ارتبط الحيوان بالإنسان ارتباطا وثيقا في حياته منذ فجر التاريخ، وشاعت الحكايات عن الحيوان وعالمه فتناثرت في أدبي وادي الرافدين والفراعنة، بيد أنهم لم يفردوا لها كتبا وحدها أو أنها لم تصل إلينا. ثم بدأت تظهر كتب أدب الحيوان تباعا بين الأمم، فكان للهند باعها بكتاب بنجاتنترا وغيره، واليونان بحكايات إيسوب التي دونت بعد موته بزمن، وكتب لوقيانوس السميساطي باليونانية قصة لوقيوس أو الحمار، وهي عن إنسان تحول إلى حمار، القصة التي كتبها لوقيوس أبوليوس باللاتينية في رواية الحمار الذهبي، وكلاهما اعتمد على أصل واحد كما هو مرجح. ظهر أدب الحيوان عند العرب في كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع عن الفهلوية إلى العربية، والكتاب ذو أصل سنسكريتي لكنه أخذ مع ابن المقفع مقاما أرقى وأبقى. ثم مع سهل بن هارون في كتاب النمر والثعلب، وهي قصة ملحمية رمزية عن عالم الحيوان. ما توقف العرب عند أدب الحيوان فكتب الجاحظ موسوعته كتاب الحيوان وفيها طائفة متنوعة من المعارف العلمية والأدبية عن الحيوان، وكذا فعل الدميري في كتاب حياة الحيوان الكبرى. وكتب فريد الدين العطار بالفارسية قصيدته الفلسفية الصوفيّة “منطق الطير” عن رحلة ملحمية لسرب من الطيور إلى حضرة ملك الطير السيمورغ في القرن الثاني عشر للميلاد. في أوروبا القرون الوسطى ظهرت شخصية الثعلب رينارد لتكون أهم منتج حكائي أوروبي تراثي من أدب الحيوان، وأعيد رواية حكاياته نثرا وشعرا مرات عدة. وكتب تشوسر برلمان الطيور عن اجتماع للطير لاختيار شريكها. ثم كتب لافونتين حكاياته عن الحيوان بالفرنسية في القرن السابع عشر. ثم انفرط العقد وصارت كتب أدب الحيوان أكثر من أن تحصى، وما أوردته آنفا كان عناوين كتب أفردت الحيوان بالبطولة، أما ما تناثر في بطون كتب الأدب فهي كثيرة جدا.
اتّخذت حكايات الحيوان مسارين ما بين الرمز والأمثولة، كما فرّق سعيد الغانمي في كتابه مفاتيح خزائن السرد العربي، فيبيّن أن الحكاية الأمثوليّة في عالمٍ حيوانيّ كامل تُشير إلى الإنسان ضمنا، وتتحدث عن الحيوان صراحة، أي إنَّ الحكاية تنفصل عن الإنسان إلى أبعد قدرٍ ممكن، فهي المخلوق المثاليّ للإنسان الذي يتعلم منه، وهذا ما نجده في كليلة ودمنة وحكايات إيسوب. في حين تجري الحكاية الرمزيّة في عالم حيوانيّ ذي سمات بشريّة، والحيوان نفسه كائن مؤنسن ورمزٌ للإنسان، وهنا لن يختلَّ منطق السرد في الحكاية الرمزية لو وضعنا الإنسان بدل الحيوان فكل ما في العالم هو إنسانيّ، وهذا ما نجده في كتاب النمر والثعلب لسهل بن هارون. يضيف الغانمي أنَّ الحكاية الأمثولية تحمل وجهين متناقضين الأول أنَّها تقدم لنا العالم الفردوسيّ الأول حيث كانت الحيوانات قادرة على النطق مثل الإنسان أو ما يسميه “غبطة البدايات”، والوجه الآخر هو عالم كابوسيّ يغيب فيه الإنسان، ويتسيَّده الحيوان محتلًا مكانة الإنسان ومستخدمًا لغته.
تظهر الحاجة إلى استخدام حكاية الحيوان رمزًا وأمثولةً في الكتابة ليجنِّب الكاتب نفسه مآلات التصادم مع المجتمع والسلطة، وليأخذ حيّزا من الحرية والأمان في الكتابة فيما يروم تقويمه وتوجيه الأنظار إليه. فنقرأ عند ابن المقفع قوله “وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض:
أحدها: ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة، ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم، لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان.
والثاني: إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان، ليكون أنسًا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور.
والثالث: أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام ولينتفع بذلك المصور والناسخ.
والرابع: وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة”.
ويقول سهل بن هارون عن في افتتاح كتاب النمر والثعلب “فإني رأيت أن أصنعَ لك كتابا في الأدب والبلاغة والترسُّل، والحروب والحيل والأمثال والعالم والجاهل، وأن أشرِّبَ ذلك بشيء من المواعظ وضروبَ من الحكم، وقد وضعت من ذلك كتابا مختصرًا موعيًا شافيًا، وجعلته أصلا للعالم الأديب والعاقل الأريب مما أمكنني حفظه، واطَّرد لي تأليفه…”.
وفي افتتاح قصة الثعلب رينارد نقرأ “دُوِّنت خرافاتٌ في هذا الكتاب ذات علم نافع وفي مواضيع شتّى، يسع المرء أن يتعلم من كلِّ موضوع ما يبلغه المعرفة الحقّة عن أمور تجري عليه كلَّ يوم، وينتفع منها في نصائح الملوك والرهبان، في الدين والدنيا، وكذا أمرها بين التجّار والعوام. وضع هذا الكتاب لنفع الناس جميعا وإشباع حاجتهم، وبقراءتهم حكاياته أو سماعها وفهمها سيميّزون المكر وما يكون من خداع في هذه الدنيا. وليست الغاية أنّ يتعلم الناس منها الكذب والشرور بل أن يحفظوا أنفسهم من السقوط في أتونها ولا أن يغترّوا بالأكاذيب فتزلّ أقدامهم في مهاوي الردى”.
قصة الثعلب رينارد
اشتهرت عند الأوروبيين حكايات الثعلب رينارد، وهي من حكايات الحيوان الرمزية في الأدب القروسطيّ الأوروبي، وانتشرت في ألمانيا وهولندا وفرنسا وإنجلترا، وتنوّعت ما بين أدب رمزيّ جاد وساخرٍ، وشعريّ ونثريّ. مرّت هذه الحكايات بمراحل تطورت فيها بمرور الزمن حتى وصلت إلى الصيغ الختامية من القصة، وأخبار رينارد ومكره ومغامراته. اختُلف في أصل نشأتها إذ حكايات الحيوان قديمة، وتأثرت الحكايات الأوروبية بالحكايات بما نسب إلى إيسوب اليوناني (ت: 564 ق.م) واستمدت بعضها من حكاياته. يرتبط أول تطوّر لحكايات الحيوان التي انبثقت منه قصة رينارد، كما يذهب فريق من الدارسين، بقصيدة لاتينية في القرن الثامن للميلاد تنسب إلى لومبارد باولوس دياكونوس الذي كان في بلاط شارلمان. يذهب فريق آخر إلى أنها انبثقت من كتابات بيزنطيّة أو رومانيّة على أيدي الرهبان التيوتونيّين الذين استخدموا هذه الحكايات في وعظ الناس وتقويمهم. وظهرت حكاية الأسد المريض1 في القرن العاشر، سنة 936م، في أقدم قصيدة يقال عنها “ملحمة الوحش”2 وهي “Ecbasis Cujusdam Captivi”، وينتمي مؤلفها إلى دير القديس إيفري في مدينة تول. صارت هذه القصيدة أهم المصادر التي تطورت منها أسطورة رينارد. جاء التطور الثاني لقصة الثعلب رينارد في القصيدة اللاتينية “Ysengrimus” وجاء فيها أول مرة لفظ الثعلب رينارد “Reinardus Vulpes”، وهي قصيدة كتبت في سنة 1148م على يد قس فلاماني هو Nivardus of Ghent. بقي اسم رينارد منذ حينها في الكتابات الأوروبيّة، بل واللغة أيضا، فاستبدلت في الفرنسية القديمة كلمة رينارد بكلمة Goupil الدالة على الثعلب. تعني كلمة رينارد بإملائها المختلف، ريناريت، راينارد، ريغنهارد، شرير صعب المراس لا يحيد عما يريد.
