرير ثم لتبرير أحكام تُصدرها محكمة الشيطان. جمع كل هذه المواضيع وإدراجها في العمل الروائي، يُعطي للرواية مقومات القوة والرصانة حين تكون هي مادتها بلا إفراط أو تفريط، أو أن تأخذ مسارًا أُحاديا يُغيَّب فيه الآخر من دائرة الأخذ والرد، والمكانة المطلوبة من جعل الرواية وسيلة لطرح القضايا التي تهم الأمة، وتُنعشها في حالة احتضارها وتبعث فيها الحياة من الجديد

شخصيات الرواية المتعددة تمثل كل واحدة منها جانبًا معينا، فالبطلالوحيديمثل الجيل الذي امتزجت طفولته مع التهجير القسري من حيفا، وعلاقته بأمه وجده الذي ضخوا فيه تاريخ الأرض بأسمائها العربية والوطن والعائلة، ويسافر بعدها ليدرس ويبتعد عن الوطن حتى لا يتكرر فيه مصير والده. ويمثل الجد الذاكرة الحيّة للفلسطيني الخالد، في حين ريبيكا هي الأنثى الغربية التي اختلط بدمائها الجمال وتقبل الآخر والقدرة على التشكّل لتقبل حالات الحبيب والإيمان بقضيته، وبشارة العربي الإسرائيلي المسيحي، هذا المركب الثلاثي ما بين القومية والهوية والدين، ومحاولة العيش فوق أرض مع التغريب، ليجد نفسه في آخر المطاف في خضم المواجهة المباشرة مع عدوه الذي نساه، وأيقظه من سباته في دنيا النسيان صديقه الوحيدكلما تقدمت عجلة أحداث الرواية تطورت الشخصيات تطورًا متزامنا مع الحدث، فهم ليسوا متشبثين برأي أو فكر أو توجه دون آخر أو ثابتين في أماكنهم لا يتحركون قيد أنملة، خاصة وهم يتعاملون مع قضايا سياسية وتاريخية وعقائدية ووطنية، بل هم في تفاعل مستمر مع الحدث والبقية من الأصدقاء أو الأقرباء، مما يعطي للرواية هيئة التطور والاستمرارية في خلق فكر مستمر في التفكير والبحث عن الحقيقة والهدف، والصراع النفسي مع الذاكرة والماضي والحاضر. إنَّ التركيبة النفسية للإنسان الفلسطيني، وماضيه المرير، يُعطي للروائي مساحة أكبر في التعامل مع شخصياته، والسيطرة عليهم، حيث يلقى أدوات كثيرة تساعده على التحكم وخلق أجواء نفسية وتفاعلات تصل به إلى أهدافه وغاياته من الكتابة، ريبيكا وبشارة ليسوا مجرد أصدقاء لبطل الرواية، بل هم أيضا يُمثلون جانبا نفسيا وحياتيا مهما للبطل، سواء كانت الزوجة ريبيكا التي احتضنته وآمنت به، أو صديقه الذي شاركه حمله الثقيل وتركة جده وأبيه وذاكرة الأرض العالقة في نفس البطل

تميزت هذه الرواية بتعدد الساردين، فهي مجزأة إلى أربعة أقسام رئيسة بأربعة ساردين، يشغل البطل الوحيد المساحة الأكبر بسرده لحياته الماضية مسترجعًا إياها من خلال الذاكرة، إضافة إلى سرد واقعه في سجن الاحتلال بعد حادثة القتل في القسم الأول. القسم الثاني يسرده بشارة بعد طلب صديقه تدوين القصة علاقته بالوحيد وما جرى بعد اعتقاله وهو يروي الأحداث التي شهدها، وحالته النفسية بعد اعتقال صديقه والتغيّر الذي شهدته، والتأقلم وصراع الأصل العربي وأحقية أصحاب الأرض في ظل الظروف الجديدة. القسم الثالث الذي تسرده ريبيكا زوجة الوحيد، والذي تُرسله لصديقه بشارة ليقوم بترجمته، وهي تطرح فيه كثير من أفكار وحياة زوجها، وتأثير غيابه فيها وفي حياة ابنتهم ليلى. القسم الرابع الختامي وهو الذي تسرده ابنة بشارة جولينا، وهو ختام الرواية الذي نشهد فيه المحاكمة لبشارة والوحيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى