ما بين الأوديسة وألف ليلة وليلة
لم ينقل العرب قديما قصيدتي هوميروس الإلياذة والأوديسة، وما عرفوه عن الشاعر قليل جدا، ولم تنقل ملحمة الشاعر الأولى “الإلياذة” إلى العربية حتى بواكير القرن العشرين بتعريب سليمان البستاني الذي يقول في تقديمه للإلياذة وسبب عدم نقل العرب لها: “وإن لذلك أسبابًا لو تبينَّاها زال العجب لإغفالها في ما سلف مع وضوح الحاجة الماسة إلى تعريبها في هذا العصر وإن مرجع تلك الأسباب إلى ثلاثة: الدين، وغلق فهم اليونانية على العرب، وعجز النقلة عن النظم الشعر العربي”.
أما الأوديسة فهي لم تترجم إلى العربية إلا في القرن العشرين بترجمة أمين سلامة، لكن ما يثير الشك حول معرفة العرب بالأوديسة قديما هو ما تكشفه بعض قصص ألف ليلة وليلة، وهي معرفة ليست سطحية أو عابرة لكنها معرفة متعمقة تصل إلى دراسة الأوديسة على نحو ينفي عدم معرفة من كتب هذه القصة بالأوديسة ورحلة عودة أوديسيوس إلى إيثاكا وتيهانه في البحر وجزره وما واجهه في رحلته من مخاطر وغرائب المخلوقات، وكذلك معرفة لجغرافية جزيرة سيرسي وقصرها/ بيتها الذي يتوسط الجزيرة.
يبقى السؤال كيف عرف كاتب هذه القصص في ألف ليلة وليلة الأوديسة وكيف وصلت إليه وهل وصلت إليه نصًا مكتوبًا أو شفاهيًا، وما يهم كذلك هو تأثير الأوديسة في قصص ألف ليلة وليلة. هذا التأثير أو التشابه الذي امتدَّ شاملًا آدابًا عالمية مختلفة ابتداءً من محلمة الرامايانا الهندية الإنيادة ما بين القرن السابع والخامس قبل الميلاد إلى ملحمة الإنيادة لفرجيل في القرن الأول قبل الميلاد، إلى أوديسيوس الياباني Yuriwaka الذي اكتشفت مخطوطته من قبل الحملات التبشيرية في إحدى جزر اليابان في القرن السادس عشر، ومع ألف ليلة وليلة يتضح لي أن تأثير الأوديسة وقد وصل إلى الأدب العربي متمثلا في قصص حاسب كريم الدين والسندباد البحري وجلناز بدر باسم.
سأعرض في السطور التالية التشابه ما بين نصيّ الأوديسة وألف ليلة وليلة، وبما أنَّ قصص ألف ليلة وليلة الثلاث منفصلة سأضعها بالتتابع مع الفقرات التي توازيها من الأوديسة مع الإشارة إلى قصة كل نص:
(قصة حاسب كريم الدين)
بعد أن يلتقي حاسب كريم الدين بملكة الحيات؛ تبدأ بعدها الأخيرة تحكي له قصة الملك بلوقيا وهو ابن ملك من بني اسرائيل في مصر لقي بعد وفاة والده وتنصيبه سلطانا كتابًا كان أبوه يحتفظ به يحوي صفة النبي (صلى الله عليه وسلم) فتخلى عن الملك وساح هائما في الأرض بحثًا عن النبي فخرج في مركب وبدأت رحلاته في جزر البحر. وبعد تيهانه في البحر وصل بلوقيا إلى جزيرة للملك صخر، وبعد أن التقى بلوقيا بالملك صخر الذي أكرم وفادته وطلب منه أن يحكي له حكايته، ويخبره ما جرى له وكيف أتى إلى هذه الأرض، فحكا له بلوقيا جميع ما جرى له في سياحته.
ثم سأل بلوقيا الملك صخر أن يطلب من أعوانه أن يوصوله إلى بلاده، لكن الملك قال بأنهم لا يستيطعون فعل ذلك إلا بأمر من الله تعالى، لكنه أعطاه فرسًا خارقًا فركبه حتى وصل إلى الملك براخيا.
(أوديسيوس والملك ألكينوس)
بعد أن يقفل أوديسيوس ملك إيثاكا راجعا إلى بلاده إيثاكا إثر انتهاء حرب طروادة، يتيه في البحر مع رفاقه ويمر بعدة جزر في رحلة استمرت عشرة سنوات يصل في الأخير إلى محطته قبل الأخيرة -بعد أن تحرر من جزيرة كاليبسو- إلى جزيرة الفياكيين والتقائه بالملك ألكينوس، الذي طلب من أوديسيوس بعد أن رأه متأثرا في الحفل الذي أقامه على شرفه، أن يحكي لهم قصته وما جرى له في رحلاته كما في الأنشودة التاسعة.
حكى لهم أوديسيوس قصته ورفض طلب الملك ألكينوس بالبقاء في جزيرة الفياكيين وطلب منه مساعدته للعودة إلى بلاده فأرسله ألكينوس في سفينة مع خيرة بحارة الفياكيين كما في الأنشودة الثالثة عشرة، وكان بوسيدون إله البحر كان قد منع الفياكيين من إنجاد التائهين والهاربين في البحر، وكان إنقاذ الفياكيين لأوديسيوس عصيان لأوامر بوسيدون الذي أغرق السفينة التي أوصلت أوديسيوس إلى جزيرة إيثاكا ووضع جبلًا قبالة سواحل جزيرة الفياكيين لتتحقق نبوءة والد ألكينوس بعقاب بوسيدون لهم.
1- التشابه الأول ما بين القصتين هو التهيان في البحر ما بين الملك بلوقيا وأوديسيوس مع اختلاف الأسباب، لكن بلوقيا يقرر العودة إلى بلاده وتبدأ رحلته، رحلة العودة، وهي الجزء الآخر من التشابه في موضوع التيهان في البحر في طريق العودة إلى الوطن.
2- التشابه الثاني ما بين القصتين هو طلب الملك صخر من بلوقيا أن يحكي له قصته، وبعد أن يحكي له قصته يطلب من الملك صخر مساعدته. وهو ما حدث كذلك مع أوديسيوس وحكيه لما جرى له في البحر في رحلة العودة للملك ألكينوس بعد أن رأى الأخير أوديسيوس متأثرًا ويبكي أثناء الحفل الذي أقيم على شرفه، وطلب أوديسيوس من ألكينوس أن يساعده في العودة إلى بلاده.
3- التشابه الثالث ما بين القصتين هو كيفية مساعدة صخر لبلوقيا ومساعدة ألكنيوس لأوديسيوس. كشف الملك صخر لبلوقيا أنهم لا يمكن أن يساعدوا أحدًا إلا بإذن الله لكن بإمكانه أن يعطيه حصانا خارقًا يوصله إلى الملك براخيا، وهنا يبرز الفرق بين القصتين أن مساعدة الملك ألكينوس لأوديسيوس كان مخالفة لأمر الإله بوسيدون الذي منع على الفياكيين مساعدة الغرباء والهاربين، وكانت مساعدتهم لأوديسيوس موجبة للعقاب الذي نزل بهم كما تكشفه الأنشودة الثالثة عشرة في الأوديسة. وتبرز هنا المعادلة بين الإله بوسيدون والله عز وجل في القصتين. ثم وصل الاثنان في نهاية الرحلة إلى وطنيهما.
(قصة جانشاه وبلوقيا)
أما الجزء الثاني فهو إتمام لقصة بلوقيا ولقائه مع الأمير جانشاه الذي خرج مع والده وجيش وممالك في الصيد، ولما لحقوا غزالة نزلت إلى البحر وركبوا في مركب ونزلوا إلى البحر وطاردوها لتبدأ رحلة تيهانهم في البحر بين الجزر فوصلوا إلى جزيرة فيها أناس يأكلون لحم البشر فهرب منهم إلى جزيرة أخرى، فلما وصلوا إليها قال جانشاه لمن تبقّى من مماليكه أنا أبقى عند المركب وأنتم تطلعون لتكشفوا خبر الجزيرة: “فقال جانشاه هذا أمر لا يكون، وإنما تطلعون أنتم الثلاثة وتكشفون لنا عن خبر هذه الجزيرة وأنا قاعد لكم في المركب حتى ترجعوا”.