ظهرت قصة رينارد في الأدب الفرنسي لكن ضاعت هذه النسخة من القصة، وبقي منها جذاذات ظهرت في رومانس رينارد3 “Roman de Renard” مما يؤكد الرأي أنها كانت شائعة وذائعة الصيت. كتب ألساتيان هينريش في سنة 1180م أول قصة عن رينارد باللغة الألمانية، وعنونت القصيدة بـ”Reinhart Fuhs”. ونظمت قصيدة جديدة بالفرنسية عن الثعلب رينارد في بواكير القرن الثالث عشر على يد الراهب بييري دي سانت، واعتمد عليها كاتب هولندي يدعي وليم Willem die Madoc maecte في بواكير القرن الثالث عشر أيضا لكتابة واحدة من الصيغ الشهيرة لقصة رينارد، وهي قصيدة رينهارت، باللغة الهولندية الوسطى. ألحقت هذه القصيدة بتكملة أقل شهرة من شاعر في سنة 1380م، وظهر شرح لها في سنة 1480م، ونشرت ترجمة قصيدة رينهارت بالجرمانية السفلى في سنة 1498م. اتبعت القصيدة بقصة نثرية هي “تاريخ الثعلب رينارد Hystorie van Renaert Die Vos” على يد جيرارد ليو، نشرت في هولندا سنة 1479م. ترجمت قصيدة رينهارت إلى الإنجليزية على يد وليم كاكستون 1481 نثرًا بعنوان “قصة الثعلب رينارد”4، بعد أن سلخ شوط من حياته في مدينة بروج وأجاد الهولنديّة الوسطى، وهي النسخة التي نكتب عنها هذه المقالة.
ترد في قصة الثعلب رينارد حكايتان وردتا بصيغة مبسّطة في كتاب التأديب الكهنوتي لبطرس ألفونس، وهو كتاب جمعت حكاياته بالعربية وترجمت إلى اللاتينية على يدي الحبر الأندلسي المتنصر بطرس ألفونس في بواكير القرن الثاني عشر، والحكايتان هما الثعبان الجاحد، وحكاية الفلاح وثيرانه والذئب والثعلب. لا يقدم بطرس ألفونس في كتابه قصصا طويلة إنما حكايات قصيرة ذات عبرة، وادرُجت حكايتا بطرس في كتاب قصة الثعلب رينارد، لكنهما توسّعتا وفصّلتا حتى صارتا أكثر جودة وسبكا لا سيما حكاية الثعبان الجاحد إذ يكون فيها الثعلب رينارد مستشارا في بلاط الملك.
تتبيّن الغاية الوعظيّة من رواية حكايات رينارد وأخباره في افتتاح الكتاب كما يبيّن الكاتب، وتكشف عن ذلك كلمة الاختتام. فما يمارسه رينارد من حيل وخدع ومكر بخصومه يعلّم القارئ كيف يحذر ممن يظهر الخير والمعروف ويبطن الشر والمنكر. واتّسمت الحيوانات التي خدعها رينارد بالسذاجة والطيبة والمفرطة مما يجعل ألاعيب رينارد مكشوفة لمن له حسّ سليم، لكن ما يميّز رينارد ويجعل الانتفاع من عقله ممكنا هو محاججاته المنطقية وردوده التفنيديّة لتهم خصومه وشكاويهم، إذ كان على قدر كبير من الدهاء والمكر والحنكة والقدرة على التلاعب بالآخرين.
