مقالات

الحركة التصويرية الشعرية وأبرز أعلامها

إعداد وترجمة: مؤمن الوزان

في محطة ميترو

هذه الوجوه الشبحية في الزِّحام؛ تويجات فوق غصنٍ أسودَ نديِّ

– عزرا باوند

وُلدتْ الحركة التصويريّة في إنجلترا وأمريكا في بداية القرن العشرين، بكونها ردة فعلٍ ضد الرومانطيقية والشعر الفيكتوري. تُشدد التصويرية على السهولة، ووضوح التعبير، والدقة من خلال استخدام الصور المرئية الفائقة الدلالة.

على الرغم من أن عزرا باوند يُعد مؤسسَ التصويرية فإن جذور الحركة فكريًا تطورت بادئ الأمر مع الفيلسوف والشاعر الإنجليزي ت. ي. هيوم، الذي تحدث -بالتحديد في بداية سنة 1908- عن تأسيس الشعر على العرض ذي الدقة المطلقة لموضوعه بدون أي حشو زائد. كتب هيوم في مقالته “الرومانسية والكلاسيكية”: “الصور في الشعر ذات المرأى الصارم المتماسك ليست مجرد زخرفة بل هي لب جوهره”.

تبنَّى عزرا أفكار هيوم عن الشعر في حركته التصويريّة، التي انطلقت بجدية في عام 1912، حين أضاف عزرا العبارة لأول مرة إلى المعجم الأدبي خلال لقائه مع هيلدا دوليتل. اقترح عزرا بعد أن قرأ قصيدة هيلدا “هرمز الدروب Hermes of the ways” بعض التصويبات ووقَّع القصيدة باسم “هـ. د. التصويريّة (صفة نسبة إلى التصوير)” قبل أن يرسل القصيدة في تشرين الأول/ أكتوبر من ذات السنة إلى مجلة شعر. بعدها بشهر استخدم عزرا بنفسه عبارة “التصويريّ” حين نشر أعمال هيوم الشعرية الكاملة.

هدف تيار الحداثة والتصويرية إلى أن تحلَّ التفاصيل الصارمة بدلًا من الأفكار التجريدية، والتوسع أكثر بهذه التفاصيل من خلال استخدام التشكيليّة. ابتعدت قصائد الشعر الحر والمثالية في قُصرها -كانت بشائر الإيجاز فيها واضحة، وذات صورة مُركَّزة لقصائد الشعراء الإغريق الغنائيين القدامى وشعراء الهايكو اليابانيين- عن أوزان الشعر المعروفة والتأملات الأخلاقية، مُخضعَةً كل شيء إلى ما أسماه هيوم يوما بـ “الصورة الصلبة الجافة”.

أما تعريف باوند للصورة فقد كان “تلك التي تعرض مُركَّبًا ذكيًا وذا عاطفةٍ مُلتقطة في لحظة من الوقت. إنَّ العرض لهذا “المُركَّب” على نحو فوري يمنحنا إحساسَ التحرّر المُفاجئ، إحساسَ الحرية من الحدود الزمانية والمكانية، إحساسَ النمو الطارئ- هذه الأحاسيس التي نَخبرُها في أعظم الأعمال الفنية”.

نشر باوند في آذار/ مارس 1913 مقالا بعنوان “A Few Don’ts by an Imagiste” مُعرِّفًا فيه منطلقات الفكرية للشعر التصويرية مقتبسًا إياها من قصائد الشاعر التصويري ف. س. فلينت:

1- المعالجة الفورية للـ “الشيء” فيما لو كان موضوعيًا أو غير موضوعي.

2- عدم استخدام أيّ كلمة لا تساهم في العرض بتاتا.

3- تتألف قافية القصيدة بتتابعيّة العبارة الموسيقية لا تتابعية الإيقاع.

وفي عام 1914، صدرت مختارات شعرية “Des Imagistes” من تجميع وتحرير عزرا، ضمّت أعمال كلا من وليام كارلوس وليامز، وريتشارد ألدينغتون، وجيمس جويس، وهيلدا دوليتل، وآخرين. لكن الأجواء داخل المجموعة عصفت بها ريح الخلافات في ربيع السنة نفسها بخصوص قيادة المجموعة والسيطرة عليها. انتقدت الشاعرة أيمي لوويل Amy Lowell عزرا بشأن ما اعتقدته بشأن وجهة نظره الشعرية القاصرة جدا، ومتوليَّةً قيادة الحركة ما بين سني 1915-1917. نشرت ثلاثة مختارات شعرية، وسُمِّيت جميعا Some Imagist Poets. انفصل لاحقا عزرا عن الحركة وسخر منها بتسميتها “Amygyism (نسبة التصويرية إلى أمي)”، وانتقل عزرا بتصويريته إلى فلسفة جديدة، ألا وهي “الدوَّاميَّة” مدَّعيا بأن “الصورة ليست فكرة بل عقدة أو كتلة… دوَّامة”.

بدأت لوويل في عام 1917 بإبعاد نفسها عن الحركة التي اندمجت منطلقاتها الفكرية التصويرية في رحاب الحركة الحداثية الواسعة، واستمرَّت بتأثيرها في الشعراء في القرن العشرين.

*

أبرز أعلامها 

عزرا باوند (1885-1972)

ولد عزرا لوميس باوند في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر في بلدة تعدين في منطقة هايلي، أيداهو، حيث عمل والده هيكتور في مكتب أراضٍ فيدرالي، أما أمه إيزابيل فقد كانت غير سعيدة بالسكن في بلدة صغيرة فانتقلت العائلة إلى وينكوت، شمالي فيلادلفيا حيث التحق الصبي عزرا بالعديد من المدارس قبل أن يُرسل إلى أكاديمية تشيلتينهام العسكرية في عام 1897. تحوّل بعدها إلى المدرسة الثانوية العامة ونال مقعدا  في جامعة بنسلفانيا في عام 1901.

