دونا أورشيل
ترجمة: مؤمن الوزان
أبدى روبرت فروست ملاحظة مرة حين قال “الشعرُ ما يضيع في الترجمة” وثمة العديد من الأنواع الأدبية تجد الترجمة فيها مهمة أقرب إلى المستحيل. أما في نظر الحائز على جائزة الشاعر الأمريكي، تشارلز سيميك، فإنَّ ترجمةَ الشعر من لغة إلى أخرى -في الغالب اللغات الأوروبية الشرقية- نشاطٌ مليئٌ بالشغف والتفاني. قدَّم سيميك في حضوره الأخير بكونه الحائز على جائزة الشاعر الأمريكي والمستشار الشعري- محاضرةً بعنوان “فن ترجمة الشعر العسير” في قاعة Montpelier في مكتبة الكونغرس في الثامن من شهر أيار/ مايو عام 2008. “أود الحديث عن الترجمة لأنها شيء مارسته في خمسين عامًا تقريبًا، ولديَّ بعض الأفكار عن الترجمة وصعوباتها. قال الناس إن الترجمة هي ’كدح الحب‘، وهي كذلك، فلا يجني أيُّ أحد الكثير من ترجمة أيّ شيء”. وضَّحَ سيميك- الذي كتب عشرين ديوانًا بالإنجليزية وترجم ثلاثة عشرَ آخر- مجادلة الرافضين لترجمة الشعر.
“قِيلت العديد من الأشياء ضد الترجمة: الترجمة مستحيلة. كيف يمكن للمرء ترجمة الشعر؟”. ثم قال بعدها، لمن الصحيح أنَّ العبقرية وشخصية الناس مُحتواةٌ في اللغة التي يتحدثونها، والتخيُّلَ متجذرٌ فيها، إضافة إلى جغرافية وثقافة بلد ما، وما من لغتين يشتركان بمحتوًى متطابق. “هل بإمكان المرء أن يترجم ثقافةً، ونظرتها للحياة، وعالمها الما ورائي؟ لا يقتصر الأمر على وجود لغة اصطلاحية وتخيُّل اصطلاحي فحسب بل والتراكم التأثيري للاستخدام الاصطلاحي. كيف يُمكن أن يُترجم؟ هل بإمكان الواحد أن يُوصل بلغة أخرى ما له قيمة فورية للقارئ المحلي؟” هذا الخط الفكري، كما يقول سيميك، هو الجدال المعتاد ضد الترجمة الشعرية. والجدال الدفاعي عن ترجمته يُسمي ’وجهة النظر الطوباوية‘. “تُثرى كلُّ ثقافة في العالم بأدب البلاد الأخرى. وكان المترجمون السبَّاقين في التعددية الثقافية، ينظرون إلى اللغات الأخرى والتقاليد ليجدوا شيئًا ما يرغبون بترجمته ومشاركته”. ويضيف سيميك “حتى وفقًا لهذا الادعاء فإن ترجمة الشعر مستحيلة، إلا أنني أجد حالًا مثاليًا. الشعر في ذاته حول المستحيل، وكل الفنون حول فعل المستحيل. وهنا تكمن جاذبيتها. كيف بإمكان شاعر أن يلخصَ تجربة ما، صغيرة أو كبيرة، ويوصلها في أربعة عشر سطرًا شعريًا؟ لكنه يفعلها”. بدأ سيميك بالترجمة بالعمل أستاذًا أعلى في مدرسة ثانوية، ليهاجر بعد مدة يسيرة من يوغسلافيا إلى أمريكا في عام 1954. قطع الحدود آخذًا معه قصائد باللغة الصربية أراد مشاركتها مع أصدقائه. أما أول قصيدة ترجمها فهي “رسالة الملك ساكيس وأسطورة الأحلام الاثني العشر التي حلمها في ليلة واحدة The Message of King Sakis and the Legend of the 12 Dreams He Had in One Night”. ابتدأ نشاطه الترجمي في عام 1960 حين انتقل إلى مدينة نيويورك وقضى وقتًا كثيرًا في مكتبة نيويورك العامة حيث اكتشف كما قال “القطاع السلافي”. إن ترجمة الشعر “هي فعل الحب، وفعل عاطفة سامية. كلما تعمَّقتُ في الترجمة؛ أُذهلُ. الطريقة التي بإمكاني تفكيك قصيدة إلى أجزاء دقيقة لم أفعلها قط عند العمل معلّم أدب. أحبُّ القربَ، والقراءة المتفحِّصة جدًا. الترجمة شبيهة بأن تكون وسَطًا، وتقف في محلِّ الآخر الذي تترجمه؛ يصبحُ الآخر أنت. إنها القراءة المحتملة الأقرب للنص الأدبي”. وفقًا لسيميك، فإن الشعر الموزون والمقفّى (الغنائي) هو الأشقُّ والأصعب على الترجمة. “إنه موجزٌ في عمومه ولا يحتوي الكثير من المادة الموضوعية. في القصيدة الغنائية فإن ما يُقال قليلٌ وما يُعنى كثيرٌ. وما تجربه في قصيدة غنائية هو محدد كليًّا في اللغة”.
قرأ سيميك بعضًا من ترجماته المحببّة، قصائد من كتاب سيميك (مختارات من الشعر الصربي):
“The Horse Has Six Legs: An Anthology of Serbian Poetry” (1992). وهذا مقتطف من قصيدة “الصُنيديق The Little Box”:
يُذكِّرها الصنُيديق بطفولتها…
وبتوقٍ عظيم تُصبحُ صُنيديقًا مرة أخرى
الآن، في الصُنيديق
تملكُ العالم بأكمله في مُنمنمة
تضعه بجيبك بسهولة
تخسره أو تُضيعه بسهولة
انتبه جيدًا على الصُنيديق
أخبرَ سيميك الحضور في بداية المحاضرة بأنه استمتعَ كليًا في سنة فوز بشاعر أمريكا “كَبُرتُ على حبِّ هذا المعهد، وهذه المكتبة، مكتبة الكونغرس. قضيتُ حياتي بأكملها -الحياة الحقيقية، الحياة التي أُثمِّنها- في المكتبات. بدأت حينما كنت طفلًا، واستمررت عندما أصبحتُ شابًا وما زلت أذهب إلى المكتبات. أن آتي إلى المكتبة الأخيرة، مكتبة العالم العظمى، وأعملَ مع المثاليين الذين تفانوا في المحافظة على هذا المعهد الراقي، إنه لشرف عظيم عظيم!”
أنهى محاضرته التي تجدونها هنا: www.loc.gov/webcasts/ بقراءة قصائده، ومن ضمنها مقتطف من قصيدة “في المكتبة In the Library” من ديوانه “الصوت عند الثالثة فجرًا The Voice at 3 A.M. (2003)”:
تُشرقُ الشمس الآن
عبر النوافذ الطويلة
المكتبة مكان هادئ
والآلهة والملائكة مجتمعون
في الكتب المظلمة والمغلقة
يكمن السرُّ العظيم
في رف ما فوق الآنسة جونز
مديدة القوام؛ تُبقي رأسها منحنية
كما لو تستمع ما تهمس به الكتبُ
لا أسمع شيئًا، لكنها تسمعُ!