فرضت الحياة المنعزلة في قرية هاورث النائية، كما يبدو، على الأخوات برونتي نمطًا حياتيًا سريًا وغامضًا تارة وخاصًا وانطوائيًا في أخرى. وتسرَّبت الحياة المنعزلة إلى الأخوات برونتي خلال سنوات ترعرعهن فحثَّتهن على الكتابة في صباهن بعيدًا عن أنظار حتى أقرب الناس إليهن في المنزل، والدهن وخالتهن إليزابيث. لفَّت السرية حياة الأخوات الكتابية منذ الانطلاقة الأولى حين كانت شارلوت وبرانويل يكتبان قصص مملكة أنغريا نيابة عن الأربعة، ثم بدأت بعدها إميلي وآن بشق طريقهن الكتابي بعيدًا عن شارلوت لكنه أيضًا طريقٌ سريٌ. وبعد أن تفرقت السُبل بالأخوات في الحياة وشقَّت كل واحدة منهن طريقها الحياتي المهني أو الكتابي، بقيت السريّة جزءًا لا يتجزأ لا سيما من إميلي وآن، على العكس من شارلوت التي بدت أكثر انفتاحًا في هذا الجانب وإبانة في سلوكها. جاءت سنة 1845 بمنطعف مهم في حياة الأخوات برونتي وفي مسار الأدب الإنجليزي حين وقعت شارلوت بالمصادفة على أشعار إميلي برونتي، ومع أنها كانت تُدرك نظم أختها للشهر فإن ما قرأته لم يكن كما توقَّعت أن أختها بما وصلت إليه من مستوى شعري وفكري على حد سواء. حثَّتها بعد ذلك على نشر شعرها مؤكدةً لها استحقاقية نشره واطلاع العامة عليه فلعله يكون ذا أثر في الشارع الأدبي الإنجليزي. متحمسةً لهذا النقاش الدائر بين شارلوت وإميلي لم تجد آن بُدًا من أن تُعلن هي الأخرى عن كتابتها الشعر وأظهرت أشعارها لأختيها وعرضتها على شارلوت، وكانت الأخيرة في خضمِّ هذا الجو الشعري الذي ولَّدته أختاها مضطرة أن تُخرجَ أشعارها وتكتب غيرها. جمعت الأخوات نحو ستين قصيدة وقررن نشره في ديوان مشترك وتوصلن في الأخير إلى اتفاق مع الناشر Aylott and Jones وعلى حسابهن الخاص بكلفة قدرها 31.10 جنيه إسترليني (لم يكن وقتها يعانين عوزًا ماليًا بفضل إرث خالتهن الذي تركته لهن بعد وفاتها دون أخيهن). بزغ سؤال مُلحٌ وجوهري في انطلاقة الأخوات الأدبية وهو بأي اسم سينشرن أشعارهن، استُبعدَ مباشرة الإفصاح عن أسمائهن الحقيقية لأسباب عديدة منها طباع الأخوات المتحفظة لا سيما إميلي، التي كانت لا ترغب أن تُطلع أختها شارلوت على شِعرها بل وأخفته حتى عن أختها القريبة منها جدًا (وصفت الأختان بأنهما كالتوأم على لسان إيلين نوسي، صديقة شارلوت)، وعدم رغبتهن بمعرفة والدهن بمشروعهن الأدبي الذي سيعارضه لأسباب مادية في المقام الأول ولأنه لا يريد لبناته معاناةً وفشلًا في مجال سبق وفشل به هو الآخر، كما أخفين الأمر عن برانويل حين كان يمرُّ بحالة نفسية سيئة بعد سلسلة طويلة من الفشل المهني والحياتي، هذه أسباب داخل البيت. أما أسباب خارج البيت فلم تروادهن رغبة أن يطلع مجتمع هاورث القروي الصغير على هذا المشروع الأدبي بكل ما يحمل في جَعبته من خفايا، وحتى إن اطلعوا فهم أبعد ما يكونوا وقتها عن الاكتراث. أما السبب الرئيس والمفصلي في عدم الرغبة عن الإفصاح تذكره شارلوت حين كتبت في عام 1850 قائلة: ’كان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية لأنه -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات “نسائية”- انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فقد لاحظنا بأنَّ النقاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة‘. لم تكن الأخوات برونتي بِدعًا من المؤلفات من قبلهن ولا بعدهن لا سيما في المجتمع الفيكتوري بعاداته المتشددة تجاه المرأة الكاتبة، ومع أنهن لسن أول إنجليزيات من استخدم اسم قلم مستعار (الأولى أفرا بن 1640-1689 حين كتبت قلم أنثى فحسب) فقد كنَّ من بين الأشهر سواء في أوروبا أو إنجلترا على غرار جورج ساند (أورو لوسيل دوبين) وجورج إليوت (ماري آن إيفانس). بيد أن العقبات لم تنتهِ هنا إذ بزغت عقبة أخرى في طريقهن نحو عالم النشر أيَّ أسماء يخترن؟ وقع اختيار الأخوات على ثلاثة أسماء ذكورية مسيحية هي كورير وإيليس وأكتون بيل فقد أوهمن القراء أنهن إخوة. (الحرف الأول من كل اسم هو الحرف الأول من اسم كل منهن، كورير Currer شارلوت Charlotte، إيليس Ellis إميلي Emily، آكتون Acton آن Anne، وبيل Bell برونتي Bronte.)
تساءل القرَّاء مطولا عن هذه الأسماء ولمَ اختيرت بالتحديد، وبلا شكٍ فما من تأويل مؤكد ومتفق عليه لكن الكاتب الإنجليزي نيك هولاند يعلل اختيار هذه الأسماء في كتابه Anne Bronte At 200 الصادر في عام 2020 فيقول إن اختيار شارلوت لاسم كورير كان امتنانًا للسيدة فرانسيس ماري ريتشاردسون كورير، المحسنة الثرية التي منحت باتريك برونتي مبلغ 50 جنيهًا بعد وفاة زوجته ماريا، وكان قد أنفق كل ماله على علاجها الذي لم يكن له أيَّ فائدة في إنقاذ زوجته، ومن المحتمل أنه سيفلس تمامًا لولا هذه اليد المعينة الكريمة. ولا بد أن أسرة كانت برونتي ممتنة وذاكرة هذه المعونة من السيدة كورير طويلًا مما جعل شارلوت تختار اسمها تكريمًا لها. أما إميلي فعلى الرغم من الاختلاف في التأويلات فإن نيك هولاند يرى أنها اختارت اسم إيليس إشارةً إلى أختها إليزابيث التي أحبتها وحفظت حبها في قلبها إلى الأبد. أما آن برونتي فإن اختيار اسم أكتون بيل له تأويلان الأول أنها اختارته على اسم الكاتبة الشهيرة إليزا أكتون التي نُشرت أعمالها في بواكير القرن التاسع عشر، والثاني، وهو ما يميل إليه نيك، فهو على اسم قلعة أكتون في ضواحي بينزانس في كورنوول، مسقط رأس أمها وخالتها إليزابيث، ومن الوارد أنها اختارته بعد أن شكَّل الاسم جزءًا من ذكريات طفولتها وذكَّرها بأصول أمها الكورنيّة.
*
ظهرت أول طبعة من الديوان المشترك في الثامن والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير 1846 إلا إنه لم يحظَ بصيت ولا شهرة ولم يحقق أي مبيعات تُذكر، وجاءت أول مراجعة للديوان المشترك في شهر تموز/ يوليو في ذات السنة واستحوذت قصائد إيليس (إميلي) على الإشادة فوصفت بأنها “تمنح انطباع الأصالة في مساهمته في هذا الديوان، وهو حسن السبك طريف الروح، وينطلق من قوى واضحة ذات أجنحة قد تصل إلى عُلوٍ لم يُحاول الوصول إليه هنا”. وتقول شارلوت عن القصائد في رسالة بعثتها إلى غاسكل مع نسخة من الديوان بعد سنوات من نشره بأن قصائد إيليس جيدة وحيويّة، وقصائد أكتون تمتلك بهجة الحقيقة والوضوح، وأما قصائدها فهي كتابات مراحلها المبكِّرة. في ظل هذا الفشل التجاري والنقدي للديوان كان لا بد للأخوات برونتي أن يأخذن خطوة أجرأ فقررن كتابة رواية، وهذا ما تمَّ في آخر المطاف بثلاثة روايات منشورة في عام 1847 هي أغنيس غري ووذرينغ هايتس وجين إير، وحملت الروايات أسماء أكتون وإيليس وكورير بيل كما في الديوان المشترك. وبعد أن اشتهرت رواية جين إير وذاع صيتها بدأت التكهنات بهُوية كاتب هذا العمل، وإن لم تلقَ روايتا أغنيس ووذرينغ هايتس مراجعات كثيرة فإن الحديث عن الهُوية قد طالهما أيضًا، وذكرت بعض المراجعات أنَّ هذه الروايات كُتبت بقلم واحد، وأن أغنيس غري ووذرينغ هايتس أعمال أوليّة لكورير بيل.
استمرَّ تحفُّظ الأخوات على مغامرتهن الأدبية وعدم إخبار والدهنَّ تجنُّبًا لزيادة توترتهن، ولم يعلم أيَّ شيء على الرغم من شكوكه من حدوث شيء مريب في بيته، ولم يقطع الشك باليقين حتى جاءت تلك اللحظة حين حثَّت آن وإميلي شارلوتَ لتخبرَ والدهن عن نشرها رواية “جين إير” بعد النجاح الذي لاقته فذهبت إليه بعد الظهيرة وبيدها نسخة من الرواية فقالت له كما تذكر غاسكل أن شارلوت أخبرتها بهذه الحادثة:
– بابا، لقد ألَّفتُ كتابا.
– حقًا عزيزتي؟
– نعم، وأريدك أن تقرأه.
– أخشى أن يُتعب عينيَّ ذلك كثيرا.
– لكنه ليس مخطوطة بل كتاب مطبوع.
– عزيزتي! ألم تفكري قط بما سيكلَّفه! وسيكون خسارة بلا ريب، فكيف بمقدورك أن تبيعيه؟ لا يوجد من يعرفك.
– لكن بابا، لا أظنه سيخسر، ولا يجب أن تظن أنتَ أيضا إذا سمحتَ لي أن أقرأ لك الآن مراجعةً أو اثنتين، وأن أخبركَ المزيدَ عنه.
ثم قعدت بعدها إلى جانبه تقرأ عليه بعض المراجعات وأعطته نسخة من رواية جين إير التي خصَّتها له وتركته ليقرأها. وحين أتى وقت الشاي قال ’يا بنات أتدرون أن شارلوت قد ألَّفت كتابًا، وفي الغالب إنه كتاب ممتاز؟‘.
بقيت شارلوت قلقة جدًا من يُفتضح سر حقيقة مزاولتها الكتابة وسبب ذلك أنها قطعت عهدًا على أختيها ألا تكشف السر أبدًا، حتى إنها حين وصلت إليها رسالة من صديقتها إيلين نوسي تتساءل فيه عن شائعة نشرها كتابًا أنكرت عليها هذا بشدة وطلبت منها عدم تصديق شائعات كهذه. وحتى أخيهن برانويل (1817-1848) أبقينه على مبعدة من معرفة أي شيء عن نشرهن لا سيما بعد تدهور حالته في سنوات حياته الأخيرة التي زامنت سنوات نشرهن (1846-1848). تكشف شارلوت هذا في رسالة: ’لم يعلم أخي التعيس قط ما الذي فعلته أخواته في الأدب- لم يعرفْ قط أنهن نشرن سطرًا واحدًا؛ لم نستطع إخباره شيئًا عما بذلناه خشيةً أن يسبب له ذلك ندمًا على وقته الذي بدده بلا طائل ومواهبه التي أساء استخدامها. والآن لن يعرف أبدًا. لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع أكثر، لهو موجع جدًا‘.
*
ارتبطَ على نحوٍ أشد في عام 1848 اسم كورير بيل برواية وذرينغ هايتس مما اضطر شارلوت كتابة ملاحظة في مقدمة طبعة رواية “جين إير” الثالثة: ’أود أن انتهز الفرصة التي منحتها لي الطبعة الثالثة لرواية جين إير، وأوجِّه كلمة مجددًا لجمهور القرَّاء، لأوضِّح بأنَّ لقب الروائي الذي يُخلع عليَّ مقترن بهذا العمل فحسب. وإذا ما عُزيَت ملكية تأليف روايات أخرى إليَّ، وهذا التشريف جائزة لا أستحقها، لذلك، أنكره تمامًا حيث كان. عسى أن يخدم هذا التوضيح في تدارك الأخطاء المرتكبة سلفًا ولمنعِ أخرى مستقبلية‘. كورير بيل 13 نيسان 1848. ثم تفاقم الأمر بصدور رواية آن برونتي الثانية “نزيلة قصر ويلدفيل” المنشورة باسم مؤلفها أكتون بيل عند ناشرها نيوبي. كان هذا صاحب هذه الدار ناشرًا وتاجرًا وله حيله التسويقية التي أَدرجها في عالم النشر، ومنها تلك التي طالت آن وشارلوت حين أخبر ناشرًا أمريكيًا -هو هاربر الذي اشترى حقوق رواية “جين إير” لنشرها في أمريكا- أن كاتب رواية “نزيلة قصر ويلدفيل” هو ذاته كاتب رواية “جين إير” لمضاعفة مبيعات رواية “نزيلة قصر ويلدفيل. وكان هذا الناشر الأمريكي صديق ناشر شارلوت، جورج سميث، فأخطرَه بالخبر، فما كان من سميث إلا أن بعث برسالة إلى كورير ليستعلمَ منه الأمر، ووصلت الرسالة في السابع من تموز/ يوليو 1848، لينزل الخبر كالصاعقة على رأس الأخوات، فاضطرت شارلوت وآن أن تذهبا إلى لندن لتوضيح الأمر بنفسيهما، ورفضتْ إميلي مرافقتهما وكشف هويتها بما أن الأمر لا يطال هُوية اسمها. سافرت شارلوت وآن في ذات اليوم إلى لندن في رحلة طويلة ووصلتا في صباح السبت وقصدتا عنوان الناشر في شارع كورنهيل 65، وغاب عن ذهن الغرَّتين أن يكون المكتب مقفل في يوم السبت لكن لحسن حظهما كان جورج سميث في مكتبه ويروي جورج سميث هذه الحادثة: كنت في صباح ذلك السبت في مكتبي منشغل ببعض مراسلاتي حين أتى مساعدي مخطرًا إياي بوجود سيدتين تريدان مقابلتي، طلبتُ منه أن يسألهما ما الذي تريدانه، فذهب ثم عاد قائلًا بأن الأمر خاص بيني وبينهن فطلبت منه أن يُستدعيهما. وأنا في خضمِّ المراسلات، ولم يكن في خاطري شيء عن “كورير بيل” و”جين إير” دخلت عليَّ سيدتان بثياب غريبة، ووجه شاحب قلق، تقدمت إحداهما إليّ وضعت على مكتبي رسالتي المعنونة إلى “س. كورير بيل” ولاحظت أن الرسالة كانت مفتوحة وقلت لها ببعض الحدِّة “من أين حصلتِ على هذه؟” “من مكتب البريد” كان جوابها، “كانت موجَّهة إليَّ”. استدعى بعدها جورج سميث زميله وليم سميث الذي كان أول من قرأ مخطوطة “جين إير” وأعجب بها مدركًا عبقريتها. وهكذا نشأت علاقة ما بين جورج سميث وشارلوت وجمعتهما مراسلات استمرت طويلا، وزيارات متعددة منها زيارة مكثت فيها شارلوت عنده في البيت مع والدته. واستلهمت منهما شخصيتي السيدة بريتون وابنها الطبيب جون بريتون في رواية فيليت. كُشف إثر هذه الحادثة عن هُوية شارلوت في دوائر لندن الأدبية وتعرَّفت خلال السنوات اللاحقة إلى روائيين وروائيات ونقَّاد لكنها بقيت محافظة على هُويتها أمام جمهور القراء. أماطت شارلوت اللثام عن هوية أختها إميلي أثناء زيارتها، وحنقت إميلي بشدَّة حين علمتْ أن شارلوت قد أعلنت عن هويتها الحقيقية، لذا وتفاديًا لغضب أختها طلبت شارلوت من وليم سميث عدم ذكر أختيها في رسائلها مستخدمًا ضمائر الجمع، وألا يشير إلى [إيليس بيل] إلا باسمه المستعار تحت أي ظرف وبغض النظر عن أي سبب. وتقرُّ في رسالة له بأنها ارتكبت موبقةً حين كشفت عن هوية إيليس.
كتبت آن برونتي بعدها بأيام توضيحًا في مقدمة الطبعة الثانية من رواية “نزيلة قصر ويلدفيل‘ لتبدد هذه الخلط بين أكتون وكورير وإيليس بيل في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو 1848: ’أرغب أن يُدرك تمامًا بأن أكتون بيل ليس كورير ولا إيليس بيل، لذا فلا يجب عزوَ عيوب هذا العمل إليهما. وإذا ما كان هذا الاسم حقيقيًا أو خياليًا، وليس في هذا من فائدة تُذكر لمن يَعرفَه بكتبِه فقط. وأراني مجبورًا بالتفكير قليلًا أيَهمُّ حقًا لو كان الكاتب المعني رجلا أو امرأة، كما صرَّح ناقد أو اثنين بأنهما اكتشفا هويته. وسآخذ هذا العَزو على محمل جيد بأنه اطراءٌ لتصويري العادل لشخصياتي الأنثوية في العمل، ومع أني مجبرٌ على عَزو هذا الاشتباه إلى الشدة المفرطة لرقباء روايتي فلا أعبأ بدحضه، لأني مقتنع إذا كان الكتاب جيدًا بغض النظر عن نوع مؤلفه. كُتبتْ جميع الروايات، أو يجب أن تُكتب، من الرجال والنساء على حد سواء لتُقرأ، وإني لفي حيرة من أمري أن أتصور كيف يسمح رجلٌ لنفسه بكتابة أيَّ شيء قد يكون مُخِجَلًا للمرأة حقًا، أو لماذا يجب أن تُراقب كتابات امرأةٍ حتى تكون لائقة وملائمة للرجل‘.
*
انطوى بعد ذلك فصل هذه التصريحات بوفاة إميلي وآن تواليا في كانون الأول/ ديسمبر 1848 وأيار/ مايو 1849، وألقت هذه الوفيات بحملها الثقيل على كاهلي شارلوت التي استطاعت عبر الكتابة أن تنقذ نفسها. تكتب في رسالة ’رفعتني مقدرة التخيل عندما كنت أغرق في الأشهر الثلاثة الماضية، وأبقت ممارستها الفعّالة رأسي فوق الماء، ولقد أبهجتني النتيجة الآن لأني شعرت بأنها منحتني القدرة على إبهاج الآخرين. أحمدُ اللهَ على منحي هذه المقدرة، ولهو جزء من مُعتقدي أن أدافع عن هذه الهبة وأبرهن على حيازتها‘. نُشرت رواية شيرلي في السادس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1849. كانت شارلوت لا تزال قلقة كالسابق من أجل المحافظة على الاسم المستعار في هذه الرواية. حتى إنها توهَّمت وجود بعض الخيوط التي تشي بقلم أنثوي في رواية “شيرلي” وذكرت المراجعات الأولى لرواية “جين إير” بعد النشر بأن الكاتب المجهول لا بد أن يكون امرأة، وخيَّب هذا ظنها كثيرًا، فلم يعجبها على وجه الخصوص تدني المعايير التي يُحكم بها على الرواية إذا كُتبت من قلم نسائيّ، واختلاط الأشادة بتلمحيات غزل زائفة لأنوثتها؛ الفعل الذي يُشعرها بالخزي أكثر من اللوم الحاد كما تذكر غاسكل في سيرة شارلوت، وتُكمل، لكن هذا السر الذي رُوعي بحماسٍ اكتُشف في آخر المطاف حين قرأ أحد رجال هاورث الأذكياء، وكان مقيما في ليفربول، روايةَ شيرلي وصُدم بأسماء الأماكن المذكورة فيها وعرف لهجة أهل هاورث التي كُتبت بها بعض حوارات الرواية، وتيقَّن تماما بأن العمل مكتوب من أحد سكّان هاورث ولم يتصوَّر وجود أحد في القرية قادر على كتابة رواية باستثناء الآنسة برونتي. ومزهوَّا باكتشافه كتب عن هذا في عمود مقاليّ في إحد صحف ليفربول. وزحف هذا الاكتشاف إلى لندن الذي حافظت عليه شارلوت حتى خواتيم نهاية سنة 1849 قبل أن يصبح مُشاعا فيها. ما عاد بإمكان شارلوت الاستمرار بالمحافظة على اسم كورير بيل في معزل عن هُويتها لكنها مع ذلك حاولت جهد إمكانها أن تبقي اسم كورير مجهولَ الهُوية حتى آخر المطاف.
*
بدافعٍ من شعور الواجب تجاه أختيها وروايتيهما كتبت شارلوت “بيان سيرة إيليس وأكتون بيل” في مقدمة روايتي أختيها وذرينغ هايتس لإميلي وأغنيس غري لآن بعد وفاتهما في طبعة خاصة صدرت في عام 1850 من ناشر رواياتها جورج سميث بعد أن أقنعته بإصدارهما. كان لهذه المقدمة التعريفية بالكاتبتين اللتين صدرت أعمالهما باسمي مستعارين أسبابٍ كثيرة منها: أنها أرادت التعريف بأختيها بمعلوماتٍ صحيحة وكشف هُويتهما الحقيقية لجمهور، ولإزالة اللبس حول الأقوال المتضاربة عن كون الإخوة بيل كاتبًا واحدًا، وأرادت وهو الأهم الدفاع عن أختيها مما تعرضَّتا له في مراجعاتِ روايتيهما فقد اتُّهمت رواية إميلي بالكفر والفسوق والتجديف، ورواية آن برونتي الثانية (نزيلة قصر ويلدفيل) بأنها غير محافظة وخارجة على أعراف المجتمع الفيكتوريّ بموضوعها الذي عرَّى المجتمع والزيجات التي لا انفصام لها وما يرافق بعضها من سوء معاملة الزوج لزوجته واضطرارها لتحمُّله والعنف الزوجي والتهتُّك والخيانة الزوجية والزنى، بيد أن دفاعها عن أختيها كما سنقرأ لم يكن بالدفاع الحقيقيّ بعرضها إميلي وآن على أنهما فتاتين قرويتين لم يحظيا بقدرٍ كافٍ من التعليم وأنهما عاشتا حياتهما وكتبتا رواياتهما بدافعِ بديهة ومخزون مشاهدات. أيّ أنهما لم تكونا بالواعيتين لما كتبتا الوعي التام، وجانبت الصواب شارلوت في هذا ولم يكن لبيانها التعريفي هذا أثره الذي رغبت به ولم يُغيِّر النظرة العامة تجاه الروايتين التي استمرَّت مدة ليست بالقصيرة.
وهنا ترجمتي للبيان كاملًا
*
جرى اعتقاد على أن الأعمال المنشورة تحت أسماء كورير، وإيليس، وأكتون بيل، في الحقيقة لكاتبٍ واحد. الخطأ الذي سعيتُ إلى تداركه بكلماتٍ نافية قليلة في مقدمة الطبعة الثالثة من رواية “جين إير”. ويبدو أن هذه المحاولة أيضًا باءت بفشل نيل تصديقٍ عامٍ، والآن، في مناسبة إعادة طباعة “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري” نُصحتُ لأبيِّن بوضوح كيف انبثقت هذه القضية برمتها في الواقع. أشعرُ في قرارة نفسي بأنَّ الوقت أزف لتبديد هالة الغموض التي لفَّت هذين الاسمين -إيليس وأكتون-. فقدَ اللغز الصغير، الذي تركَ في السابق بعضَ المتعة البريئة، أهميتَه، وتغيَّرت الظروف الخاصة به. وأصبحَ من واجبي أن أوضِّح بإيجاز أصل وملكية تأليف الروايات المكتوبة من كورير وإيليس وأكتون بيل.
قبل نحو خمس سنوات، التمَّ شملي بأختيَّ بعد مدة انفصال طويلة، واجتمعنا مجددًا في المنزل، الذي كان في ضاحية نائية، حيث لم يُحرزِ التعليمُ تقدُّما يُذكر، ونتيجة لذلك لم يكن أيَّ محفِّز للبحث عن اتصالات مجتمعية خارج دائرتنا المنزلية، واعتمدنا بالكامل على أنفسنا وعلى بعضنا، وعلى الكتب والدراسة من أجل الاستمتاع بالحياة وشغل فراغها. وكمُنَ أسمى واعزٍ، بالإضافة إلى أكثر المُتع حيويةً التي عرفناها منذ طفولتها فصاعدًا، في محاولات تأليف أدبية؛ اعتدنا في السابق على إطلاع بعضنا على ما خطَّته أناملنا، لكن شهدت السنوات اللاحقة انقطاعَ عادة التواصل والمشاورة، وترتَّب على إثر هذا، غفلتنا عن التقدُّم الذي كان يُحرزه كلُّ منا تواليًا. في أحد أيام خريف 1845 وقعت بالمصادفة على مجلد أشعار أختي إميلي بخط يدها. وبالطبع لم أكن متفاجئًا وعارفًا بأنها كانت قادرة على نظم الشعر: تفحصته جيدا، وتملكني شيء ما أكثر من الدهشة- إيمان عميق بأن ما كُتب كان أكثر من مجرد إراقة شائعة ولا بشعر يشبه ما تكتبه النساء عموما. رأيته شعرًا مكثَّفًا وموجزًا، وقويًا وحقيقيًا. وكان له وقع في أذني بموسيقا جامحة مميزة، وسوداوية، ورفيعة. لم تكن أختي إميلي امرأة مُجاهرةً في سماتها، ولا تكشف خبايا عقلها وخفايا قلبها حتى لأعز وأقرب الناس إليها، مُحصِّنةً إياها، وغير مرخِّص التطفل عليها؛ استغرق استرضاؤها مني ساعاتٍ بشأن عثوري على أشعارها، وقضيتُ أياما في إقناعها بأنَّ قصائدها تستحق النشر. علمتُ، على أي حال، أن من يملك مثل عقلها لن يكون بلا شرارة باطنية من طموح استحقاق التشريف، ورفضتْ أن تكون متثبّطة أمام محاولات نفخي على تلك الشرارة لتلتهب. في غضون ذلك عرضت أختي الصغرى قصائد من نظمها طالبةً مني الاطلاع عليها بما أنَّ قصائد إميلي قد أبهجتني. ولم أتمكن إلا أن أكون جائرًا في حكمي، ومع ذلك ظننتُ بأنَّ في شِعرها، أيضًا، عاطفة حلوة صادقة في ثناياه.
طالما تعلَّقنا بشغف بحلم أن نصبح يومًا مؤلِّفين، ولم يتلاشَ هذا الحلم قط حتى حين باعدت بيننا المسافات وانشغلنا بالمهامٍ المُستغرِقةِ لأوقاتنا، بيد أننا امتلكنا الآن وعلى حين غرَّة القوة والانسجام: وشرعنا في الخطو في الاتجاه الصحيح. اتفقنا على ترتيب ديوان قصائد صغير، وطبعه إذا أمكن ذلك. ولنفورنا من إطلاع العامة على هُوياتنا ارتأينا النشر تحت أسماء كورير، إيليس، آكتون بيل، وكان هذا الخيار الغامض خَلْجَةً من خلجات الضمير باستخدام أسماء مسيحيّة رجوليّة، ولم نرغب بالكشف عن هُوياتنا النسائية -دون الافتراض في حينها أن يُعامل نمط كتابتنا وتُظنُّ أنها كتابات “نسائية”- فقد انتابنا انطباع مبهم بأنَّ المؤلفات عرْضة ليُعاملن بتحيّز فلاحظنا بأنَّ النقَّاد أحيانا يستعملون في عقابهم سلاحَ الشخصنة، وفي جزائهم إطراءً وهو ليس بالإشادة الصادقة. ما أصعبَ ما كان عليه إصدار كتابنا المشترك الصغير. وكما كان متوقعًا فلم نحظَ نحنُ ولا قصائدنا بالانتباه الذي رغبنا به لكننا كنا على أهبة الاستعداد لهذه الانطلاقة. ومع أننا بلا خبرة شخصيّة فقد قرأنا تجارب الآخرين. كَمُنت المعضلة الكبرى في صعوبة نيل أجوبة من أي نوعٍ من الناشرين الذين ناشدناهم. ولشدَّة تضايقي من هذا العائق فقد أقدمتُ على خطوة جريئة بسؤال الناشر تشامبرز وناشر أدنبره، طالبًا النصحَ ولربما قد نسيا تلك الأحداث بيد أنني لم أنسَها فقد استلمت منهما رسالة ذات طابعٍ تجاريّ لكنها بردٍّ مُهذَّب ورقيق اتَّبعنا ما جاء فيها، وفي آخر المطاف شققنا طريقنا.
طُبعَ الكتاب لكنه بالكاد عُرِفَ، وما نالتْ قصائده استحقاق أن تشتهر خلا قصائد إيليس بيل. خامرني اقتناع حازم بأني لا بد أن أحافظ على أملي بصرف النظر عن أن مجموعة كبيرة من هذه القصائد لم تنل في الواقع مقبولية الكثير من المراجعات النقدية المُبشرة بالنجاح. فشلت البداية البائسة في تحطيمنا، ومنحَتْنا محاولةُ النجاح المحضة حيويّةً رائعة للعيش وهذا ما يجب أن نسعى وراءه. بدأ كل منا بكتابة حكاية نثرية؛ ألَّفت إيليس بيل “وذرينغ هايتس” وأكتون بيل “أغنيس غري” وكتبَ كورير بيل أيضًا رواية من مجلد واحد1. عُرضت هذه الحكايات بمثابرةٍ على ناشرين مختلفين في نحو سنة ونصف؛ عادة ما كانت النتيجة رفضًا مخزيًا وقاطعًا. قُبلتْ في آخر المطاف “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري” بشروطٍ مُفقِرةً المؤلفتين بنحوٍ ما؛ لم يجد كتاب كورير بيل المقبولية في أي مكان ولا أي اعتراف باستحقاقه النشر، وبدأ يغزو قلبه شيء مثل ارتجافة يأس. وبأملٍ لا طائل منها، حاولَ مرة أخرى مع الناشر Smith, Elder and Co ومضى وقت طويل، أقصر بكثير من المدة التي تعلَّم أن يحسبها في تجاربه السابقة، قبل وصول رسالة فتحها، بتوقُّعٍ مريع بوجودٍ سطرين قاسيين مُقنطين، لامحًا بأن السيدين سميث وإيلدر “لم يستبعدا نشر الحكاية” وأخرجَ من الظرف رسالةً من صفحتين. قرأها بارتعاشٍ. رفضت الرسالة في الحقيقة نشرَ الحكاية لأسباب تجارية، لكنها ناقشتْ جدارة نشرها ولا جدارتها بكياسة كبيرة، وباعتبارٍ محض، وبروحٍ عقلانيةٍ جدًا، وبحصافةٍ متنوِّرة جدًا، أبهجَ هذا الرفضُ اللطيف الكاتبَ أكثر مما قد يفعله قبولٌ ذو تعبيرٍ دارجٍ. أضافت الرسالة بأنَّ عملًا من ثلاثة مجلدات سيحظى باهتمامٍ لافت. بدأت وقتها فحسب إكمالَ “جين إير” التي عملتُ عليها حين كانت الرواية ذات المجلد الواحد تكدحُ في جولتها الشاقة في لندن: أرسلتها في غضون ثلاثة أسابيع؛ تولَّت ذلك يدٌ ودودة وماهرة. كان هذا في مستهل أيلول 1847، ونُشرت الرواية قبل نهاية تشرين الأول التالي، في حين لا تزال روايتا أختيّ “وذرينغ هايتس” و”أغنيس غري”، اللتان أرسلتا سلفا إلى المطبعة قبل أشهر، تنتظران بذرائع إدارية مختلفة. ثم ظهرتا في الأخير. فشل النقَّاد في التعامل معهما بعدلٍ. أبانت “وذرينغ هايتس” عن قوى غضَّة بيد أنها حقيقيّة جدًا بالكاد مُيَّزت، وأُسيئ فهمُ فحواها وطبيعتها، وأُخطئ شرحُ هُوية مؤلفتها؛ قيل إنها محاولة أوليّة وفظَّة لذات القلم الذي أنتج “جين إير”. خطأ مُجحف ومُحزن! ضحكنا عليه في أول الأمر، بيد أني أنحبُ عليه من صميم قلبي الآن. أخشى من الآن فصاعدًا أن أستثيرَ التحيَّزَ ضدَّ الكتاب. والكاتب الذي بمقدوره أن يحاول التخلص من إنتاجٍ وضيع وغير ناضجٍ تحت غطاء عملٍ واحدٍ ناجحٍ لا بد أن يكون في الواقع متحمسًا بإفراطٍ للمحصلة الثانوية والحقيرة لملكية التأليف، ولا مباليًا على نحو مثير للشفقة للجزاء الذي يستحقه عن حقٍ وحقيق. إذا آمن كتَّاب المراجعات والعامة حقًا بهذا، فلا عجبَ في أنهم نظروا إلى المحتال بتجهُّم. مع ذلك لا يجب أن أُفهم بأني أبيِّن هذه الأمور لتكون عرضة لتوبيخ أو مديح؛ لا أجرؤ على ذلك احترامًا لذكرى أختي التي تمنعي من هذا. ومن جانبها فإن أي توضيحٍ مُتشكٍّ من هذا النوع كان ليعدُّ ضعفًا مُهينًا وخسيسًا. لهو واجبي كما هو سعادتي أن أقرَّ باستثناء واحد للقاعدة النقدية العامة. عرفَ كاتب واحد، ذو رؤية ألمعية وتعاطف حسن مع العبقرية، الطبيعةَ الحقيقيةَ لـ”وذرينغ هايتس” ولاحظَ بدقة منصِفة جمالياتها والتمسَ هنَّاتها. وغالبا ما ذكَّرنا المراجعون كثيرًا بفوضى المنجِّمون، والكلدان، والعرَّافون بعد أن يتجمَّعوا ويتفوَّهوا “بالنُذر الغيبية”، وتعذَّر علينا قراءة الأمارات أو تمييز التأويلات. من حقِّنا أن نبتهج فعلا حين يأتي عرَّافٌ حقيقيٌ في الأخير، رجل بين جوانحه روحٌ بديعة، مَنُ مُنحَ نورًا وحكمةً وإدراكًا؛ يستطيع بدقةٍ قراءة “خلجات وخواطر” العقل الأصلي (بغض النظر عن مدى تفرُّد هذا العقل أو تعلُّمه غير الكافي واطلاعه الجزئي)، ومن يقول بكل ثقة “هذا هو التفسير المعنيّ”. مع ذلك، فإن الكاتب الذي أشير إليه يشاركني الخطأ بشأن ملكية التأليف، ولمن الإجحاف بحقي افتراضُ أن ثمةَ غموضًا في إنكاري السابق لهذا الشرف (شرَّف أُكْبِرُه في نفسي). هل لي أن أوكِّدَ له بأني سأكون عرضة للازدراء في هذه المسألة وفي أي واحدة أخرى تتعلق بالغموض؛ أومن أن اللغة التي مُنحتْ لنا لنبيّن مقاصدنا بوضوح، لا أن نلفُّها بشكٍ خدّاع.
حظيت “نزيلة قصر ويلدفيل” لأكتون بيل، على غرار تلك باستقبال غير مؤاتٍ. ولا يخامرني عجبٌ في هذا. كان اختيار الموضوع غلطة برمته. ولا يمكن تصوُّر أيَّ شيء فيه منسجم مع طبيعة الكاتبة. لقد كانت مُحرِّكات هذا الاختيار نقية لكنها، حسبما أرى، سقيمة قليلا. استُحثَّتْ في حياتها على التأمل والتفكير2، وتحمَّلت مدةً طويلة وعلى نحوٍ مباشر التأثيرات الرهيبة للمواهب التي أسيء استخدامها والإمكانيات التي عُبث بها3؛ كانت بالفطرة مرهفة الحسِّ، ومتحفِّظة، وذات سجيّة محزونة؛ ما شهدته أثرَّ عميقًا في عقليتها وسبَّب لها الأذية. تغذَّتْ على هذا حتى اعتقدت أن من واجبها أن تروي كلَّ تفاصيله (بالطبع بشخصياتٍ متخيّلة وأحداث ومواقف) ليكون إنذارًا للآخرين. كرهَتْ عملها لكنها استمرَّت به. عندما تفكَّرتْ في الموضوع رأتْ في استدلالته إغواءً للانغماس في الذات. لا بد أن تكون صادقة؛ لا يجب أن تكون مُزيِّنة ولا مرقِقة أو مُطمطِمة. جلبتْ عليها هذه النتيجة المعنية تماما سوءَ الفهم، وتحمّلت بعض الإهانات -كما هي عادتها- في تحمُّل أيّ شيء مُهين بصبر راسخ وحليم. لقد كانت صادقة جدًا ومسيحية تقيّة لكنَّ مسحة السوداوية الدينية ألقتْ بظلٍ تعيس على حياتها القصيرة النزيهة.