كوّن باوند مع هيلدا دوليتل في الجامعة أول علاقة غرامية رومانسية جادة ثم خطبها لاحقا، والتقى بصديق حياته الشاعر وليام كارلوس وليامز. انتقل بعدها إلى نيويورك لإكمال  دراسته وتخرج في جامعة هاميلتون في عام 1905، وعاد إلى جامعة بنسلفانيا لدراسة الدكتوراة في شعر التروبادور.

سافر عزرا -بعد أن فسخ خطوبته من هيلدا- إلى مدينة البندقية، حيث نشره بنفسه أول ديوان قصائد “شموع مطفأة A Lume Spento”. انتقل بعد إلى لندن وهو مفلس حرفيًا آخذًا معه نسخًا من ديوانه معه. التقى هناك بعدة أشخاص من ضمنهم الروائية أوليفيا شيكسبير التي قدَّمته إلى كتّاب آخرين مثل الشاعر وليام ييتس. بدأ عزرا بعدها بتودد طويل مع ابنة أوليفيا دوروثي، الرسامة الشابة، الذي تُوِّج بالزواج في عام 1914.

في عصر إيجاد الابتكار الفني، كان عزرا متحمسًا لتطوير أسلوب شعري “حداثي” جديد. وتعاون بنفسه مع “مدرسة الصور” -تمحورت حول فكرة إن الصورة هي المبدأ المُنظِم للشعر، بشاعرها الطليعي والفيلسوف ت. ي. هيوم. استمدَّ عزرا إلهامًا مستفيضا من أصدقائه الفنانين، من بينهم الرسام ويندام لويس والنحّات هنري غادر-بريسكا، الذين طوروا أسلوب ما بعد التكعيبية الهندسي وما أسماه عزرا بـ”الدوّاميَّة”. وصلت هيلدا دوليتل إلى لندن في عام 1911 وأثَّرت في تغيير اتجاه عزرا الشعري. وعلى الرغم من فسخ خطوبتهما فقد بقيا مقرَّبين، وأسسا مع الشاعر ريتشارد ألدينغتون (زوج هيلدا لاحقًا) حركة شعرية سُميَّت بالتصويرية، والتي شددت على الوضوح الكبير في التعبير بإيجاز في قصائد من الشعر الحر.

ضاق عزرا ذرعًا بالمجموعة واعتقد أنها لم تكن تمضي قدما بما فيه الكفاية في حداثيتها. وأصبح بعدها مهتمًا بالشعر الشرقي، ولا سيما استخدامه المكثّف للغة متخففة من الكلمات الزائدة وتضمينه المجازي المدهش. بدأ في إثرها على ترجمة قصائد صينية في عام 1913، وأدرك أن هذا هو الأسلوب المطلوب منه تبنّيه في شعره حيث: الإيجاز والمباشرة والحركية. حقق عزرا بعض النجاحات التجارية بمجموعتيه الشعريتين “شخصان (1909)”، و”الردود الخاطفة Ripostes (1912″، واستهل في عام 1915 مشروعًا رئيسًا جديدًا- ملحمة شعرية مُتحدِّية ومعقدة، والتي ستُصبح لاحقا The Cantos. انتقل عزرا ودوروثي إلى باريس في عام 1921. استمرَّ بعمله على The Cantos، وكسب سمعته محررًا، وناقدا مساهما في التعليق على قصيدة إليوت “الأرض اليباب” وقصص صديقه إرنست هيمنغواي. وفي باريس، ابتدأ عزرا علاقة غرامية مع عازفة الكمان أولغا رودج- استمرت حتى آخر حياته. انتقل عزرا إلى إيطاليا بعد مدة وجيزة من تسنم بنيتو موسوليني والحزب الفاشي زمام السلطة. كان عزرا محبًا عظيمًا للقائد The Duce، وأصبح ناشطا سياسيا بتزايد خلال عقد ثلاثينات القرن الماضي ونتيجة لذلك فقد عاد إلى أمريكا في عام 1939 لحث الحكومة على عدم التدخل في الصراع الذي يُوشك أن ينشب. لم يكتفِ عزرا عند هذا الحد فقد أصبح داعما لنازية هتلر في الحرب العالمية الثانية وبثَّ أراءه الفاشية والمعادية للسامية للعالم عبر “إذاعة روما”.

كانت سمعته وبسبب آرائه الفاشية العلنية في خطر، والرأي كان وما زال منقسما إلى أي قدر يمكن تمجيده بصفته شاعرًا. تُوفي عزرا بعد يوم من ذكرى ميلاده السابعة والثمانين حين كان مع أولغا في مدينة البندقية.

من شعره:

بحر الزجاج

تطلَّعتُ ورأيتُ بحرًا

شُيِّدَ سقفه من أقواس قزح

وفي وسط أرجائه

التقى عاشقان وغادرا

ثم امتلأت السماء بوجوه

ومن خلفها بهاء ذهبي

العودة

(كُتبت هذه القصيدة في عام 1913، ونشرت في عام 1917 في مختارات شعرية. تتكون القصيدة من خمس مقطوعات بواحد وعشرين سطرا شعريا (بلغتها الأصلية). تحكي القصيدة عن عودة الآلهة، لكنها عودة آلهة في خريف عمرها خائرة القوى وشاحبة الوجوه ونحيلة الأجساد ومترددة الخطوات، وترافقها كلابها الفضية. يستخدم عزرا هذه القصيدة لتعبر عن طبيعة القوى وخوارها بمرور الوقت حتى وإن كانت تبدو منيعة في مرحلة ما، وقد تكون أيضا رمزية إلى نهاية آلهة الديانتين المسيحية واليهودية اللتين كان لعزرا موقفًا مضادًا منهما. Poem Analysis).

