كتب

حالة طوارئ – ألبير كامو

مسرحية

 الطاعون: لا سيادة لأحد غيري، هذا أمر واقع فهو إذن حق، ولكنه حتى لا يقبل المناقشة وعليكم أن تروضوا أنفسكم على التكيَّفِ وفقه. على كل حال حذار من أن يخطئ ظنكم، قلتُ إنني رب السيادة هنا، وقد يكون من الأصح أن أقول إنني رب الفعل والتنفيذ. 

بعد سنة من نشر رواية الطاعون، نشر كامو مسرحية “حالة طوارئ” في عام 1948، ويعلل المترجم اختيار هذا العنوان رغم أن العنوان الحرفي للعمل “حالة حصار”: إن ما يفرض على مدينة قادش (أرض الحدث) هو حدثٌ طارئ سرعان ما ينتهي. يبدو التعليل منطقيًا كون الحالة التي تمر بها المدينة وأهلها هي حالة أشرب بحالة الطوارئ التي تضرب بلدًا ما، لكن كان بإمكان كامو أن يستخدم “طوارئ” لا “حصار” لذا فإن لهذا التغيير صوابه الاقتراحي وخطأه التنفيذي. وبما إن الرواية رمزية في كثير من أحداثها وشخصياتها المتمثلة في مقدمتها بشخصيتي الطاعون والسكرتيرة فإن كلمة “حصار” لها أيضا رمزيتها وليس المقصود بها حالة الطوارئ التي تضرب المدينة بل لها مدلولاتها المختلفة التي تبقى محل تأويل من قبل القارئ. وما يتبيّن لي فإن “حصار” لها مرامٍ مرتبطة برمزية المسرحية، بدءًا من اختيار كامو لإسبانيا بدلًا من أوروبا الشرقية، التي كانت تعاني من النظام الشمولي المتمثل في الاتحاد السوفيتي، واتخاذ مدينة قادش الساحلية أرضًا لأحداث المسرحية، وربطًا بما سبق المسرحية من رواية الطاعون ورمزيته المرض فيها إلى اجتياح النازيّة لأوروبا. نقف أولًا عند سؤال لمَ إسبانيا بالذات، وبالإجابة عن هذا السؤال يتضح لي سبب اختيار كامو لكلمة “حصار” بدلًا من “طوارئ”، كانت إسبانيا وحتى سبعينات القرن الماضي تعاني من نظام قمعي متمثل في حكم الجنرال فرانكو، ولم تستطع نُظم وحكومات أوروبا استمالة فرانكو حتى وفاته في عام 1975، لتبدأ بعده إسبانيا بالعودة تدريجيًا إلى أحضان أوروبا الغربية. أوروبا التي كانت “محاصرة” من خطر المد الشيوعي في شرقها وخطر استمالة السوفييت لفرانكو في غربها، فها هنا يتبيّن الحصار المقصود، حصار أوروبا بين فكَّي كماشة الشمولية الشيوعية التي جعلتها في اضطراب مستمر يقرع نواقيس الخطر. كتب كامو رواية الطاعون، ووصف فيها إنسان الأزمات في مواجهة خطر الكوارث المرضية والفكرية على حد سواء إذا أخذنا ببعد العمل الرمزي الدال على النازيّة المتمثل في “الطاعون”، لكنه في مسرحيته هذا وجَّه الأضواء إلى الجهة المقابلة، جهة الجاني، إلى الطاعون نفسه، وهو النظام الشمولي وقراءته من كثب وكيفية الخلاص منه، وفي السكرتيرة التي رمزت إلى “إدارة هذا النظام الشمولي”، وفي المقابل نجد شخصيتي دييغو “رمز المقاومة” وفيكتوريا حبيبته “رمز الحياة”. يستولي الطاعون على الحكم بتنازل الحاكم القديم عن الحكم طوعيا، ويبدأ بتنفيذ حالة الطوارئ على مدينة قادش وينتشر الموت بين الناس، ويحصد الطاعون الأرواح بشخطة قلم من دفتر السكرتيرة التي لا تتوانى عن تنفيذ الأوامر. 