فذهب المماليك بعدها: “ثم مشوا فيها إلى وسطها فرأوا على بعد قلعة من الرخام الأبيض وبيوتها من البلور الصافي، وفي وسط تلك القلعة بستان فيه من جميع الفواكه اليابسة والرطبة ما يكل عن الوصف، وفيه جميع المشموم”.
ثم تبيَّن لهم لاحقًا أنَّ هذه الجزيرة والقلعة هي للقرود.
(أوديسيوس وجزيرة سيرسي “الأنشودة العاشرة” ترجمة أمين سلامة):
“ووصلنا إلى جزيرة أيايا، حيث كانت تعيش سيرسي ذات الجدائل الفاتنة، وهي ربة مفزعة، تتكلم كلام البشر…
ووقفت هناك أرى من بعد وأستشرف ما حول، فرأيت دخانا يتصاعد من الأرض الفسيحة الطرقات، في ساحات سيرسي، خلال الأدغال الكثيفة والغابة، وأخذت أعمل تفكيري، هل أذهب وأبحث، بعد أن رأيت الدخان المتأجج وبينما أنا في حيرة من أمري طرأ على بالي رأي، بدا لي أفضل الآراء، أن أعود أولا إلى السفينة على شاطئ البحر، وأعطي رفاقي طعامهم، ثم أرسلهم إلى هناك ليقوموا هم بالبحث…”
(موقع قصر سيرسي):
“… فقد صعدت إلى مكان مرتفع للاستطلاع، فرأيت الجزيرة أشبه بتاج يحيط بها الخضم اللا نهائي، وتقع الجزيرة نفسها منخفضة، وأبصرت عيناي في وسطها الدخانَ يتصاعد وسط الغابة والأعشاب الكثيفة”.
4- التشابه الرابع ما بين القصتين هو ما فعل جانشاه حين وصل إلى جزيرة القرود ومكوثه عند المركب وأرسل ممالكيه ليكتشفوا خبر الجزيرة، وما فعله أوديسيوس حين قرر البقاء عند سفينته وإرسال رفاقه ليكتشفوا ما يوجد عند الدخان المتصاعد في الجزيرة.
5- التشابه الخامس هو أنَّ موقع قصر القرود في وسط الجزيرة وموقع بيت سيرسي في وسط الجزيرة. وهذا التشابه لو جاء منعزلا عن التشابه السابق لرجح لدينا كذلك احتمال المصادفة والتناص وتوارد الأفكار نفسها، لكن ما يعضد الرأي بأن هذا التشابه هو اقتفاء للأوديسة هو ما قام به جانشاه وأوديسيوس بمكوثهما عند مركبيهما وأرسال رفاقهما إلى الجزيرة.
(قصة جلناز وبدر باسم):
أما الجزء الثالث في قصة جلناز وبدر باسم، يتيه بدر باسم -بعد هربه من معركة جرت داخل البحر بين خاله صالح ضد الملك السمندل بعد أن ذهب إليه خاله وأقاربه ليخطبوا ابنة السمندل لبدر باسم- في البحر ويصل إلى جزيرة الملكة لاب التي تسحر الرجال إلى حمير وبغال وخيل:
“فقال له الشيخ (في جزيرة الملكة لاب) يا ولدي، اعلم أن هذه المدينة مدينة السحرة وبها ملكة ساحرة كأنها شيطانة وهي كاهنة سحارة مكارة غدارة، والتي تنظرها من الخيل والبغال والحمير هؤلاء كلهم مثلك ومثلي من بني آدم لكنهم غرباء، لأن كل من يدخل إلى هذه المدينة وهو شاب مثلك تأخذه هذه الكافرة الساحرة وتقعد معه أربعين يومًا وبعد الأربعين يومًا تسحره فيصير بغلا أو فرسا أو حمارا من هذه الحيوانات التي نظرتها على جانب البحر”.
وبعد أن يلتقي بدر باسم بالملكة لاب، وتمكث معه أياما تواقعه فيكشف أمرها مع من تسحرهم فتخطط لمسخه فيُعلم الشيخ بخبرها فيساعده على إبطال تعويذة مسخها له:
“فلما سمع الشيخ كلامه ضحك وقال: والله إن هذه الكافرة الساحرة قد مكرت بك، ولكن لا تبال بها أبدًا. ثم أخرج له قدر رطل سويقًا وقال له: خذ هذا معك واعلم أنها إذا رأته تقول لك: ما هذا؟ وما تعمل به؟ فقل لها: زيادة الخير خير وكل منه، فإذا أخرجت سويقها وقالت لك: كل من هذا السويق. فأرها أنك تأكل منه وكل من هذا وإياك أن تأكل من سويقها… فإن أكلت منه ولو حبة واحدة فإن سحرها يتمكن منك فتسحرك… وإذا لم تأكل منه فإن سحرها يبطل ولا يضرك منه شيء فتخجل هي غاية الخجل… فأظهر لها أنت المحبة وقل لها يا سيدتي ونور عيني، كلي من هذا السويق وانظري لذاته…”
ثم يعلمه الشيخ كيف يسحرها بعد أن تأكل من سويق بدر باسم، فيمسخها بدر باسم إلى حمار ويمتطيها ويخرج بها من الجزيرة.
(رجال أوديسيوس ومسخهم وما حدث لهم قبل وصولهم إلى سيرسي. ترجمة أمين سلامة):
“فعثروا على منزل سيرسي، وسط وديان الغابة، مصنوعا من الصخر المصقول، في مكان فسيح مكشوف، وحول البيت كثير من الذئاب الجبلية والأسود، وكانت سيرسي نفسها قد مسختها، بأن أعطت الرجال عقاقير ضارة. غير أن تلك الحيوانات لم تهاجم رجالي، ولكنها زمجرت مكشرة، وهي تهز ذيولها الطويلة…
أدخلتهم سيرسي وأجلستهم فوق مقاعد وأرائك، وأعدت لهم جرعة من الجبن ودقيق الشعير والعسل الذهبي والنبيذ البيرامني، لكنها مزجت الطعام بعقاقير ضارة، كي ينسوا وطنهم النسيان كله. فلما قدمت لهم الجرعة وشربوها، أسرعت فضربتهم بصولجانها، وحبستهم في حظائر الخنازير، وكان لهم رؤوس وصوت، وشعر وهيئة الخنازير البرية، أما عقولهم فقد ظلَّت كما كانت من قبل دون أن يطرأ عليها أي تغيُّر”.
(هيرمس يساعد أوديسيوس قبل وصوله إلى سيرسي لنجدة رفاقه):
“… يؤسفني أن رفاقك محبوسون في الحظائر المتقاربة القضبان في هيئة خنازير… لكن تعال فإني سأنقذك من الأذى وأنجيك. دونك هذا العشب القوي، وانطلق إلى بيت سيرسي، فإنه سوف يجنب رأسك اليوم المشؤوم، هيا استمع إلي، فسأخبرك بجميع حيل سيرسي المؤذية. إنها ستخلط لك شرابا وتضع في الطعام عقاقير، ولكنها بالرغم من ذلك لن تستطع أن تسحرك لأن العشب القوي الذي سأعطيكه لن يتأثر بتلك العقاقير… فعندما تضربك سيرسي بصولجانها الطويل؛ استل سيفك الحاد من جانب فخذك، واهجم عليها كما لو كنت ستقلتها عندئذ سيتملكها الخوف منك، وتأمرك بالرقاد معها”.
وهكذا ينقذ أوديسيوس نفسه من سيرسي ويرقد معها، وينقذ أصدقائه وينطلق إلى هاديس بعدها بمساعدة سيرسي.
6- التشابه السادس هو أنَّ الملكة لاب معادلة للإلهة سيرسي، فالاثنتان ساحرتان، وتعيشان في جزيرة، وتمسخان الرجال إلى حيوانات (مع اختلاف نوع الحيوانات في القصتين).
7- التشابه السابع هو أنَّ لاب وسيرسي تحاولان مسخ بدر باسم وأوديسيوس لكهنما يفشلان وينقلب السحر على الساحر في قصة لاب، وتصبح سيرسي تحت طاعة أوديسيوس.
8- التشابه الثامن هو كيف غلب بدر باسم وأوديسيوس الساحرتين، وكان عنصر المساعدة موجودًا، فالأول يساعده الشيخ والثاني يساعد هرمس (رسول الآلهة)، ويعطي الشيخ لبدر باسم سويقا ليأكل منه ويبطل سحر لاب، ويعطي هرمس عشبا لأوديسيوس ليأكله ويبطل سحر سيرسي.
ولا يمكن بحال من الأحوال أن تجتمع هذه التشابهات دون أن يكون ثمة مصدر نص للأوديسة قد اطلَّع عليه كاتب هذه القصص.
(قصة السندباد البحري)
أما الجزء الرابع فيتمثل في السفرة الثالثة من قصة السندباد البحري.
وصول السندباد إلى جزيرة العملاق الأسود:
“إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك الجزيرة فقصدناه ومشينا إليه… فدخلنا باب ذلك القصر فوجدنا له حضيرا واسعا مثل الحوش الواسع الكبير، وفي دائره أبوابه كثيرة عالية في صدره ومصطبة عالية كبيرة وفيها أواني طبيخ معلَّقة على الكوانين وحواليها عظام كثيرة لم نرَ فيها أحدا… ثم بعد ذلك نمنا ولم نزل نائمين من ضحوة النهار إلى غروب الشمس، وإذا بالأرض قد ارتجت من تحتنا وسمعنا دويّا من الجو وقد نزل علينا من أعلى القصر شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان، وهو أسود اللون طويل القائمة كأنه نخلة عظيمة، وله عينان كأنهما شعلتان من نار، وله أنياب مثل الخنازير، وله فم عظيم الخلقة مثل فم البئر، وله مشافر مثل الجمل مرخية على صدره… ثم إنه قبض على يدي من بين أصحابي التجار ورفعني بيده عن الأرض وجسَّني مثل ما يجس الجزَّار ذبيحة الغنم، فوجدني ضعيفًا من كثرة القهر، هزيلا من كثرة التعب والسفر، وليس فيَّ شيء من اللحم. فأطلقني من يده… ولم يزل يجسنا ويقلبنا واحدًا بعد واحد إلى أن وصل إلى ريس المركب التي كنا فيها وكان رجلا سمينا… وقبض عليه مثل ما يقبض الجزار على ذبيحته ورماه على الأرض ووضع رجله على رقبته فقصف رقبته وجاء بسيخ طويل فأدخله في حلقه حتى أخرجه من دبره وأوقد نارًا شديدة وركب عليها ذلك السيخ…. حتى استوى لحمه… وصار يقطع لحمه بأظافره ويأكل منه”.
واستمر هذا العملاق على هذه الحال حتى قرر السندباد ورفاقه المتبقون أن يهاجموه أثناء نومه:
“فنهضنا وقمنا وأخذنا سيخين من حديد من الأسياخ المنصوبة ووضعناها على النار القوية حتى احمرَّا احمرارًا وصارا مثل الجمر، وقبضنا عليهما قبضًا بقوتنا وعزمنا فأدخلناهما في عينيه وهو نائم فانطمستا، وصاح صيحة عظيمة فارتعبت قلوبنا. ثم قام من فوق المصطبة بعزمه وصار يفتش علينا ونحن نهرب منه يمينا وشمالا ولم ينظرنا وقد عمي بصره… فعند ذلك قصد الباب وهو يحسس وخرج منه وهو يصيح، ونحن في غاية الرعب منه، وإذا بالأرض ترتج من تحتنا من شدة صوته… ثم رجع ومعه أنثى أكبر منه وأوحش خلقة”.
ثم يتمكن بعدها السندباد ورفاقه من الوصول إلى سفينتهم ونزلوا بها إلى البحر وهاجمهم العملاقان:
“ومع كل واحد منهم صخرة عظيمة وصاروا يرجموننا بها إلى أن مات أكثرنا من الرجم وبقي ثلاثة أشخاص أنا واثنان…”
أوديسيوس وكهف العملاق بوليفيموس (ترجمة أمين سلامة):
“سرعان ما بلغنا الكهف، فلم نجد العملاق بداخله، إذ كان يرعى قطعانه السمينة في الحقول. ثم دخلنا الكهف وطفنا نتعجب من كل شيء وقع عليه بصرنا هناك، كانت السلال مملوءة بالجبن، والحظائر تعج بالحملان والجداء… وكانت الجرار الحديثة الصنع مملوءة بالشرش، وكذلك الدلاء والطسوت التي يُحلب فيها اللبن… ثم جلسنا ننتظر العملاق داخل الكهف، حتى عاد يسوق أغنامه. وكان يحمل مقدارًا ضخمًا من الخشب الجاف، ليستخدمه في إعداد عشائه، وقذف به من فوق ظهره إلى داخل الكهف، محدثًا صوتا مدويا فاستبدَّ بنا الفزع، وانكمشنا في إحدى زوايا الكهف…”
ثم بدأ بعدها حديث ما بين العملاق وأوديسيوس:
“قلتُ هذا، ولكنه لم يجب من قسوة قلبه، وإنما وثب وانقضَّ على رفاقي وأمسك باثنين منهم، وقذف بهما إلى الأرض كالدمى فتدفق المخ خارج رأسيهما على الأرض فبللها، ثم قطعهما جزءًا جزءًا وأعد منهما عشاءه، وهكذا التهمهما كما لو كان أسدًا يسكن الجبال غير تارك منهما شيئًا”.
واستمر بوليفيموس على هذه الحال حتى قرر أوديسيوس القضاء عليه:
“والآن خطرت لي فكرة، بدت لي أفضل مما عداها. كان بجانب إحدى حظائر الخراف، هراوة ضخمة لذلك السيكلوب، عصا غليظة من خشب الزيتون الأخضر، وكان قد قطعها وحملها معه لتجف هناك… فأمسكتها وقطعت منها جزءًا على طول قامة وأعطيته لزملائي… ثم حملته بسرعة وجعلته صلبًا في النار المستعرة…”
ثم أثمل أوديسيوس العملاق بوليفيموس بخمر قدمه إليه فهوى نائما:
“عندئذ وضعت الوتد تحت الرماد العميق، حتى حمى الوتد وغدا شديد السخونة، وشجعت جميع رفاقي بألفاظ مفرحة حتى لا يرتجف أحدهم ذعرا وهلعًا. وما كاد وتد خشب الزيتون يشتعل لأنه أخضر، وبدأ يتوهج بعنف، حتى اقتربت وأخرجته من النار، ووقف زملائي إلى جانبي، وبثَّ فينا أحد الأرباب شجاعة بالغة. لقد أمسكوا بوتد الزيتون المدبب الطرف، ودفعوه في عينه، وبينما ارتميت أنا بثقلي عند طرفه، وأخذت أديره، وكما يثقب المرء السفينة بالمثقاب… هكذا أمسكنا بالوتد الناري الطرف، وأدرناه في عينه، وتدفق الدم حول القضيب المحمَّى… فأخذ العملاق يطلق الصراخ عاليا مدويا بفظاعة، وطن الصخر من كل جانب وإذ استولى علينا الفزع والذعر انكمشنا في ناحية… وصار يلوح بذراعيه بوحشية. وبعد ذلك أخذ ينادي السيكلوبيين القاطنين حوله في الكهوف وسط المرتفعات الشديدة الرياح، فسمعوا صياحه وهبوا لنجدته من كل حدب وصوب…”
ليهرب بعدها أوديسيوس ورفاقه من بوليفيموس ويكشف أوديسيوس عن هويته ليهاجمه بوليفيموس بصخرة:
“هكذا قلت، فزاد حنقا في قلبه، وكسر قمة جبل شامخ وطوَّح به نحونا، فسقطت أمام السفينة القاتمة الحيزوم، وماج البحر من جراء سقوط تلك الصخرة، وكان ارتداد الماء المزاح أشبه بفيضان من الأعماق…”
9- التشابه التاسع ما بين القصتين هو وجود العملاق الآكل للحم البشر، مع اختلاف صفتهما، فعملاق السندباد: رجل ضخم، أسود اللون، قبيح الوجه. وبوليفيموس، ضخم غير محدد النوع، وذو عين واحدة. وكلاهما ذو صوت جهْوري مدوي، يبدآن بأكل رفاق السندباد وأوديسيوس واحدًا تلو آخر يوما بعد يوم.
10- التشابه العاشر هو ما قرر فعله السندباد وأوديسيوس في قتل العملاقين وكيفية محاولة القتل، وكانت الطريقة في فقء عيني العملاق بأسياخ من حديد، وفقء عين بوليفيوس بعمود من خشب ذي رأس حاد.
ونرى التشابه هنا في آلية القتل وأداة القتل التي كانت متشابهة على نحو كبير جدًا، حتى في عملية التهيئة والتحضير، فكان بإمكان السندباد ورفاقه أن يستخدموا السيخ المعدني دون أن يحمّوه بالنار وكذا الحال مع أوديسيوس. فهل هذا التشابه الدقيق والتام محض مصادفة؟ بالتأكيد لا أرى هذا ولا أميل إلى هذا الاحتمال بتاتًا.
11- التشابه الحادي عشر هو في ردة العملاقين والسندباد وأوديسيوس ورفاقهمها. فالأول بدأ يبحث عنهم ويحاول الإمساك بهم وهم يهربون منه يمينا وشمالا وخرج ليعود بأنثى مثله معه، وبوليفيموس كذا يشتاط غضبا ويحاول الإمساك بهم وهم يهربون منه ويمكثون في ناحية من نواحي الكهف.
ثم بعد ذلك حضور سيكلوبيين بسبب مناداة بوليفيموس لهم، وحضور الأنثى رفيقة العملاق الأسود.
وبعدها يتشابه فعل العملاق وبوليفيموس إذ يرمي الاثنان سفينتي السندباد وأوديسيوس بصخرة كبيرة.
12- التشابه الثاني عشر فيتمثل بحديث السندباد وأوديسيوس بالانتحار، ويرد هذا الحديث مرة واحدة في القصتين:
يحدث السندباد نفسه بالموت بعد هذه الأحداث فيقول:
“وأردت أن ألقي بنفسي في البحر وأستريح من الدنيا فلم تهن عليَّ روحي لأن الروح عزيزة”.
أوديسيوس يحدث نفسه بالموت بعد أن فشل بالعودة إلى إيثاكا بمساعدة أيولوس، إله الريح:
“وفكرت في قلبي العظيم هل ألقي بنفسي من السفينة وأهلك في البحر أو أقاسي الويلات في صمت وأظل باقيًا على قيد الحياة، وعلى أي حال فقد كظمت غيظي وبقيت ثم غطيت رأسي وظللت راقدًا في السفينة”.
**
إنَّ هذه التشابهات الاثنتي عشرة لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون مجرد صدفة، بل هي معرفة دقيقة للأدويسة استثمرت في هذه القصص الثلاث التي أوضحت أحداثها أنَّ العرب أو بعضهم قد عرفوا الأوديسة وأوديسيوس أو بعض أناشيد هوميروس في الأوديسة، وهذا بحد ذاته أمر عظيم لا يرد في كتب التراث العربية. فهل عرف كاتب هذه القصص الأوديسة بقراءة نص أو سماع قصة يبقى السؤال المجهول الإجابة لكن ما هو أكيد أنه عرف الأوديسة ووصل تأثير هوميروس إليه.