انظر، إنهم يعودون

آه، انظر إلى الحركات المترددة،

والأقدام البطيئة،

والهُنَّة في الخبب والارتعاش القَلِق

انظر، إنهم يعودون

واحدا تلو آخر بخوفٍ

مثل نصفِ مُستيقظ؛

كالثلج لا بد أن يهطل بتذبذب

ويهفهف في الريح

بنصف دورة إلى الوراء؛

كانت هذه “المُجنَّحةُ بالرهبة” مُحرَّمةً

آلهة الأقدام المُجنَّحة

تتقفى برفقتها الكلاب الفضية

أثر الهواء!

احترزي! احترزي!

كانت هذه السرعة للانقضاض

هذه الحماسة في التشمم

كانت هذه أرواح الدم

يرخون القِيادِ لها* ببطء

رجال القِيادِ الشاحبون

*أي الكلاب.

**

هيلدا دوليتل (1886-1961)

ولدت هيلدا دوليتل الملقَّبة بـ “التصويرية المثاليّة” في بيثليهم Bethlehem – بنسلفانيا في العاشر من أيلول/ سبتمبر عام 1886. انضمت إلى كلية برين ماير وكانت زميلة لـ ماريانا مورو (شاعرة أمريكية)، والتحقت بعدها بجامعة بنسلفانيا حيث تعرَّفت على عزرا باوند وأصبحت خليلته وللشاعر الآخر وليام كارلوس وليامز.

ارتحلت إلى أوروبا في عام 1911 بنيِّة قضاء الصيف هناك، لكنها بقيت بعيدة عن الوطن لآخر حياتها. تنامت أهمية هيلدا وباوند خلال هذه الأوقات سريعا وأصبحا رائدي حركة التصويرية الشعرية رفقة الشاعر ت. ي. هيوم Hulme، وف. س. فلنت، وريتشارد ألدينغتون، وآخرين. نالت بعضًا من بواكير قصائدها الاعتراف حين نُشرت من قبل هاريت مورنو في عام 1913.

تزوجت هيلدا في عام 1913 ريتشارد ألدينغتون، ورزقا بعد بسنتين بطفلة. انضم بُعيدها ألدينغتون إلى الجيش البريطاني للخدمة في الحرب العالمية الأولى. وفي المرحلة التي تلت مغادرة زوجها، شغلت هيلدا منصبًا مساعدة محررة لمجلة The Egoist*. نشرت هيلدا في عام 1916 “حديقة البحر Sea Garden”- أول مجموعة شعرية لها.

قُتل أخوها في شجار عام 1918، وفي ذات السنة بدأت هيلدا علاقة غرامية سحاقية مع الروائية  آني وينيفريد إيليرمان، التي كتبت باسم Bryher، وعاشت الاثنان  معًا قرابة أربعين عاما.

تميّز شعر هيلدا بالقوة الشديدة لصورها الشعرية، وإيجاز اللغة، واستثمار الميثولوجيا الكلاسيكية. لم تنل قصائدها تقديرًا واسع الأفق والإشادة خلال حياتها، ومن أسباب هذا ارتباط اسمها بالحركة التصويرية في حين أن صوتها الشعري نما بعيدًا عن حدود الحركة، والشاهد على هذا أعمالها الطويلة مثل Trilogy و Helen in Egypt. كما يمكن أن يعود رفضُ هيلين الشاعرة إلى أن القرّاء لم يكونوا مستعدين للاستجابة مع المبادئ النسوية القوية التي أفصحت عنها في أعمالها. قالت عنها الشاعرة الأمريكية Alicia Ostriker: “أصبحت هيلدا دوليتل في آخر مسيرتها الأدبية لا مجرد أفضل شاعرة موهوبة لبلدنا بل وواحدة من أكثر الشعراء أصالة -كلما قرأت لها فكرتُ بهذا- في لغتنا”.

ماتت هيلدا في زيورخ – سويسرا في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1916.

نشرت هيلدا عددا من الدواوين الشعرية من ضمنها:

Flowering of the Rod.

Red Roses From Bronze.

وكتبت النثر منه كتاب Tribute to Frued، ونُشر لها بعد وفاتها كتاب “Helen in Egypt”.

من شعرها:

حورية الجبال

(أشهر قصائد هيلدا)

دُرْ أيها البحر

دوِّر صنوبراتك المُستدقَّة

انثر صنوبراتك الكبيرة

على صخورنا

اقذفْ خُضرتكَ علينا

وغطِنا بنباتات التنوب

**

البركة

هل أنت حيٌّ؟

ترتجف مثل سمكة بحر

أغطيك بشبكتي

ما أنت؟ سمكة مُلوَّنة

* المجلة التي نشرت رواية “صورة الفنان في شبابه” لجيمس جويس ما بين عامي 1914-1915، وكانت هاريت شاو ويفر رئيسة التحرير والمالكة، وقد غيّرت اسم المجلة باقتراح من عزرا باوند من The Freewoman إلى The Egoist.

**

ريتشارد ألدينغتون (1962-1892)

وُلِدَ ريتشارد ألدينغتون باسم إدوارد غودفري ألدينغتون في الثامن من تموز/ يوليو 1892، في هامبشاير- إنجلترا. درس في كلية دوڤر وجامعة لندن، وأصبح صديقا لعزرا باوند ومن أوائل أعضاء الحركة التصويريّة، نشر مجموعته الشعرية “Images Old and New” في عام 1916.

