ابتدأت الملحمة بذكر كريمهيلد والتغني بصفاتها المجيدة وانتهت الملحمة بموت كريمهيلد، وبالرغم عالم الفرسان الذي دارت الملحمة حوله وفيه فلم يستطعْ شاعرها بأي حالٍ من الأحوال تغييبَ كريمهيلد كما غيَّب بقية الشخصيات الأنثوية على مدار فصولها. تشغل كريمهيلد حيزًا كبيرًا في الملحمة سواء بحضورها أو بأفعالها، فهي النسخة الأنثوية من سيغفريد، تُحرِّكُ سيغفريد وتتحرك بسيغفريد، ولا يمكن فصلهما عن بعضٍ فعند ذكر سيغفريد لا بد من التعريج عليها وكذا الحال معها. وارتبطَ موضوع الثأر والانتقام بها، ورفعت شأن هذا الثأر إذ كان من أهلها، إخوتها الثلاثة وهاجن وأتباعهم، ليفوق حبُّ سيغفريد في نفسها أيَّ صلة قرابة أو دم تجمعها بأهلها الذين تبرأت منهم بحقيقة أفعالها وما قامت به من سعي حثيث للتخلص منهم. كما لا يمكن لفصول الملحمة أن تتقدم وتتصاعد بأحداثها بدون كريمهيلد، لتتسيَّد على دورِ المرأة في الملحمة وتكون النظير الوحيد الذي وقفَ شامخًا حتى النهاية في مواجهة الرجل والفارس. تُقدِّم كريمهيلد نموذجًا للمرأة والزوجة المتفانية بحب زوجها والحبيبة المخلصة الشريفة المشاعر والأميرة الحافظة لأعراف قدرها الملوكي والملكة الداعمة لقرينها الملك والمدافعة عن رفعته وكرامته في غيابه والقائدة المُنتقمة التي وإن شاب تصرفاتها التهور ورغبة تحقيق المراد بغض النظر عن أي شيء آخر فتبقي قادرة على تحفيز أتباعها ومرؤوسيها على تنفيذ ما تُريده. لم تتركز الملحمة على شخص كريمهيلد لكنها خصصت لها مساحة تتحرك فيها بحرية في مراحل مختلفة من زمن الملحمة، المساحة التي أكسبت حضورها سمة الثبات والشخوص بين كل أبطال الملحمة. فهي مع عدم كثرة حديثها أو تعلق مجريات الأحداث بها مباشرة ترتبط ارتباطًا وثيقة مع كل الأحداث المهمة من البداية حتى النهاية. بيد أنَّ الشاعر لم يجعل ملحمته خاصة بكريمهيلد ولا أسبغَ عليها الإطراء العظيم والتبجيل الذي خلعه على الملوك والفرسان في ملحمته، فكريمهيلد نوعٍ من خلفية ضامة للأحداث أكثر من كونها لاعبًا مباشرًا فيها، كما في زواجها سيغفريد وعلاقتها المتوترة مع برونهيلد التي وصلت إلى حد الشجار وتبادل الإساءات والإهانات ومساعدتها اللا مقصودة في اغتيال سيغفريد ثم سلبها كنزها وأخيرًا في زواجها إتزل والمعركة الأخيرة ضد غونتر وهاجن والبروغانديين حتى قتلها هاجن وأخذها ثأرها من قاتل زوجها بيديها. كل هذه الأمثلة في مراحل الملحمة المختلفة كان لكريمهيلد دورٌ لا تُغيَّب عنه لكنها تُحرم من خاصيّة المؤثر المباشر في سريان الحدث ولا يعيبها هذا كونها امرأة وليست رجلًا لذلك فقد استخدمت كل صلاحيتها المتاحة كاملةً دون أن تبخيل أو تدَّخِر شيئًا منها سواءً ما عن طريقة الممكن وما تستطيع فعله دون الحاجة إلى آخر أو ما فعلته بالخداع واستغلال طاعة التابعين لها. لم تُقدَّم كريمهيلد على أنها شخصية مثالية، كحال بقية الشخصيات التي كانت لها مثالبها، لكن اقترنت مثالب كريمهيلد بكونها امرأة أكثر من كونها إنسانًا يُصيب ويُخطئ، فالرجل الفارس في ملحمة تُسبغ عليه أُبهة الفروسية والشجاعة والمُلك ليصبح خطأه جزءًا من التركيبة الذكورية التي لا تُعيبه مهما فعل، في الوقت الذي تُنزع من المرأة حتى اللحظات التي يُفترض أنها لحظاتُ انتصار خاصة بها ليشترك معها الرجل الذي يتفرَّد بما يناله وحده. تُخطئ كريمهيلد خطأين فادحين ينتجُ عنهما عواقب وخيمة تودي بحياة زوجها، الأول عندما عيَّرت برونهيلد، زوجة أخيها، بماضيها ووصفتها بأنها عشيقة التابع طاعنة بشرفها وأثبتت ما اتَّهمت إياها بأن أخرجت مِعضد برونهيلد الذي أخبرها سيغفريد بقصته عندما ساعدَ غونتر عليها في ليلة زواجهما، والآخر حين كشفت سرَّ سيغفريد عن نقطة ضعفه التي لم تصلها دماء التنين حين اغتسلَ به وقتله هاجن بفضل إفشاء هذا السر. تُتجاوز الحادثة الأولى ظاهريًا بتعليل إنَّ ما حدث هو “مشكلة نساء” استخفافًا وتقليلًا مما جرى ومن التصرفات الناتجة من اختلافهن، وفي الثانية تُستغل عاطفة المرأة وتقدَّم بكونها نقطة ضعف يُؤتى منها الرجال. لكن الأهم من هذا هو ما لم يُذكر صراحةً في الحادثتين، إذ ترتبط الحادثتان بسرٍ يُشاركه سيغفريد لزوجته دون سائر الناس، وكأن الشاعر يقول لا تضعْ سرك في فم زوجتك مهما كلَّف الأمر وبدا أمينًا مشاركته إياها، فسيغفريد في آخر المطاف يقع ضحية إفشائه سرِّين لم يكن من المفترض عليه أن يفشيهما لزوجته كريمهلد.
لم يتوقف تصوير المرأة انتقاصيًا في الملحمة عند هاتين الحادثتين لكن ثمَّة ثلاث حوادث أخرى انتُقِصَ فيها من المرأة لكونها امرأة فقط دون الرجل.
الحادثة الأولى حين يسافر غونتر رفقة سيغفريد وهاجن ودانكراوت لخِطبة برونهيلد لغونتر، لكن برونهيلد القوية لم تكن لتتزوج أيًّا كان حتى يهزمها في المسابقة التي وضعتها وشرطت لا أن تقتل منافسها المباشر وحده هذه المرة كما اعتادت بل أن تقتل الأربعة جميعًا، لذا فإن هزيمتها لغونتر تعني قتله وقتل رفاقه الثلاثة. ونقرأ قول دانكراوت حين رأى موقف غونتر الضعيف أمام برونهيلد القوية: “نادمٌ من صميم قلبي على زيارتنا هذا البلاط. فدائما ما حملنا لقبَ الأبطال، لكن يا لعار موتنا إن انتهى بنا المصير على يدي امرأة!” فالعار ليس في الموت بل في أن يكون على يد امرأة.
أما الحادثة الثانية فهي متعلقة برفض برونهيلد أن يقترب زوجها غونتر منها ليلة زواجهما وبعد أن يكاشفَ سيغفريدَ ما حصل معه؛ يعرض الأخير المساعدة عليه بفضل العباءة السحرية وأن يروضَ له زوجته بدلًا منه، ويطلب منه غونتر أن يفعل كل شيء أثناء ذلك سوى أن ينال منها وطرا، قائلًا له: “أوافق على ذلك عدا أن تغشَّى سيدتي العزيزة بأي طريقة. افعلْ ما يحلو لك- حتى لو قتلتها. فسأجد لك عذرًا من أعماق قلبي لأنها فتاة بغيضة!”. وخاطب سيغفريد نفسه عندما صارعَ برونهيلد فوق الفراش في الظلام ورأى منها بأسا وقوة: “يا حُسافتي لو خسرتُ حياتي أمام فتاة، فإما أن تعتَّدَ بعدها كُلُّ النساء بأنفسهن تجاه أزواجهنَّ، وإما ألا يتصرفنَ معهم بمثل هذا أبدا”. يبرز لنا أمران من هذه الحادثة هو الاستهانة بدم الآخر بما أنه امرأة حتى لو كانت زوجته وألا تُمسَّ كرامته فيها مُقدم عنده على حياتها، والأمر الآخر أنَّ رفضَ برونهيلد لاقتراب زوجها، غونتر، منها إهانةٌ لجميع نوع الرجال، وهذا يُحتِّم مبدأيًا مساندة الرجلِ للرجل على حساب المرأة لأن الأمر قد خرجَ سلفًا من علاقة خاصة بين زوجٍ وزوجة ودخلَ ضمن حلبة صراع الرجل والمرأة وترويض الأخيرة في الفراش هو غاية الرجل ورمزَ انتصاره عليها. تكرر هذا الأمر لكن على نحو أشدِّ قسوة وانتصارًا للرجل في الحادثة الأخيرة، وهنا على حساب كريمهيلد، أبرز امرأة في الملحمة التي قصَّتْ في نصفها الثاني مسعاها في الثأر. فبعد أن تأسر كريمهيلد هاجِن وغونتر بعد معركة القاعة وتأمر بقطع رأس غونتر وتقتل بيدها هاجِن، يرى هيلديبراند، تابعها، هذا فيستهجن ذلك ورفض قائلًا: “وأسفاه أن يُقتلَ أفضلُ الفرسان وأعظمُ من حملَ درعًا في معركة على يد امرأة! لقد كنتُ عدوَّه وسبَّب لي أكمدَ الأحزان، لكنِك لن تهنأي بتجرؤكِ على قتله مهما كلَّفني الأمر. ولن يردعني ما سببه لي من آلام ومخاطر عن الثأر لموت سيّد ترونيك الشجاع!” ثم ينطُّ على كريمهيلد ويقتلها. لا يهم هنا إن كان هاجِن قد أثخن قتلا في الهنغاريين، الذين انتمى إليهم هيلديبراند، بل إنَّ من يقتله لا بد أن يكون رجلًا فلم نرَ ردة فعلٍ كهذه عندما قُتل غونتر، وهو الملك وهاجِن تابعه الأمين، لأن من قتل غونتر رجلٌ آخر وليس امرأة.
لا يعني كل هذا بالضرورة أنَّ الشاعر قد تعمَّد الانتقاص من المرأة لكنه نظم قصيدته وأحداثها بما تركَّبت عليه أفكاره ونشأ عليه من قيم وعادات وتقاليد اجتماعية حددت مقام الرجل والمرأة والتمايز فيما بينهما وفضل الرجل عليها، وأنها في مقام أدنى منه. تُعطينا هذه الأقوال والأحداث فكرة عامة وأساسية عن النظرة إلى المرأة أو أسلوب التعامل معها وكيفية تفسير أفعالها من قبل الرجل المحيط بها، كما ويساعد ذلك على دراسة البُنية الاجتماعية لبُيئة الشاعر وحقبته الزمنية، وهذا من فوائد الأدب التي لا تقتصر قراءته ودراسته على بُنية العمل وأفكاره وشخصياته ضمن الإطار النصيّ بل الخروج إلى مكونات النص غير الموجودة أمامنا لكنها تُشكل الدوافع لكتابة النص واللُبنة التي تكوّن منها النص والجو الفكري العام الذي انبثق منه، وكذلك بما أن القصيدة تذكره بهذا الشكل المباشر فهو يكشف حتمًا طبيعة الأعراف لدى القارئ المعاصر لها فوجودها وتلقيها لا يسيء للقارئ المتفق مبدأيًا مع ما ورد. وفي أفضل الأحوال إن لم يكن الأمر حينها كما يكشفه تحليل النص فهو يشير إلى التطوّر في التعامل مع النص المسيء للآخر الذي قد لا يُتفقُ على هذه الاستنتاج والقراءة أو قد يُرجع هذا التحليل والاستنتاج إلى عوامل خارجية تُقحم على النص لكنها في الأخير أدوات تحليلية لا يمكننا التغاضي عنها واستقراء النص من كل جوانبه الممكنة وفقًا للآليات الفكرية لعصر تلقّيه، فما لم يجده السابقون يجده القارئ الحالي، وما لا يجده القارئ الحالي سيجده اللاحقون، وهكذا تبقى عملية قراءة النص وتحليله متقدِّمة بتقدم الزمن، وغير متوقفة عند أفكار الكاتب ومقاصده الآنية، فعملية القراءة تراكمية وتطوّريّة ولا يوجد نص يعود إلى الوراء، فبلحظة خروجه إلى الحياة يدخلُ سلسلةً غير منتيهة من حلقات القراءة المختلفة. يبقى الضابط في كل هذا الآليات والوسائل التي يُقرأ بها النص والنتائج التي يخلص القارئ إليها وكيفية الاستفادة من هذه النتائج في التعامل مع النص والتاريخ والمجتمع والآخر بعيدًا عن الأهواء والعبثية وحصر النص في رؤى سابقة يُلوى النص ومقاصده لأجل إثباتها أو تستخدم لخدمة توجهات فكرية خاصة.