تنقسم المسرحية إلى ثلاثة أقسام تدور الأحداث فيها، ابتداءً من سيطرة الطاعون على  الحكم وانتهاءً بذهابه إلا إنه ذهاب منتصر لا ذهاب خاسر، ففي رواية الطاعون يختتم الراوي بقوله: “وإن يومًا ما قد يأتي يوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبة للناس وتعليمًا لهم، ويرسلها تموت في مدينة سعيدة”، ولم يكن لأهل مدينة وهران من فضل في هزيمته إلا في الصبر والانتظار، ويتكرر الأمر في هذه المسرحية فبعد أن يُتمَّ الطاعون مهمته يخرج مع السكرتيرة بكامل إرادته خروج غير مضطر ولا مهزوم، بل وقد آخذ معه دييغو مقابل إعادة فيكتوريا إلى الحياة. ليتبادر لقارئ الرواية والمسرحية ما الطريقة المُثلى لمواجهة هذا الخطر الممتد، لا يبدو أنَّ العملين يمنحان وسيلة أو نهجًا يتبعه المرء أو حتى أسلوبًا تجريبيًا متخيَّلًا في المواجهة إلا إننا نحصل في المسرحية على إضاءة على بذرة المقاومة وجذرها المتمثِّلة في عدم الخوف والوقوف بشجاعة وثبات في مواجهة الطاعون أو الأنظمة الشمولية، لكن هذه المواجهة لا تُؤتي أكلها دائما بل وقد تبدو محاولة عبثية لا سيما حين يكون للطاعون الشمولي أذرعه التي لا تُلوى وقوته التي تُهزمُ وحديده الذي لا يُفلُّ إلا بتقادم الزمن وبعد أن يتعب من نفسه أو ينهي ما أراده، أي التآكل الداخلي والاضمحلال الذاتي. لكن هل المقاومة عبر عدم الخوف هي الوسيلة التي يجب أن يتبعها المرء في ظل هذه الأنظمة الشمولية، لا يمكن فرض وسيلة معينة عليه لكن لا بد من الاعتراف أنه لا يملك خيارًا سوى المواجهة وعدم الخوف وانتظار أن ينهي الطاعون الشمولي نفسه بنفسه، كما نرى النهاية التي اختارها فيليب ديك في روايته “الرجل في المعقل العالي” لهتلر بعد أن أحكمت النازية سيطرتها على العالم:  … أو الرجل المريض. العجوز هتلر، ومفترض أنه داخل مصحة في مكان ما، يعيش المتبقي من حياته بخرف الشلل الجزئي. سفلس الدماغ، يرجع تاريخه إلى أيام فقره وهو متسكع في فيينا بمعطف أسود طويل، وملابس داخلية قذرة، ومأوى رديء. 

من الجلي إنَّ انتقام الإله التهكمي هذا مستلخص من بعض الأفلام الصامتة. ينهش هذا الرجلَ المتوحشَ رجسُه الداخلي، الوباءُ التاريخي للشر البشري. فكم يجب علينا الانتظار حتى ينهشَ الطاعونَ الشمولي رجسُه الداخلي؟ وإن كان علينا التسريع في عملية إهلاكه نهشًا فما السبيل إليها؟ أسئلة قد تبقى بلا إجابة أبدًا. 

***

ترد في المسرحية أقوال ترتقي إلى مستوى الأمثال والحِكم أُوردُ بعضًا منها: 

 

الحياة والموت سيّان والإنسان حزمة من ذات الحطب الذي يُوقَدُ للمحكوم عليهم بالموت حرقًا. 

 

إن الحكومات الصالحة هي الحكومات التي لا يحدث فيها شيء، تلك هي إرادة الحاكم ألا يحدث شيءٌ في حكومته حتى يظل حاكمًا صالحًا كما كان دائما. 

 

أمور خاصة تلك كلمات لا معنى لها عندنا، الأمر يتعلق طبعًا بحياتك العامة، وهي كل الحياة الوحيدة المصرَّح لك بها، سيدي القاضي إلى التفاصيل.                          

 

القاضي الأول: هل أنت أيها الرجل من هؤلاء الذين يحترمون النظام القائم. 

الصيَّاد: نعم حين يكون عادلًا ومعقولًا. 

السكرتيرة: أصبحت موضع شك، اكتبْ: إن المشاعر الوطنية مشكوك فيها.

 

إن الأمر يتعلق هنا بالعمل من أجل ألا يفهم أحدٌ أحدًا مع استعمال اللغة نفسها. 

 

طاعون واحد وشعب واحد.

 

القاضي: إني أخدم القانون ولا أستطيع استقبالك هنا. 

دييغو: لقد كنتَ تخدم القانون القديم. ولا شأن لك بالقانون الجديد. 

القاضي: إني لا أخدم القانون من أجل ما يقضي ولكن لأنه القانون. 

دييغو: ولكن إذا كان القانون هو الجريمة؟ 

القاضي: إذا أصبحت الجريمة هي القانون فستكف عن كونها جريمة. 

 

لا شيء يسمى نذالة في مدينة الأنذال. 

 

ليس من الرجولة أن لا تتورع عن ذكر أمر سبق لك أن غفرته. 

 

إن للجسد أخطاءه وللقلب جرائمه. 

 

الواجب هو في البقاء بالقرب من الذين نحبهم. 

 

من ذا الذي يحتاج إلى الشفقة غير هؤلاء الذين لا يرحمون أحدًا. 

 

إن قيمة إنسان تُسلب منه الحياة فيصبح ميتًا هي أقل فوزًا من قيمة إنسان تسلب منه الحرية فيصبح عبدًا.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى