ماذا لو كان كتاب ألف ليلة وليلة أوروبيّا، هل كان سيحظى بكل هذا الاهتمام والدراسة والتأثير؟ ماذا لو كان اسم شهرزاد إليزابيث وشهريار إدوارد، هل سيشتهرا ويذيع صيتهما ويطبّق آفاق الغرب؟ ماذا لو أن الأوروبيين لم يهتموا بالشرق أو لم تكن لهم رؤى استعمارية وتوسعيّة في هذا العالم والشرق خصوصا؟ لماذا كتاب ألف ليلة وليلة هو ما شغل الأوروبيون وليس أي كتاب عربي (أو شرقيّ) آخر؟ ليس لنا أن نقول إلا إنَّ اكتشاف هذا الكتاب في أوروبا جاء في زمنٍ تلاقى فيه طموح وأطماع، وفي سياق استكشافيّ لهذا العالم لا سيما الشرق. فالشرق في القرنين السابع عشر والثامن والعشر جزء من الإمبراطورية العثمانيّة ذات الصراع الطويل مع أوروبا، والشرق هو نفسه الذي غزاه الأوروبيون الأوائل في حملاتٍ دامت ثلاثة قرون، والشرق هو نفسه الذي بذر بذرة الأندلس التي حاربها الأوروبيون حتى طردوا المسلمين بعد ثمانية قرون من الاستقرار في شبه الجزيرة الإيبيريّة. الشرق هو فردوس أوروبا المفقود، وهم في شوقٍ دائمٍ للعودة إليه، ليست عودة ابن لكنف عائلة بل عودة الأب المسيطر أو حتى نزول الإله من ملكوته. فكيف إذا ما جاء كتاب يقدّم لهم دليلا عن هذا الشرق الموعود والفردوس المفقود، بحكايات تعزّز الحقيقة والخيال والممكن والمحال عن النساء والثراء، عن السحر والشياطين، عن الجنيّات والعفاريت، عن المغامرات والمجهول، عن عجائب المخلوقات وغرائب الوقائع، عن كلِّ ما يعرفونه ويرغبون في معرفته وما لا يعرفون، عن عالمٍ يريدون السيطرة عليه. كان ألف ليلة وليلة مدخلهم على المستقبل، فالتفّت حوله الأبصار، وانشغلت به العقول، وتبادرته الأقلام، وتناولته الأيادي، حتى شغل مقاما رفيعا ونال الحظوة سريعا. دخلت حكايات شهرزاد الوجدان الغربي، وصار خيطها جزءا في النسيج الثقافي الأوروبي، ودفع الإبداع الأوروبي إلى الأمام وأشرع في وجهه أبواب الجدّة والحداثة على مصراعيها، حتى رآه الكثيرون أنه جزء من التراث الأوروبي. رسّخت الحكايات صورةَ الشرق المتخيّل فتلاقت أبعادها وسماتها في نفوسهم فأولعت الأوروبيين به أكثر، وألهبت نار صدورهم إليه، ومدّتهم بحبالٍ تجرّهم إليه جرًا بحثًا عن سحر الشرق المنثور من فم شهرزاد. ومن جهة أخرى أوقد نار الإبداع في عقول الأدباء واستحثّ القرّاء معا، تقول وورنر “تمثل ألف ليلة وليلة أو الليالي العربية رحلة أو هجرة في العالم الخيالي من الشرق إلى الغرب عبر الترجمات العديدة التي تناولت تلك الحكايات، فهي مفتاح فريد من نوعه، يفتح رموز السحر والغرابة والقوة الغامضة في الثقافة الحديثة”. وتقول “استحوذت الليالي على اهتمام القراء في القرن الثامن عشر حال ظهورها، لأن موتيفاتها انطبقت على تجربة الحداثة التي كانت في طور التشكل آنذاك”. وجد الغرب في حكايات ألف ليلة وليلة مرآة ذات وجهين ينظر في الأول إلى نفسه، وفي الثاني إلى الآخر، وكما تقول وورنر “استعار الغرب استعار الغرب لباس الشرق لينظر إلى نفسه بوضوح أكثر، وهذا ما فعله فولتير في أعماله”. فمنح النظر/ الاستعارة مساحةً للرؤية والتفحّص والتقييم لكلّ ما في العالم المكتشف، وإنْ كان قديما، لكنه ما عاد ينظر إليه بالطريقة نفسها، وألزمت هذه الطريقة منظارًا جديدا وجدوه في ألف ليلة وليلة. لكن الغرب بقي في ذات الوقت مُتجاذبا بين قوّتين، قوة الثبات والتخوّف من التقدّم وقوة الانجذاب والمغامرة. تقول وورنر “ظلت الديناميكية المزدوجة موجودة في ذهن القارئ الأوروبي، تظهر أحيانا في استجابته للحكايات بين انجذاب شديد نحوها ونفور منها، فقد استمتع القارئ بالكثير من التقاليد الشرقية، بعيدا عن أجواء القيم الكلاسيكية الصارمة، وخلق الأوروبيون شرقا متخيلا، بناء على ما قرأوه في الليالي ثم راح هذا الشرق يتفاعل مع السمات الحديثة للثقافة والمجتمع، حتى وإن كان هذا المتخيل منتقصا ومرفوضا ومزورا بل مخترعا”. وصارت الحكاية الخرافية الشرقية، كما تشير “جنسا أدبيا مفضلا لدى الكتاب للتعبير عن أفكارهم غير التقليدية وانحيازاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد فاقت في ذلك أجناسا أخرى مثل النثر أو المقالة”. إنَّ دخول حكايات ألف ليلة وليلة نقل المخيال الأوروبي نقلة أبعد مما كان مأمولا من حكاية خرافية. تختار وورنر قصصا بعينها ذات خصائص بارزة مؤثرة في الأدب الغربي لتشرع في تتبع تاريخها في أوروبا وتطورها، وتأثيرها الجلي في لفيف وأجيال من الأدباء، ودخولها عالم صناعة الأفلام والرسوم المتحركة ومسرح الدمى. فكان السحر والجن والنبي سليمان (عليه السلام) والبساط والطيران والشعوذة والدراويش والأحلام والجمادات وإحياءها والأريكة- منطلقات كتابها. وتجعل وورنر هذه العناصر وحكاياتها مدخلًا لبحث تاريخها وتأثيرها في الأدب والخيال الأوروبي، وما كان لهم أن يعرفوها لولا الحكايات الشرقيّة، لكنها معرفة جعلت العناصر الشرقية تتغلغل تدريجيا، وتتطور باستمرار حتى بلغت مبلغا ما عاد يمكن التمييز ما بين الأصول الشرقيّة والغربيّة بسهولة، لأن التبنّي الغربيّ استزراعٌ للخرافة الشرقيّة في التربة المحليّة أثمر ثمارا مختلفا ألوانها. تنحو وورنر في كتابها منحا بعيدا عن حكايات ألف ليلة وليلة لتنخرط في نقد الاستشراق وما تأتّى منه، وتصبح الحكايات أداةً من أدوات التحليل لفَهم العقليّة الاستقرائية الغربيّة أكثر منها موضوعا للبحث. وفي فصول، كما في فصل غوته، تدرس علاقة الأدباء بالشرق، وهي علاقة معقدة ومتشعّبة وغير مرهونة بالحكايات فقط، لذا بدا الربط مبتسرًا من سياق أشمل وغير منسجمٍ مع ما أريد له الكتاب. عملت وورنر على تغطية مساحة كبيرة في كتابها شملت الفكر والأدب والزينة والأثاث والسينما وعلم النفس، وهي مواضيع لحكايات ألف ليلة وليلة تأثير مباشرٍ أو غير مباشرٍ فيها، ووضعت الحكايات في مقامٍ رفيعٍ تشخصُ إليه الأبصار، لكنه شخوص في الأغوار لا اكتفاء بتأمل السطح.