تنقسم قصة الثعلب رينارد إلى جزأين، يمكن تمييزهما لتشابههما وإن اختلفت النهاية في كل جزء. يبتدئ كلّ جزء بمحفل يقيمه ملك الغابة الأسد يدعو إليه الحيوانات، فتتقدم بعضها لتشكو إليه الثعلب رينارد وما فعله بها من سوء وأوقعها فيه من شر. يرسل الملكُ الدبَ والقطَ ليبلغوه أمر الملك بحضوره إلى بلاطه لمواجهة خصومه وما اتهموه به لكنه يخدعهم ويوقعهم في الأذى، قبل أن يحضر إلى البلاط ويتفلّت من التهم، ويخدع الأسد بأن عنده كنز احتفظ به في غابة أسماها له، وأنّ الكنز كان عند أبيه الذي تآمر مع الدب والذئب عليه. فأوغلَ صدرَ الأسد على الدب والذئب فحبسهما وعاقبهما، وخدعه بأنه سيحج إلى البابا في روما لذنب له يطلب منه العفو ثم سيحج من ثَمَّ إلى الأرض المقدسة (بيت المقدس). طلب رينارد من الملك أن يصنع كيسا لمتاعه من جلد الدب ونعالا من خفّ الذئب. وخرج من البلاط مبرّءًا من التهم التي اتُّهم بها، خادعا الملك بأنه ذاهب للحج، ومنتقما من خصميه شر انتقام. أرسل الملك معه الأرنب والكبش يوصلاه إلى بيته، وهناك أوقع بالأرنب فقتله وأكله ووضع رأسه في الكيس وبعث به معلقا إياه في رقبة الكبش إلى الملك. حين بلغ الكبش بلاط الملك وأعلمه بأن رينارد أرسل إليه ثلاث رسائل في الكيس ليكتشف الملك خديعته فأمر بقتل الكبش وعقاب الثعلب بلا محاكمة ولا سماع لأقواله.
يبدأ إثرها الجزء الثاني من القصة، وبدا منفصلا عن الأحداث السابقة ثم يعود ليلتحم بها، بمحفل آخر يقيمه الملك ويشتكيه الأرنب والغراب فيرسل الملك في طلبه مجددا. حضر رينارد بين يدي الملك مرة أخرى وفنّد التهم بل وخدع الأسد مرّة أخرى حين قصّ عليه خبر الهدايا الثلاث العجيبة التي أرسلها في الكيس مع الكبش. يتقدّم الذئب عند ذلك ويتشكي رينارد وما أوقعه فيه من أذية وشرور، ويطلب مقاتلته في الميدان. ينزل الملك على هذا الطلب ويحدد للخصمين يوما معلوما للقتال. جرى النزال بين الخصمين وانتهى بانتصار رينارد بفضل مكره وخديعته، ونصائح القردة له في أحابيل القتال، وسرعته ومهارته، وجراح الذئب التي لم يشف منها حين سلخ الملك خفّه لصنع نعل لرينارد. تنتهي بذلك قصة الثعلب رينارد بعد أن يهنئه الملك بانتصاره ويجعله من مستشاريه والحاكمين في الغابة5.
1- إحدى الحكايات الواردة في قصة الثعلب رينارد.
2- نوع من القصائد الملحمية أبطالها الحيوانات.
3- كانت قصص الرومانس الأوروبية في القرون الوسطى، المكتوبة نثرًا وشعرًا، ذائعة الصيتِ ومتداولة حيث الشهامة، والفضائل، والشجاعة، والحب الفاضل، وكلُّ صفات الفروسية الساميّة، في مسعى البسالة ومواجهة الأخطار والوحوش. ورومانس رينارد من الأدب الساخر من حياة الفرسان.
4- اعتمدتُ على مقدمة هنري مورلي لكتاب وليم كاكستون في ذكر تطور قصة رينارد في الأدب الأوروبي.
5- يسع القارئ بالعودة إلى كتاب النمر والثعلب الوقوف على التشابه في قصة الثعلب في الكتابين، وكيف كانت حياتهما في بلاط الملك وما انتهيا عليه من فضل ومكانة.