يتناول هذا الكتاب سيرة الأديب الروسي الفذ والذي لقّب بأبي الأدب النقد الروسي، على غرار بوشكين الذي لقّب بأبي الشعر الروسي، ويستعرض هذا الكتاب للدكتورة حياة شرارة حياة هذا الكاتب التي أحاطها الفقر والعوز المادي وصعوبات الحياة لكنها كانت غنية على الجانب الإبداعي النقدي الذي جعل من اسم بيلينسكي مشهورا في روسيا والعالم فيما بعد. وسأتناول حياته وآرائه النقدية والأدبية في السطور القادمة، معتمدًا على ما وردَ في الكتاب نصًّا..
ولد فيسارون غريغوريفتش بيلينسكي عام 1811 في سفيابورغ الواقعة على بحر البلطيق. كان أبوه ذكيا أبي النفس واسع الثقافة والاطلاع في الأدب والفلسفة ذا فكر متفتح ومستنير. وأما والدته فكانت سريعة الانفعال وقد زاد وضع الأب من وعورة أخلاقها، إضافة للحاجة المادية الدائمة التي تعيشها العائلة. وفي هذا الجو مشحون ترعرع بيلينسكي دون أي شعور بالجو العائلي، وحرم وهو يواجه لجج الحياة المرعبة القاتمة المنتصبة أمامه من فرح الطفولة وهو يواجه لجج الحياة المرعبة القاتمة المنتصبة أمامه من فرح الطفولة ومرحها. فتعلم البغض والكراهية وتأصل الحقد في روحه على النظام العبودي وتجسمت شروره لناظريه وهو لا يزال صبيا يافعا. أنهى المرحلة الأولى من دراسته عام 1825 والتحق في السنة نفسها بالمدرسة الثانوية لمحافظة بينزا -التابعة إليها ولاية تشيمار حيث يقطن بيلينسكي-، وواجه صعوبات أثناء دراسته لأنها كانت تتعارض طموحاته مع ضيق أفق المدرسين وجمود المواد الدراسية ومحدودية البرامج التعليمية. وبعد انضمامه إلى الدراسة الجامعية في موسكو؛ أثّر نفوره من الدراسة الجامعية وازوراره عنها على معدلاته، حتى وصل به الأمر إلى الرسوب في درس الأدب واللغة. وكانت المادة الوحيدة التي أحبها هي درس التاريخ الذي يحاضر فيه تاشينوفسكي وهو صاحب مدرسة تعارض المدرسة المحافظة التي تفهم التاريخ باعتباره تاريخ الأباطرة والقياصرة.
شهدت الجامعة أولى محاولات بيلينسكي الأدبية فكتب مسرحية “ديمتري كالينين” والتي انتقد فيها الواقع العبودي وفيها لوحات وصور متباينة من حياة الملاكين وقسوة معاملتهم للفلاحين. كانت حياة بيلينسكي صعبة وكانت الأبواب موصدة في وجهه ولم يستطع العثور على مورد عيش في موسكو المدينة التي لا ينتمي إليها والتي آثر البقاء فيها لصلتها بالحياة الثقافية والخصبة، ووجد عملا في مجلة “ليستوك” وهي من المجلات المغمورة، الأمر الذي اضطره للبحث عن عمل في مجلة أخرى. وتعرف في شباط 1833 على البروفيسور المعروف ناديجدين وعمل معه في مجلة “تيلسكوب” وفرضت الجملة شروط عمل قاسية عليه وكان مضطرا إلى الموافقة عليها تحت وطأة الحاجة المادية الماسة. وظهرت أولى مقالاته المهمة “الأحلام الأدبية” في ملحق الأدبي “مولفا” لمجلة تيلسكوب، وقد نشرت تباعا في تسعة أعداد، وكان في الثالثة والعشرين من عمره. وحظيت هذه المقالة بالضجة في أوساط موسكو وبطرسبورغ الأدبية. وتشكل هذه المقالة نقلة نوعية في تطوره الفكري وتأصيلا لمنهجه الأدبي. لم يستمر الأمر كما أراد فقد أغلقت الرقابة مجلة تيلسكوب بسبب مقالات بيلينسكي ومحتوى المجلة. “كان بيلينسكي يرمي إلى خدمة الإنسان وهي الغاية الفضلى التي أراد بلوغها من وراء مناقشاته وكتاباته، فسعادة الفرد يجب أن تكون موضوع اهتمام أي نظرية أو نظام اجتماعي ولا خير فيهما مهما بلغا من السمو والمناداة بالمُثل إذا لم يحققا ذلك”. وبسبب غلق مجلة تيلسكوب ضاقت الدنيا به وضاق بها وأصابه اليأس والكآبة وأصاب الوهن صحته والتي انتقلت من سيئ إلى أسوأ نتيجة سوء التغذية، وهو الذي عاني من أمراض صحية أثناء دراسته في الجامعة والتي بقي وقتها لأشهر في المستشفى وكانت بوادر إصابة بمرض السل الذي قتله فيما بعد. وكان يسكن في غرفة باردة ورطبة ومعتمة ولم يكن في مقدوره تدفئتها لفقره. قدم المحررون من المجلات الحكومية فرص عملا مغرية له وهو في هذه الحالة وطلبوا التعاون معهم، لكنه رفض رفضا قاطعا وضع يده بيد أعدائه الفكريين والتخلي عن معتقداته وآرائه رغم حراجة وضعه وصعوبته. ترك موسكو بعدها وانتقل إلى بطرسبورغ، وبحياتها الغنية والواسعة فتحت أمامها أبوابها على مصراعيها، وتعرف على الوجوه الأدبية والنقدية المشهورة في بطرسبورغ، وبعد تعرفه على العديد من الشخصيات الأدبية واجه بيلينسكي صعوبة هي كيفية تحويل النظرية التي يؤمن بها إلى أداة كفاح وعملية تفضي به إلى السبيل الموصل لحرية الإنسان وبناء شخصيته المستقلة المتكاملة. وبدا التناقض في النظرية الهيغلية تتجلى أمامه. وكان لا بد من البحث والاستقصاء عن بديل لها. وتطلع إلى الثورة الفرنسية 1789 فعكف على دراسة روادها وممثليها والتيارات المختلفة التي تمخضت عنها. وأعجب بالجناح اليساري الداعي إلى الحلول البتارة في معالجة القضايا الاجتماعية. تعرض بيلينسكي إلى حملة تشهير واسعة بسبب الاتجاه الواقعي الحازم المعادي للمفاهيم الرسمية التي اختطته مجلته فأثار حفيظة المحافظين وتعدى الأمر إلى المسؤولين الرسميين فاعتبر وزير التنوير الشعبي المجلة التي يعمل بها تنحو “منحى خطيرا إلى الاشتراكية”. استمر في حياته بالكتابة والدفاع عن آرائه وبسط في مقالاته الأخيرة استعراضه للأدب الروسي لعامي 1846-1847. تدهورت حالته الصحية وقضى أيامه الأخيرة مصابا بالحمى متهدم القوى لكنه لم يفقد وعيه وكان يتفوه أمام أصدقائه نيكراسوف وبانايف وغرانوفسكي الذين زاروه قبيل وفاته بكلمات تنم عن دنو موته مثل “وداعا يا أخي غرانوفسكي، إنني أموت” وتوفي في السابع من حزيران عام 1848 وهو ما زال في ريعان الشباب بعمر السابعة والثلاثين.
***
مقالة الأحلام الأدبية
مقالة “الأحلام الأدبية” من أولى مقالاته المهمة التي خطت ملامح جديدة للنقد الأدبي “وتعتبر في حدود معينة مقالة منهجية” كما قال عنها البروفيسور لافرتسكي. لم يشهد النقد الروسي قبل بيلينسكي ناقدا يمتلك مثل هذا الوزن الكبير والفكر المتأمل بحيث استطاع أن يلملم أطراف الأدب الروسي وأجزاءه ويؤلف بينها في كلية متماسكة متينة. إنه من أولئك النقاد الذين يحيلون الفوضى إلى نظام أو كما يقول ت.س. إليوت: “المرتقب من غالبية النقاد أن يرجعوا ترجيعا ببغاويا آراء السلف من كبار النقاد، أما المستقلون استقلالا فكريا، فيمرون بعد التهديم، وإنشاء البدع المتتالية والغلو في إطلاق الأحكام الساخرة، ويستمر حتى يظهر من جديد ناقد ثقة يلم تلك الحالة من شتاتها ويدخل عليها بعض النظام”. ولقد كان بيلينسكي ناقدا ثقة أثارت ملكته الكبيرة إعجاب حتى أولئك الناس المخالفين له في الرأي والتفكير.
ومن آراء بيلينسكي التي أوردها في المقالة:
يتطلب من الرواية أو الدراما أن تعكس عادات الجمهور العامة ومفاهيمه ومشاعره. أما إذا اقتصرت على تصوير مجتمع الطبقة العليا فإنها تظل وحيدة الجانب وقد ظهرت براعم الروح الشعبية عند بوشكين: “إن بداية الاتجاه الشعبي في الأدب تم في الفترة البوشكينية ولو أنه لم يتجلَّ بشكل حاد”. وقد حلل الأدب الروسي في القرن الثامن عشر حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر انطلاقا من مبدأ الشعبية. واستند في ذلك على فكرة ظهور الأصالة الأدبية المنبثقة من أساس شعبي، فأدى به طرح السؤال من هذه الزاوية إلى نفي وجود أدب قومي أصيل قبل بوشكين، لبعده أغلبية الشعب واقتصاره على عليّة القوم. أحدثت “الأحلام الأدبية” دويا كبيرا في الأوساط الثقافية باعتبارها حدثا جديدا في النقد الأدبي. كما لقيت الإعجاب والإكبار عند طائفة من القراء والنقاد فإنها قوبلت بالصدود والهجوم لدى نفر آخر ولكنها في كلتا الحالتين عززت مكانة بيلينسكي الأدبية وأصبح يحتل منزلة منفردة في الحياة الأدبية.
***
ما ميّز بيلينسكي أنه كان في تطور وتغير مستمرين في مسيرته النقدية، فمفاهيمه لا تتسم بالثبات والجمود بل مرت بحقب شهدت تغيّرات ملحوظة في دراسته للأدب وتحليله له. وينطبق عليه قول جورج واتسون في هذا الشأن “إن استراتيجية الناقد في ميدانه كاستراتيجية أي قائد محنك، هي التغيير والتبديل وفق حاجة اللحظة”. وأصبح بيلينسكي منظّر الأدب الروسي وموجهه بفضل فكره الديناميكي المتأمل لخطواته الماضية باستمرار والمراجع لها. وباستطاعتنا تمييز ملامح مرحلتين متصلتين متلاحقتين تكمل إحداهما الأخرى: ففي حقبة الثلاثينات كان متأثرا بالفكر المثالي والفلسفة الهيغلية وفي الأربعينيات بدأ رفضه لفكرة الواقع المعقول الهيغلية وحلول الواقع اللا معقول محلها مع الاحتفاظ بفهمه الجدلي الديالكتيكي في معالجة القضايا الأدبية والإبانة عن ارتباط مظاهرها المتباينة والوحدة القائمة بينهما. ثم المرحلة “الرومانتيكية وهي -كما يعرفها بيلينسكي- عالم الإنسان الداخلي، عالم الروح والقلب، عالم الأحاسيس والإيمان، عالم متدفق نحو اللا متناهي، عالم الرؤى والتأملات الخفية وعالم المثل السماوية. لا تمتد أرض الرومانتيكية تحت أقدام التاريخ والحياة الواقعية والطبيعة والعالم الخارجي إنما تتوارى في ذلك التيه الدفين للصدر الإنساني الذي تنضج خفية جميع الأحاسيس والمشاعر وتتعالى دون خفوت تلك الأسئلة عن العالم والأبدية، الموت والخلود ومصير الفرد وأسرار الحب والحبور والمعاناة…”. أما القصة والرواية الروسيتان فلم تكونا واضحتا المعالم والتخوم حتى ظهرت أولى قصص غوغول التي لمس فيها بيلينسكي بدايات خصبة بعطاء وافر. وقد حدد في مقالته “القصة الروسية وقصص غ. غوغول” التي نشرها عام 1835 أهمية الرواية والقصة كجنسين أدبيين يتجاوبان مع “المتطلبات العامة لروح العصر” لأنهما أكثر تواضعا من الأجناس الأخرى ولا سيما الدراما التي كانت تتفرد بمنزلة رفيعة متميزة. ويقول عن قصص غوغول: “إن السمة المميزة لقصص غوغول هي: بساطة الخيال، والشعبية، الحقيقية الحياتية التامة، الأصالة والروح الفكاهية المغلفة بشعور عميق من الحزن والشجن…”. ويقول عن الرواية: “الرواية ملحمة عصرنا. وهي وريثة للأدب الملحمي ولمساته الأساسية، والفرق الوحيد أن عناصر وألوان أخرى تهيمن عليها. هنا لا وجود للمعايير الأسطورية التي تنطوي عليها الحياة البطولية ولأشكال الأبطال الضخمة، هنا لا عمل للآلهة، بل تصور الأشياء تصويرا مثاليا وتتجمع مظاهر الحياة النثرية المألوفة ضمن نمط عام”.