تزوج في عام 1913 من الشاعرة هيلدا دوليتل، الشخصية المهمة في الحركة التصويرية، ثمَّ انضمَّ ألدينغتون إلى الجيش البريطاني في عام 1916 وخدم ضمن فوج Royal Sussex في فرنسا. انتهى زواجه من هيلدا بالطلاق بعد ربع قرن في عام 1938.

بدأ ألدينغتون بنشر قصائد الحرب في شباط/ فبراير 1918، وكتب في رسالة إلى صديق: “قد يبدو لكأني كنتُ مريضًا بجنون تقريبا في قصائد الحرب هذه… لا يمكنك أن تعلم ولا أن تفهم حيث أنت الآن الحالة العقلية للجندي وما ينتابه من التحطيم العميق للأعصاب، والتوتر الشديد، وحِدَّة الإحاسيس”.

نشر بعدها عدة مجلدات شعرية من ضمنها: The Complete Poems of Richard Aldington (A. Wingate, 1948), Exile, and Other Poems (G. Allen &  Unwin, 1923), and Images of War (G. Allen & Unwin, 1919).

عُرف أيضا برواياته من ضمنها :  Death of a Hero، والسير الذاتية وأشهرها لورانس العرب (Lawrence of Arabia (1955. تُوفي ألدينغتون في السابع والعشرين من تموز/ يوليو 1962 في فرنسا.

من شعره:

صور

I

مثل جندول فواكه خضراء عَبِقة

منجرفًا طوالَ قنوات البُندقية الرطبة

أنتِ أيتها البهية!

يا من دخلتِ مدينتي المعزولة

II

يثبُ الدخان الأزرق

مثل دوامات غيوم من الطيور تختفي

يثبُ حبي إلى الأمام تُجاهكِ

يختفي ويتجدد

III

قمر زهري أصفر في سماء شاحبة

حين يكون الغروبُ ذا لون قرمزي باهت

في الضباب وسط أغصان الأشجار

فأنتِ الفنُ في نظري يا محبوبتي

IV

شجرة زان فتيّة فوق حافة الغابة

تقف هادئة في المساء

رغم اهتزاز كل أوراقها بنسمة هواء

وتبدو خائفة من النجوم-

أنتِ كذلك هادئة وكلُّكِ ارتعاش

V

الأيائل الحمراء تعلو فوق الجبل

هناك خلف أشجار الصنوبر الأخيرة

وهرولتْ رغباتي معها

VI

الزهرة التي هزّتها الريح

امتلئتْ بَعدها بالمطر مجددا

هكذا يمتلئ قلبي بالدموع على مهلٍ

يعلوه الزَبَد، وريح حقول الكروم

حتى تعودي

**

وليام كارلوس وليامز (1883-1963)

وُلدَ وليام كارلوس وليامز في السابع عشر من شهر أيلول/ سبتمبر 1883 في رذرفورد، نيو جيرسي. بدأ وليام بكتابة الشعر في المرحلة الثانوية عندما كان طالبا في مدرسة هوراس مان، ووقتها اتَّخذ قراره وحزم أمره في أن يكون طبيبًا وكاتبًا. وهذا ما تحقق لاحقًا بعد نيله شهادة الطب في جامعة بنسيلفانيا، حيث التقى وكوّن صداقة مع عزرا باوند.

بدأ تأثير عزرا يُصبح عظيما في كتابات وليامز، ورتّب لوليام في عام 1913 نشر مجموعته الشعرية الثانية “Tempers” في لندن. وبعودته إلى وذرفورد استمرَّ وليام بممارسة الطب خلال حياته، وابتدأ النشر في مجلات مغمورة وشرَعَ بمسيرة أدبية غزيرة شاعرًا وروائيًا ومسرحيًا وكاتبَ مقالات. كان وليام واحدًا من الشعراء المؤسسين للحركة التصويرية خلف عزرا، إلا إنه بمرور الوقت عارض القيم التي رُوِّجَ لها في كلٍّ من أعمال عزرا وإليوت ولا سيما الثاني الذي شعرَ أنه أكثر اتصالًا بالثقافة الأوروبية وتقاليدها.

باستمراره في تجربة تقنيات جديدة في بحور الشعر والسطورية الشعرية (نظم الشعر وفقًا للسطور الشعرية ومراعاة النَغم الشعري والإيقاع وطول السطر وقصره وتواصله وانقطاعه في النظم الحر)، سعى وليام إلى إبداع شاعرية أمريكية فريدة وجديدة بالكامل، يتركّز غرضُ موضوعها الرئيس حول ظروف الحياة اليومية وحيوات عامة الناس. انتشر تأثير وليام الشعري ببطء في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وشعر بأن الشعبية الكبيرة لقصيدة إليوت “الأرض اليباب” قد طَغت عليه. لكن الالتفات إلى أعماله شهد تزايدًا ملحوظا في خمسينات وستينات القرن الماضي من الشعراء الشباب من بينهم Allen Ginsberg وThe Beats، الذين أُعجبوا بوصولوية لغته وصراحته بصفته مرشدًا.

تنوعت أعماله الرئيسة بين:

Kora in Hell (1920);

Spring and All (1923);

Pictures from Brueghel and Other Poems (1962) المجموعة الشعرية التي نالت جائزة Pulitzer;

the five-volume epic Paterson (1963, 1992);

Imaginations (1970).

تدهورت صحة وليام بعد نوبة قلبية في عام 1948 وسلسلة من الجلطات الدماغية، لكنه استمرَّ بالكتابة حتى وفاته في الرابع من آذار/ مارس عام 1963 في مسقط رأسه نيو جيرسي.

من شعره:

عربة يد

كثيرةٌ هي الأشياء

التي عليها تعتمد

عربةُ يدٍ حمراء

مكسوَّةٌ بماء المطر

بجانب الدجاجات

البيضاء

*

مرثاة أرملة في الربيع

الأسى في ساحتي

حيث العشبُ الطري

متوهجٌ كما لو أنه التهبَ

مثل السابق غالبًا بنارٍ باردة

نارٌ تقترب مني هذه السنة

خمسة وثلاثين عامًا

عشتها مع  زوجي

شجرة البرقوق بيضاء اليوم

تحطيها أحراش الورود

تحمل أغصان الكرز

ثمة بعض الشجيرات الصفراء

وبعض الشجيرات الحمراء

لكن حُزن قلبي أقوى منها وألوانها

رغم أنها كانت فرحتي في الماضي

أطالعها اليوم وابتعد نحو النسيان

أخبرني ولدي وسط المروج اليوم

رؤيته لأشجار الأزهار البيضاء

عند نهاية الأيكة في الغابة

يتنابني شعور عارم بالذهاب إلى هناك

والانغمار وسط تلك الأزهار

والغرق في المستنقع قرُبها

*

هذا ما يُقال فحسب

أكلتُ البرقوق

الذي ضمَّه البرَّاد

البرقوق الذي

قد تكونين تحتفظين به للإفطار

اغفري لي

فقد كان شهيًا

ولذيذًا جدًا

وباردًا جدًا

**

أيمي لوويل (1874-1925)

وُلِدت أيمي في التاسع من شهر شباط/ فبراير عام 1874 في سفينلز، الأخيرة من بين خمسة أطفال للعائلة في إقطاعية بمساحة 10 فدادين تعود ملكيتها لذويها في بروكلين – ماساشوستس. اعتنقت عائلتها مذهب الكنيسة الأنجليكانية لنيو إنجلاند القديمة، وكانت على قمة هرم مجتمع بوسطن.

كان أخوها الأكبر، أبوت لورانس، طالبًا جامعيًا في هارفارد وقتَ ولادتها ثم أصبح لاحقًا رئيس كلية هارفارد. تعلَّمت أيمي الصغيرة في المنزل، ثم قصدت المدارس الخاصة في بوسطن، وخلال هذه المرحلة من حياتها زارت أوروبا مع عائلتها في عدة رحلات.

وبسن السابعة عشرة وضعت أيمي لنفسها قائمة كتب مكونة من 7000 كتاب في مكتبة سفينلز لدراسة الأدب، وشجَّعتها عائلتها على الكتابة في سنٍّ مبكرة.

كتبت أيمي مع أمها وأختها في عام 1887 “Dream Drops أو Stories from fairy land” ووضعنَّ كلمة “حالم” استعارة عن اسم كاتبها، وطُبعَ الكتاب سرًا من قبل شركة كوبلز وهورد في بوسطن. نُشرت قصيدتها “Fixed Idea فكرة راسخة” في عام 1910 في مجلة أتلانتك الشهرية، واستمرت بعدها أيمي بنشر قصائد مفردة في مجلات مختلفة. ظهرت أول مجموعة شعرية لها في تشرين  الأول/ أكتوبر عام 1912 والتي حملت عنوان “قُبّةُ زجاجٍ ملون A Dome of Many-Coloured Glass”  كانت أيمي، امرأة الأعمال النشِطة والصريحة، ذات نزعة إلى الجدَل المُثير، واهتمت من أعماقها وتأثرت بالحركة التصويريّة التي قادها عزرا باوند.

آمنت الحركة الأنجلو-أمريكية بكلمات أيمي “التكثيف هو جوهر الشعر الحقيقي” وسعتْ جاهدة “لإنتاج شعر صلب وواضح لا بالضبابي أو الغامض”. قادت أيمي الحركة الشعرية التصويرية في أمريكا، واعتنقت مبادئ أعمالها الشعرية، وشغلت دور مُروِّجة عمومية للحركة، محررةً ومساهمةً في “مختارات شعراءَ تصويريين” في عام 1915. ساهم تأثيرها ومشاركتها الحماسية في انفصال عزرا عن الحركة، ووصفته بأنه ذو رؤية شعرية قاصرة وقادت الحركة الأنجلو-أمريكية لعامين (1915-1917).  استمرت أيمي في استعراض الأسلوب التصويري في الشعر وكانت الطلائعية في استخدام “النثر المتعدد الأصوات” في اللغة الإنجليزية، مازجة الشعر التقليدي بأشكال الشعر الحر.  غمرت نفسها لاحقا بالشعر الصيني والياباني متأثرة به، وقادها هذا الاهتمام لمشاركة المترجم فلورنس آيسكاف Florence Ayscough في ديوان “Fir-Flower Tablets” في عام 1921. أحبَّت أمي طوال حياتها الشاعر كيتس، ويُمكن رؤية تأثيره واضحًا في قصائدها ورسائلها، وآمنت بأنه سلف التصويريّة. ونُشر كتابها عن سيرة كيتس في عام 1925 وهي ذات السنة الذي حازت فيها جائزة Pulitzer عن مجموعتها الشعرية “What’s O’Clock”.

توفيت ]مي لوويل الشاعرة المتكرَّسة للشعر، والمروِّجة العامة، وجامعة التحفيات، والناقدة، والمحاضرة في الثاني عشر من أيَّار/ مايو عام 1925 في إقطاعية العائلة، سفينلز.

من أعمالها:

Selected Poems of Amy Lowell (Rutgers University Press, 2002)

What’s O’Clock (Houghton Mifflin Company, 1925)

Sword Blades and Poppy Seed (The Macmillan Company, 1914)

A Dome of Many-Coloured Glass (Houghton Mifflin Company, 1912)

من شعرها:

أوبال

ثلجٌ ونارٌ أنتَ،

وبلمسة منك تحرق يديَّ كالجليد

بردٌ ولهبٌ أنتَ،

يا لونَ النرجسِ القرمزيّ

يا لونَ زهرِ المغنوليّة الفضيّ

حين أكون برفقتك

يُصبح قلبي بركة متجمِّدة

تبرقُ بأضواء مُتهيِّجة

*

كهولة

مثلُ جليدٍ أسودَ

يمرُّ فوقه مرَّ سحابٍ بتخبُّط

متزلِّجٌ جهولٌ

هذا سطحُ قلبي البليد

*

ريحٌ وفضة

مُشرقٌ بعظمة

يطفو قمرُ الخريفِ في السماء الرقيقة

تهتز أسماك الزينة في أحواضها

وتومضُ حراشفها التنينيّة

في كل مرة مرَّ فوقها

*

زوجة الصياد

حين أكون وحيدة

الريحُ بين أشجار الصنوبر

مثل صفعِ الموجاتِ

على جوانبَ قاربٍ خشبيّة

*

عاشق

إذا تمكنت من إمساكَ خضرةِ مشكاةِ الحُباحِب

قد أنظرُ في كتابةِ رسالةٍ إليكَ

**

ت. ي. هيوم (1883-1917)

وُلِدَ توماس إرنست هيوم في السادس عشر من شهر أيلول/ سبتمبر   1883 في إندون، إنجلترا. قصدَ كلية القديس جون – كامبريدج، لكنه غادرها دون أن يتخرَّج. أصدرت مجلة “العصر الجديد” الأدبية خمسًا من قصائده التي أُعيد طبعها في مجموعة عزرا الشعرية “الردود الخاطفة Ripostes (1912”.

لهيوم شخصية ذات جاذبية خاصة وفي كل الجوانب فعليًا، فقد كان بطول ستة أقدام، وبتقاسيم وجه قرمزية، ورغبة بالجدال مع أي شخص وفي مشاجرته،(خاض عراكًا شهيرًا بالأيدي مع Wyndham Lewis في ساحة سوهو)، انحدر هيوم من ستافوردشاير، الريف الذي أخرج للعالم قبل قرنين كاتبَ رسائلَ جذَّاب آخر وهو الدكتور جونسون.

قضى في بداية عشرينياته مغامرة قصيرة في كندا، ورحل إلى لندن، حيث أسسَّ “نادي الشعر” وجادل الناس، وأكل الكثير من الحلويات (لم يشرب الكحول قط، وليس بمدخنٍ، مفضلًا عليهما أكلة suet pudding ودبس السكر). وعلى الرغم من نشره العدد القليل من القصائد في حياته إلا إنه يُعدَُّ من مؤسسي الحركة التصويرية وشخصية مهمة في شعر القرن العشرين. كتب إليوت عنه قائلًا: “هيوم كلاسيكي، ورُجْعي، وثَوري؛ إنه مضادات العقل الديمقراطي والانتقائي والمتسامح في آخر القرن التاسع عشر”. قُتل هيوم في معركة في الحرب العالمية الأولى في الثامن والعشرين من شهر أيَّار/ سبتمبر 1917.

بعد هذا العرض الموجز لحياته القصيرة نجيب عن سؤال هل كان ت. ي. هيوم: أول شعراء الحداثة؟

من كتب أول قصيدة حداثية إنجليزية؟ متى وأين كُتبت؟ ثمة العديد من الترشيحات، وأسوأ ما يمكن اقتراحه هو تفضيل آخرَ على “ت. ي. هيوم” الذي كتب قصيدة “غروب شمس مدينة” في عام 1908، على ظهر فاتورة فندق.  ويمكن ضّمُّ هيوم مع حفنة من الشعراء ليشكلوا مخططًا لأسماء شعراء الحداثة. لـ”شعر الحداثة” سمات يمكن تميزها بسهولة كـ: الإيجاز، دقة اللغة، البيان غير الصريح والمباشر، انعدام القافية، المواضيع اليومية والعادية، وبهذه السمات نحصل على هيوم وآخرين. كتب هيوم في نشاطه العارم “بيان الشعر الحديث” الذي نال عزرا شرف الإعلان عنه بعد تأسيس الحركة التصويرية رفقة آخرين، وقعَّد في مقالته A Few Don’ts by an Imagiste بعض قواعد شعر الحداثة، التي صاغها هيوم قبل خمس سنوات سلفًا. تشارك هيوم وعزرا في تأسيس التصويرية الشعرية، على الرغم من أن عزرا سيزيل دور هيوم بقسوة الذي لعبَ دورًا في تشكيل التطبيق التصويري الشعري. وبالعودة إلى تاريخ أول قصيدة حداثة كتبها هيوم، فلا مجال للتردد في تحديد تاريخها الكائن في السادس والعشرين من شهر أيار/ مايو عام 1908 على ظهر فاتورة فندق، بدأ بها هيوم بإبداع مفهوم جديد للشعر، مبنيٌ على الوضوح، والدقة اللغوية، والتي سيطلق عليه عبارات مثل “جاف، وقاسٍ، وشعر كلاسيكي”. تُقرأ القصيدة “غروب شمس مدينة” كما لو أنها تفكير شاعرٍ بصوتٍ مسموع، ومألفةٌ كما يمضي شاعرها في البحث عن لغة جديدة، والذي ادَّعى أن العديد من قصائده كانت ارتجالية، ومنظومة من أجل موضوع عابر، تاركًا الصور تتنزل طبيعيًا إليه.

تتألف “غروب شمس مدينة”:

فاتنٌ -إغواءُ الأرضِ- بأوهامٍ سامية

غروبُ الشمس الذي يسود في نهاية الشوارع الغربيّة

توهجُ سماءٍ مفاجئ

مربكٌ بغرابةٍ للمارِّ

برؤى سيثارا

-غريبٌ على الشوارعَ المديدة-

أو باللحم الناعم للسيدة كاسلماين…

***

جَذَلٌ قرمزيٌ

هو البهاءُ المنتشرُ للسماء

خادمُ العلياءِ المَرِح

تَبخترُ أذيالِ ثوبٍ أحمرَ

طوالَ أسطح المدينة الراسخة

وقت عودة الحشدِ إلى المنزل

خادمٌ مغرور، وباقٍ، يأبى الذهاب

ابتدأ هيوم كتابة قصيدة بقافية ثنائية (Conciets/أوهام وStreets/ شوارع، وPasser by/ المار، Sky/ السماء) ثم تبنّى تطبيقًا جديدًا من الشعر الحر -ابتداءً من جذلٌ قرمزي- في قصيدته، بكتابة سطور غير مقفّاة متجنبًا فيها بحور الشعر المعتادة، وبنيوية الشعرية المقطعية، والتي ستوصف لاحقا من قبل روبرت فروست بصياغة لا تُنسى “مثل أن تلعبَ التنس والشبكة على الأرض”. من هذا التساقط الحر للسطور تبرز صورةٌ أو زوجان من الصور هما غروب الشمس، مجاز شعري تقليدي، مربوطًا بثوب امرأة حمراء يرفرف على أسطح المنازل. من جذر هذه الفكرة الواضحة، تطوّرت قصائدُ أخرى مثل “الخريف” التي يرتبط القمر فيها بوجه فلاح أحمرَ، و”فوق رصيف الميناء” التي يظهر القمر مجددًا لكن هذه المرة كبالونة طفل، و”الجسر” حيث سماء مزدانة كليا بالنجوم مرتبطة ببطانية قديمة تآكلتها العثة تائقةً بحزن لشخص ما ينام على مضض فوق شاطئ نهر التايمز. في كل قصيدة من هذه القصائد القصيرة صورتان -واحدة مرتبطة بلا نهائية السماء والعلياء، والأخرى مرتبطة بمظاهر الحياة اليومية الصغيرة- ينضمان لبعض معًا، كما لو أن هيوم في بحث لجلب الفضاء اللا محدود للشعر التقليدي إلى الأرض. وهذا بالضبط، كان أول فعل شعر الحداثة بتطبيقه على شيء ما غير ملحوظ، والحياة اليومية، مثل فاتورة فندق (كتب هيوم قصيدة أخرى على ظهر بطاقة بريدية). تشبه هذه القصائد القصيرة شعر الهايكو الياباني، الذي خَبِره عزرا بعد سنوات قلائل. ومنحت تجارب هيوم النهضة للتصويريّة، التي كانت الشعر الحقيقي الأول الذي يتعامل مع قضايا الحياة اليومية: وغالبًا ما تناولت التفاصيل العادية للعالم المعاصر، مثل الانتقال عبر الميترو، والمشي في شوارع لندن، ومراقبة الحشود وهي تغادر صالات السينما. ويسبق الشعرُ التصويري بعقدين من الزمن قصائدَ لـ Pylon Poets التي ذاع صيتها في ثلاثينات القرن العشرين. وبزَّت واحدة من قصائد هيوم القصيرة قصائد الهايكو الشعرية بإيجازها إذ تتألف من ثماني كلمات: “كانت المنازلُ القديمة سقّالةً ذات مرة/ وصفيرُ عُمّال”. إن شبكة الأصوات فيها معقَّدة ومعتنًى بها، فكلمة “قديمة” تحظى بدعم من “سقّالة” التي تغلِّف الكلمة، في حين تعاودُ “كانت” الظهور في “عمَّال” حيث ترتبط الصورتان معًا عبر قافية داخلية وصدًى. وبالطبع فثمة ساحل شعري حداثي بديل يمتاز بكونه أكثر غموضًا وتلميحًا كما في أسلوب ت. س. إليوت، وجيوفري هِل- لكن الفكرة الأكثر شيوعًا لـ”الشعر الحداثي” بلا شك فكرةُ هيوم التي سادت التخيُّل الشعبي.

اقترح كارول آن دوفي في عام 2011 بأن القصائدَ القصيرة شكلٌ من أشكال الرسائل النصيّة للُغتها غير الراقية وإيجازها: مقارنةٌ مُوحية للشاعر الذي يمنحنا “نصًا” ربما يكون أول قصيدة جديرة بالملاحظة حول خبرة المراسلة النصيّة. لكن الشعر الإنجليزي كان قد نما سلفًا نحو صغر الشكل قبل مئة عام، قبل الهواتف الجوّالة وعوالم الرسائل النصيّة بكثير.

فكّر هيوم بأن على الشعر أن يكون قصيرًا حتى يستطيع الشخص العادي قراءته وتقديَّره في الترام وهو في طريقه إلى العمل أو أثناء جلوسه على الكرسي بعد العشاء. ترك هيوم لنا حفنة من القصائد التي سيشيد بها ت. س. إليوت بأن “اثنتان أو ثلاث من أجمل القصائد القصيرة في اللغة الإنجليزية”. أنزلَ هيوم الشعر من عليائه لكن ما حققه بعيد كل البعد عن الضآلة، فقد ساعد في إبداع شعر الحداثة كما نعرفه اليوم.

****

أفضل قصائد هيوم من اختيار وتعليق د. أوليفر تيرل:

تعد قصيدة “الخريف” واحدة من القصائد التي عمل عليها هيوم لتصبح قصيدة كاملة (يُجادلُ بأنها أول قصيدة حداثية بالإنجليزية) وقد نلمحُ فيها الذاتيّة في صورة “فلاح ذو وجهٍ أحمر”

لمسة برد في ليلة الخريف

مشيتُ خارجًا

ورأيت قمرًا ينحني على سياجٍ

مثل فلاحٍ ذي وجهٍ أحمرَ

لم أقفْ للحديث، أومأتُ فحسب

وحوله كانت النجوم الحزينة

بوجوهها البيضاء مثل أطفال المدينة

*

كان هيوم مأخوذًا بالقمر لكونه ربما الصورة الشعرية الرومانسية التي تبزُّ كل الصور الشعرية الرومانسية الأخرى، ويعود إليها في قصيدة “فوق رصيف الميناء” (يعود هيوم في هذه القصيدة على نحو طفيف إلى التقليدية الشعرية عبر نظمه بقوافي ثنائية):

فوق رصيف ميناء هادئ في منتصف الليل

مربوطٌ بحبلٍ الصارية الطويلة-

يعلِّقُ ارتفاعه القمرَ

ما يبدو بعيدًا جدًا ليس إلا بالون طفلٍ

منسي بعد اللعب

*

يعجب هيوم بحزن المدينة أو البلدة في الليل، مع ذاك اللقاء الرومانسي (للنجوم والسماء) والعصري والحَضَري. كما في هذين السطرين الشعريين مع قافية ثنائية تُظهر هذا بإيجاز:

المشهدُ المُبهَمُ الأسى

لبلدة بعيدة في الليل تُرى

*

ظهرت قصيدة “مانا أبودا” -وهي إلهة بولينيزية- مع القصيدتين السابقتين ضمن القطع الخمس القصيرة التي ألَّفت في الأصل “الأعمال الشعرية الكاملة لـ ت. ي. هيوم” في حاشية ديوان عزرا “الردود الخاطفة” (لا بد أن هيوم أمسك لسانه جيدًا واحمرَّ خده فعلًا عندما قرأ العنوان):

مانا أبودا، ذاتُ شكلٍ منحنٍ

هي السماء في دائرةٍ مُقنطرةٍ

بحزن يبدو مجهولًا ليُرثى

رغمَ سماعي لبكائها يومًا

سئِمٌ من الأزهار وغناء الشعراء

ويوسف فوق هذا ليس طويلًا ليحاول

*

أما قصيدة “سوزان آن والخلود” فهي تنوع آخر في الثيمة العامة في شعر هيوم -العلاقة بين المدى الفسيح للسماوات وصغر الأشياء الأرضية الراسخة تحت أقدامنا:

مدلًّى رأسها إلى الأسفل

محدقةٌ إلى الأرض، وثابتةُ الحماس

مثل أرنبٍ  عند ابن أوى

حتى كانت الأرضُ سماء

والسماء خضراء

ومرّتْ الغيوم البنيّة

 *

وفي القصيدة “الشاعر” وهو شخصية تحلم بشاعرية مؤسسة على الصور المركَّزة أكثر من الصور الشعرية المجرَّدة المبتذلة:

فوق الطاولة الكبيرة

انحنى بابتهاج في حلمٍ

تحوَّل إلى أخشاب

تحدَّثَ ومشى مع الأشجار مغادرًا العالم

وعاد إلى الأرض

مع مجوهرات ملوَّنة

حجرية، وصلبة، ومحددة

بها لعبَ في الحلم على الطاولة الملساء

 *

ويعقد في قصيدة “الغروب” مقابلة مدهشة بين الرمز الرومانسي التقليدي (وهنا الغروب أكثر من القمر) مع شيء غير متوقع “راقصة باليه”:

زعيمُ حزب طامعٌ بالإطراء

وممانعٌ عن مغادرة المنصّة

بسِحرها الختامي، توازنت ساميةً على إصبعها

ومظهرةً لباسها القُرمزي الغيوم الشفقيّة

وسطَ همهمات المنافسين المتذمِّرة

*

انشغلت بعض قصائد هيوم بالتعامل مع شخصيات متهاوية، أناس فقدوا كل شيء وألفوا أنفسهم يحلمون بشيء لا يستطيعون الحصول عليه الآن. فأما القصيدة الأولى قصيرة وأقل شهرة عن السير والتر رالي:

محبوسٌ رالي في البرج المظلم

حالمٌ بالبحر الأزرق

وما وراءه في فردوسَ ذاتِ مَدارٍ لم يُدرك- نما مِسكٌ…

والأخرى وهي لربما أشهر قصائد هيوم “الجسر” (قصة خيالية لانهيار رجل وقور في ليلة باردة ومُرَّة):

في غمرةِ عذوبة الكمانات

ألفيتُ نفسي ذات مرة

منتشيًا بوميض الكعوب الذهبية على الرصيف

أرى الآن دفء أشياء الشعر الدقيقة

يا إلهي..

اجعل دثار السماء القديم الآكل للنجوم صغيرًا

فقد أتلحف به وأستلقي مرتاحًا

المراجع:

  • Writers their lives and works.(Book)
  • Poetry Foundation.
  • Academy of American poets.
  • Interesting literature.

(Websites)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى