تستحق هذه الرواية أن تنال موقعا مرموقا ومكانة مميزة في الأدب الروائي، فهي من طراز ثلاثية نجيب محفوظ، ومئة عام من العزلة لماركيز، إذ يمتد العمل عقودا من الزمن، مارا بحياة عشرات الشخصيات وإن تركزت الرواية بنحوٍ كبير على حياة توفيق سردا ورويا، إلا أن هذا الأمر لا يُخرجها من شمولية العمل الروائي والإبداع الأدبي، حين يسلط الضوء على حياة الأفراد ويضبط إيقاع الزمن على مسرّاتهم وأوجاعهم. والمسرات في هذه الرواية رغم قصر زمنها في حياة الأفراد فهي ذات أثر كبير، فتدفع الشخصيات ضريبتها أوجاعا تمتد وتستحوذ على الزمن الباقي الذي تخللته فترات المسرّة. تبدأ الرواية بسرد عن دربونة الشوادي -كلمة في اللهجة العراقية جمع لقرد- عن قصة هذه العائلة بجدها المؤسس عبد المولى في خانقين -مدينة في محافظة ديالى شرق العراق- الذي يُرزق بعدة أبناء، يمتازون كأبيهم بخِلقة قبيحة، وهم متشابهون، هذه الخلقة التي أضحت سمة لهذه العائلة وأفرادها، ذكورا وإناثا، فيأخذنا الرواي العليم بسرد في مئة صفحة يسرد علينا قصصا وأحداثا من هذه العائلة التي تبتدئ من عبد المولى الوحيد إلى أبناء وأحفاد بالعشرات، إذ تكبر العائلة وتتوزع وتنتشر في مناطق عديدة داخل خانقين وخارجها، وبعد عرض بانورامي شمولي، يتجه السرد وكاميرا العرض إلى حياة الشخصيات التي ستمثل محور العمل الرئيس، عائلة سور الدين وزوجته وابنيه، عبد الباري وتوفيق، وعائلة سلمان آل القصابي وزوجته وابنتيه، ثريا وكميلة، وما جمع هاتين العائلتين من أواصر الزواج والتداخل، الذي تمثل بزواج عبد الباري وثريا وفي وقت لاحق توفيق وكميلة. لتنتقل الرواية بعدها إلى تنوع في المواضيع والأحداث وتطورها وتغيرها وتداخلها، في مسارات حياتية درامية وتراجيدية، لتعطي الحياة صورة مجردة من الرتوش أو التزييف، فالعلاقات الإنسانية تملأها الأنانية، والمال له هيبته، وسطوته، وأواصر القرابة تنخرها الصراعات والخيانات، لكن رغم كل هذه المساوئ فثمة بصيص ضوء وأمل يُشرقان ويسطعان بين مدة وأخرى، صراع المسرّة والوجع، الخير والشر الذي يقبع في الذات البشرية. هذه الرواية صورة من صور المجتمع العراقي لزمن يمتد أكثر من ثمانية عقود ابتداءً من القرن العشرين حتى السنة الأولى من الحرب العراقية الإيرانية. إن عملية تتبع ثمانية عقود من الحياة الاجتماعية وتطورها وانقلاباتها لهو عملٌ مُضنٍ لا يستطيع أي يُسيطر عليه أي راوٍ، إلا أن التكرلي أبان عن مهارة أدبية وسردية كبيرة نتسعرض بعضها.
السرد في الرواية:
إن السرد في هذه الرواية قد تنوع إلى أسلوبين رئيسين، الأول هو أسلوب السرد غير المباشر، بواسطة راوٍ عليم، كلي المعرفة، وهو ما تمثل في فصلين من الكتاب، يسرد الراوي العليم الأحداث التي تمثلت بالاقتضاب والسرعة الزمنية مع الوقوف عند الأحداث المهمة لا سيما في الفصل الأول، وكذلك كان العرض فيها بانوراميا، يحاول فيه عرض الصورة كاملة بكل تفاصيلها وتفرعاتها ليحكم قبضته على الأحداث والشخصيات ويبقيها تحت سيطرته لكي لا تتسلل بعيدا عنه، وحين يجد الراوي العليم نفسه في موضع لا يجب أن يستمر فيه فهو يسلم الراية إلى شخصيته الرئيسة، توفيق، لتكمل بدل عنه. هذا الانتقال من أسلوب السرد غير المباشر، إلى أسلوب السرد المباشر، بضمير المتكلم، أنا، يدفعنا إلى سؤال يفرض نفسه فرضا، ألا وهو من اختار للشخصية أن تتحدث ولماذا؟ آلرواي هو من اختار توفيق ليتحدث، ولماذا توفيق دون غيره، أم أن هذا الانتقال في أسلوب السرد كان خيارا فنيا من التكرلي؟ الإجابة قد تكون خليطا ما بين الاثنين، الراوي العليم والروائي التكرلي. يقول الراوي في نهاية الفصل الأول: هذه الصفحات السابقة والتالية، هي من أجل محاولة اكتشاف أخطائنا الشخصية التي ارتكبناها فكبلتنا، وتلك الأخطاء التي لم نرتكبها فزادت من تكبيلنا. الخطاب واضح من راوٍ عليم إلى متلقٍ يدرك وجوده ويشعر به، بل هو واثق من إنصاته إليه، لا الراوي عليم وحده بل حتى توفيق الذي يتوجه في الفصل الأخير بخطاب مباشر إلى متلقٍ ما، القارئ. إذًا، فهذا الانتقال هو ضرورة فنية وبذات الوقت رؤية الراوي بعدم قدرته على الاستمرار فشعر بالتعب وأوكل مهمة السرد إلى شخصيته، لتشاركه العمل بل تأخذ قسما أكبر من قسمه، هذا التنازل من الراوي إلى الشخصية، له فائدة أخرى هو تحجيم مساحة السرد، فالشخصية الرئيسة، توفيق، علمه محدود عكس الراوي العليم، إضافة إلى إدراك الراوي بأن توفيق سيسرد للقارئ بنحوٍ أقرب للنفس تصديقا وأكثر حميمية، وينتقل الراوي إلى منطقة الظل، منطقة المراقبة فقط دون القدرة على التدخل في السرد، فقد تنازل عن الجزء الأكبر من قصته لشخصيته لتنوب عنه. تظهر براعة التكرلي السردية في تنويع السرد المباشر الذي تكفل به توفيق، فيدون توفيق في يومياته أحداث أيامه ومشاعره وأفكاره وعلاقته مع زوجته كميلة، هذه اليوميات التي امتدت قرابة ثلاث سنوات، تجعل القارئ يقف بقربٍ ومباشرة من ذات توفيق وشخصيته وما يخالجه من مشاعر وأفكار ورغبات، كان هو أفضل من سيجيد هذا الدور ويتحدث عن نفسه. في حين يتحدث بأسلوب مباشر عن الزمن الماضي القريب موجها خطابه مباشرة إلى متلقٍ ما في الفصل الأخير من الكتاب. هذا التنويع والتوزيع في أساليب السرد وتنوع الرواة ما بين عليم وراوٍ بضمير المتكلم، أضفى جمالية في تشكيل العمل وبُنيته، وحيوية يستمتع القارئ فيها، وهو يلمس التناغم والتوازن في السرد. وما يلاحظ أيضا في هذا العمل، أن الزمن ومساحة الحدث تناسبا طرديا، فحين يمضي الزمن الروائي بسرعة فإن مساحة الأحداث تكون كبيرة، وكلما بطأت سرعة الزمن الروائي قلت مساحة الأحداث إلى تصل أحيانا إلى حدث الشخصية الواحدة. هذا التناسق ما بين الزمن الروائي وسرعته ومساحة الأحداث وعدد الشخصيات، جعل العمل متوازنا في العرض تتناسب في فصوله مع إمكانيات كل راوٍ، سواء أكان راويا عليما أو راويا بضمير المتكلم. هذه العناصر الفنية الروائية والسردية، تُحيل إلى موضوع آخر توزع في الرواية تمثل في النقد الروائي.
النقد الروائي في الرواية:
توفيق الذي بدأ في مرحلة من حياته بالقراءة بعد أن أهدى له رفيقه عبد القادر كتبا، عمل على أن تكون القراءة رفيقة له في جميع مراحل حياته المتقلبة، ولم يتوقف الأمر عند القراءة فقط، وكان له آراؤه يبثها في متن حديثه، فتختلف الآراء في الأعمال ما بين مدح أو ذم، فتوفيق يناقش الأعمال التي قرأها، ويذكر أراءه النقدية، سواء في بُنية العمل أو تركيب الشخصيات وبنائها، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه من وعي فكري أو قدرة على مجاراة الحياة بهذه المستوى، فينقد على بعض الروائيين عدم ذكرهم كيف وصلوا إلى هذه المرحلة فطريق الوصول كما يراه أهم من الوصول، وعدم ذكر هذا الطريق والتقلبات والتنقلات التي مرّت بها هذه الشخصيات في حياتها يبدو فجوة تفصل ما بين مرحلة الوعي النهائي ومرحلة طريق الوصول، هذه القفزة من المنطقة ألف إلى المنطقة باء، دون المرور بالطريق الذي يجب أن تمر به الشخصية يراه توفيق مخلا بالعمل. هذا الأمر كما ندرك جيدا قد لا يعني توفيق فقط بل قد يعني أيضا آراء التكرلي كذلك. لذا فيجب أن ننتقل الآن إلى الشخصية الرئيسة توفيق.
توفيق وحياة التراجيدية:
لا أدري لمَ خطر لي وأنا أقرأ أن حياة توفيق التراجيدية أن تشبه حياة أندريه أحد أبطال رواية الحرب والسلم لتولستوي، بتغييرات الحياة العاصفة التي كان لها الأثر الكبير في خلق شخصيتيهما كُلٍّ على حدة، ليتمتعا بسماتها الخاصة واللتين لا تلتقيان إلا في درجة المأساة. قد يكون حب توفيق (ومن فوقه التكرلي) لرواية الحرب والسلم، هي السبب في إعادة خلق شخصية شبيهة بأندريه في قالب عراقي في زمن مختلف بتطلعات ورؤى وأفكار ومشاعر ورغبات، تحددها طبيعة الحياة والزمن والمجتمع والعائلة والحالة المادية. توفيق ذو الشكل الجميل، الذي لم يشبه عمومته أو أبناءهم أو حتى أخاه أو أباه، كان له الأثر الأول في أن يكون محط أنظار الإناث، وفي تشكيل رغبة جنسية محمومة وأحيانا مسعورة -أظهرت مبالغة إيروتيكية في بعض أحداث الرواية- لم يملك توفيق معها إلا أن يراوغ ويحاول بكل الطرق أن يجذب الأنثى له لكي يمارس معها متعة الحياة العظمى. فبعد علاقة غرامية مع آديل التي تعرف عليها في زمن خلا من شبابه، وعرفها بعد أن أصبحت زوجة صديقه، إلا أنه لا يقيم اعتبارا لأي قيم أخلاقية أو روابط الصداقة، فما دام يحبها ويشتهيها فلا بد من الوصول إليها. حتى بعد زواجه كميلة بقي شهوانيا لم يمنعه رابط أخلاقي وقرابة أسرية من اشتهاء أنوار، زوجة قريبه، ومروادتها عن نفسها، ويصل الأمر إلى مرحلة من الخلاعة اللا محدودة مع فتحية وغسان، الشاب الذي عرفه منذ الصغر، فرغم مواقعته لفتحية ومراودتها عدة مرات، إلا أنه بعد أن أحبها غسان وواقعها لم يمنعه رابط الصداقة الأبوية مع غسان أن يستغل لحظة خوف فتحية ويمارس معها، هذه العبثية والخلاعة التي كانت لدى توفيق، تجعل منه أحيانا شخصا حقيرا بغض النظر عن التقلبات والمآسي في حياته، التي بدأت بسفر آديل بعد اعتقال زوجها بتهمة التخابر، وعلاقته الزوجية السيئة مع كميلة، المرأة المهوسة برغبة الحمل وإنجاب طفل، التي ازدادت سوءا في علاقته معها بعد معرفة أن حيواناته المنوية ضعيفة وغير قادرة على الإخصاب وأن عليهما الصبر وتكرار المحاولة حتى تنجح، لتصل مأساته إلى ذروتها بعد فصله من الوظيفة وتخلي العائلة والأصدقاء عنه، أحداث درامية لا تقل سوءا عن خلاعة توفيق ورغبته المسعورة، لترى أن الحياة تُكافئه بنحوٍ متساوٍ مع خضوعه لشهواته. لينتقل بعدها للسكن في غرفة مع عائلة فتحية، ويستمر في حياة الفقر وشظف العيش، يكافح لأجل اللقمة، لكنه رغم هذا يبقى عبدا خاضعا لشهواته. نرى بوضوح تغيّر وتطوّر شخصية توفيق، هذا التطور الذي يرسم مسلكه التكرلي بوضوح يبدو كأنه رسالة يوجهها إلى أولئك الذين انتقدهم والقرّاء في أهمية ذكر الطريق الذي تسلكه الشخصية من أجل الوصول إلى مرحلة الوعي النهائية.
في الختام هذه الرواية عمل إبداعي مميز، الأمر الوحيد الذي قد يُؤاخذ عليها هو الإفراط في الإيروتيكية، والتركيز على شهوانية توفيق بتكرار يتأتى عنه الملل، فكان بالإمكان التقليل من هذه الإيروتيكية وتجنب كثيرا من التوصيفات والعرض المُعاد الذي لا جِدّة فيه، دون الحشو في وصف الجسد وتفاصيل القبلة وإعادة ذكر ما ينتاب توفيق من سعار جنسي.