كتابٌ تساؤلات وإجابات مشترك ما بين أبي حيان التوحيدي وأبي علي مسكويه يضم خمسًا وسبعين ومئة مسألة أرسلها أبو حيان التوحيدي إلى أبي علي مسكويه يستجوبه عنها، وسمّى أسئلته بـ الهوامل وهي الإبل السائبة، وأما أجوبة مسكويه فسُمِّيت بـ الشوامل وهي الحيوانات التي تضبط الإبل الهوامل فتجمعها. وترد تسمية أسئلة أبي حيان بالهوامل فيما يذكره أبو علي مسكويه في استهلال الأجوبة فيكتب:”وهأنذا آخذٌ في أجوبة مسائلك التي سميتَها “هوامل” ومجتهد في ردها عليك برعاة حفظة، وولاة يقظة، محلولة العقال، موسومة الأغفال، ومؤمل أن تجد بها من الحكمة ضالتك، ومن العلم بغيتك وطلبك، فتقضي بعد الظفر منها إلى بَرْدِ اليقين فيها إن شاء الله”.
ولد أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه في عام 320 هـ، أصله من الري إيران. وكان من علماء المسلمين اشتغل بالفلسفة والسياسية والكيمياء إضافة إلى أنه مؤرخ وشاعر، وهو أول علماء المسلمين الذين كتبوا في علم الأخلاق في كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ولعلنا نستكشف سعة معرفة مسكويه في هذا المجال من أجوبته على مسائل التوحيدي التي كثير منها تدور في/ حول الأخلاق والأفعال الإنسانية بل ونجد في كلامه الحجج العقلية والمنطقية القوية كما في مسألة هل يخالف شرع الله العقل، ومسألة وجود الملائكة. كان التوحيدي ممن عاصروا مسكويه إلا إنه لم يجد فيه ما يُعجبه بل ويبدو من مسائله أنها قد قرَّع مسكويه في كلامه، ويصف إ. د. صلاح رسلان العلاقة بين الاثنين أنها كانت علاقة تحدٍ ومطاولة غلب عليها التوتر والمخاشنة، ويكبر أبو علي مسكويه التوحيدي بسنين قلائل، وقد عَمر حتى عام 421 هـ. ويشير إلى أن أسباب الصراع بين الاثنين هي الغيرة من مسكويه الذي حقق شهرة بالعلم أكبر من شهرة التوحيدي، وحالفه الحظ دائما، وأغدق الكبراء عليه بسخاء كما فعل عضد الدولة عندما اختاره ليكون خازن بيت المال وخازن الكتب ومن هنا عرف بالخازن. يضيف أيضًا “إنَّ السبب في اختيار التوحيدي مساءلة مسكويه، وعنده من هو أعلم منه كأبي سليمان السجستاني المنطقي، والفيلسوف يحيى ابن عدي، وأبي سعيد السيرافي عالم النحو والمنطق، والعالم علي بن عيسى الرماني وغيرهم ممن تلقى العلم على أيديهم، لم يكن مصادفة بل كان مقصودًا للتندر والاستخفاف به، وإظهار عجزه الفكري، خاصة بعد أن باء طمع التوحيدي في علم ومال مسكويه بالفشل، فوصفه بالبخل والغباء”. ولعل مصداق هذا الكلام ما يورده أبو علي مسكويه في جواب المسألة الرابعة حين يقول: “ارفق بنا يا أبا حيان -رفق الله بك- وأرخ من خناقنا، وأسغنا ريقنا، ودعنا وما نعرفه في أنفسنا من النقص فإنه عظيم، وما بُلينا به من الشكوك فكثير، ولا تُبكِتنا بجهل ما علمناه، وفوت ما أدركناه، فتبعثنا على تعظيم أنفسنا، وتمنعنا من طلب ما فاتنا فإنك -والله- تأثم في أمرنا، وتقبح فينا، أسأل الله ألا يؤاخذك ولا يطالبك ولا يعاقبك، فإنك بعَرَضِ جميع ذلك إلا أن يعفو ويغفر، فإنه من أهل التقوى وأهل المغفرة”. فإن كان حقًا أنَّ أبا حيان التوحيدي أراد إحراج وتوبيخ وإساءةً يوجهها إلى مسكويه عن غيرة وحسد وطمع فقد أوغلَ في مستنقع الخطأ والبذاءة وسوء الخلق على النقيض من مسكويه وأجوبته التي فيها من التواضع ومعرفة الذات ومقدار العلم الضئيل، فلا نلتمس تعاليًا ولا عجرفة ولا أنا متعالية، وبزَّ مسكويه التوحيدي في الأخلاق وحسن التعامل والرد فكان الأستاذ المجيب الوقور في مواجهة الطالب السائل الفظ الجلف.
*
إنَّ هذه المسائل التي ترد في الكتاب (وهو من إخراج أحمد أمين والأستاذ “السيد أحمد صقر” وكما يذكر أحمد أمين في تقديمه أيضا للكتاب ” بل كان نصيبه من تصحيح الكتاب والتعليق عليه أكثر مما لي فله جزيل الشكر على ما قام به”) وكما يتضح من الأجوبة أن هذه النسخة المحققة من الكتاب هي التي كتبها مسكويه لا أبو حيان. فنقرأ أولًا في خطبة افتتاح الكتاب لمسكويه: قرأت مسائلك التي سألتني أجوبتها في رسالتك التي بدأت بها فشكوت فيها الزمان، واستبطأت بها الإخوان، فوجدتكَ تشكو الداء القديم والمرض العقيم، فانظر حفظك الله إلى كثرة الباكين حولك وتأسَّ، أو إلى الصابرين معك وتسلَّ، فلعمر أبيك إنما تشكو إلى شاكٍ وتبكي على باكٍ، ففي كل حلق شجًى وفي كل عين قذى، وكل أحد يلتمس من أخيه ما لا يجد عنده أبدًا ولو كان حدُّ الصديق ما رسمه الحكماء حين قالوا: صديق آخر هو أنت إلا أنه غيرك بالشخص- فهيهات منه إني لأظن الأبلق العقوق (الأبلق: الخيل الذي يبلغ تحجيله إلى الفخذين، والعقوق: الحامل صفة المؤنث، للدلالة على الاستحالة. هامش الكتاب) والعنقاء المُغرب، والكبريت الأحمر أيسر مطلبًا وأقرب وجودًا منه. والآخر في حذف مسكويه بعض كلام التوحيدي كما في المسألة الرابعة إذ يقول: “ثم أتبعتَ المسألة من تنقُّصِ الإنسان وذمِّه وتوبيخه ما أستغني عن إثباته”. يتضح لنا أن هناك كلام لأبي حيان فيه من الشكوى، وسبق أن قرأنا عن التقريع الذي يذكره مسكويه عَرَضًا أيضا- غير موجود في هذه النسخة من الكتاب، ويبقى حظ التوحيدي من هذا الكتاب هو أسئلته فقط.
**
إن المسائل الواردة في الكتاب تشير إلى فضول أبي حيان الكبير فتنوعت مسائله ما بين الدين والفكر والفلسفة والأخلاق والعِلم الطبيعي والشرعي واللغة وفقها وعلم الاجتماع والإنسان والسياسة وخلجات النفس وخواطرها وخيالاتها، وترد أجوبة مسكويه في ذات السياق دالةً على حسن إطلاع وتفقّه في العلم والحياة والإنسان وما يربط هذه الجهات الثلاث من روابط حسيّة أو غير حسيّة، بل ويزيد الأمر إلى أن نعرف مدى ما وصل إليه الحال في ذلك الوقت فنجد مسكويه يضرب أمثالًا في أجوبته من الرياضات كذكره الدائرة ومركزها والمثلث وقوائمه، واستشهاده بأقوال أفلاطون وأرسطو، وهذا حال مشرف يُثير في النفس الأسى لو قُوبل اليوم مع ما وصلنا إليه من تذيل ركب الأمم وتخلّف في قوافل العلوم والمعارف.
من المسائل التي وقفت عندها ووجدت فيها من الفائدة المعرفية والفكرية فهي المرقمة:
1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 24، 34، 61، 63، 77، 78، 79، 84، 90، 92، 94، 100، 112، 126، 128، 129، 131، 136، 141، 147، 158، 159، 160، 161، 171، 172.