لم تسمح كلا من إيليس وأكتون لنفسها أن تغرقَ لحظةً واحدة في طلبِ التشجيع؛ قوَّت الهمَّة الأولى، وأيَّد التجلُّد الأخرى. كانت الاثنتان على أهبة الاستعداد للمحاولة مجددًا؛ ولن أجانبَ الصوابَ لو ظننتُ بأنَّ الأملَ وإحساسَ القوَّة كانا مُعْتملين في جوانحهما بثباتٍ.
لكن أزِفَ تغيير مهول: أتى ابتلاء لمن الفظيع توقُّع نمط قدومه ذاك؛ لا أرى شيئًا خلا الأسى عند النظر إلى الوراء. في حرارة النهار الشديدة وعنائه فشلَ العاملان في عمليهما. انتكست حالة أختي إميلي أولا. لتفاصيل مرضها في ذاكرتي وَسْمٌ غائر وأن يكون لها موضعٍ في فكري أو نثري لهو يفوق قدرتي. لم تكن طوال حياتها قط متريِّثة في أي عمل يقع على عاتقها، ولم تتريث في هذا الحال أيضا. لقد غادرت بسرعة خاطفة. وحثَّت الخطى في مغادرتنا. وفي الوقت الذي انمحقتْ جسديًا كانت تقوى عقليًا على نحوٍ لم نعهده منها قط. يومًا تلو آخر حينما رأيتها قُبالة عينيّ تعاني تطلَّعت إليها بكربٍ ممزوجٍ بالعُجب والحب. لم أرَ شيئًا مثيلًا لذلك، في الحقيقة لم أرَ قطَ ما يوازيها في أيّ شيء. أقوى من رجل، أبرأ من طفل، متفرِّدة في ذاتها. وأبشع ما في الأمر أنها في الوقت الذي فاضتْ فيه رحمة على الآخرين لم تُظهر على نفسها أيَّ شفقة، كانت روحها متصلبة حتى جرثومتها، من يديها الراعشتين، وقدميها المتوترين، وعينيها الغائرتين، وكل شيء في صحتها يُنتزع وأن تقف تشاهد ذلك ولا تتجرأ أن تعترض لهو أمر مُوجع لا تُعبِّر عنه الكلمات. مرَّ بألمٍ شهران قاسيان من الأمل والخوف، ثم حلَّ في آخر المطاف اليوم حين قاسى هذا الكنز أهوال الموت وآلامه، وأضحتْ أعزَّ فأعزَّ على قلوبنا وهي تهزلُ قُبالة أعيننا. في نهاية ذلك اليوم، لم نملك من إميلي سوى بقاياها الفانية، قد خلَّفها ما استهلكها. وافتها المنية في التاسع عشر من كانون الأول 1848.
ظننا أن هذا كافٍ لكننا كنا مخطئين تماما وبتمادٍ. لم ننتهِ من دفنها حتى تهاوت آن مريضةً. ما كان مرضها الذي يودي بحياتها طوال إسبوعين، قبل أن نفهمَ الإلماحة البيّنة بأن علينا تحضير أنفسنا لرؤية أختي الصغيرة تحلق بأختها الكبيرة. وهكذا اقتفتْ مسار أختها نفسه لكن بخطًى أبطأ، وبصبرٍ يعادلُ تجلَّد الأخرى. ذكرتُ آنفا أنها كانت متديِّنة لذا، واستقتْ من انكبابها على التعاليم المسيحية التي آمنت بها برسوخٍ المؤازرةَ في رحلتها العصيبة جدًا. شهدتُ تأثير هذه التعاليم في ساعتها الأخيرة ومحنتها العصيبة، ولا بد أن أدلي بشهادتي عن هذا النصر الهادئ الذي جُلبه إليها إيمانها. تُوفيت في الثامن والعشرين من أيار 1849.
ما الذي يسعني أن أقول أكثر عنهما؟ لا يمكنني قول المزيد ولستُ بحاجة لقول الكثير. كانتا في حياتهما الخارجية امرأتين متواريتين عن الأنظار؛ منحتهما حياةُ عزلةٍ مثاليةٌ عاداتٍ وسماتٍ منكفئة. اجتمعَ في سجيّة إميلي الحيويّةُ المفرطة والسهولةُ. وكمنُت تحت غطاءَ ثقافة غِرَّة ونزعاتٍ غير مصطعنة وسَمْت غير متكلِّف- قوةٌ سريّة ونارٌ بصَّرت الدماغَ وأوقدتْ عروقَ بطلٍ: بيد أنها لم تُحنَّك بحكمةٍ خبيرة، وما شقتْ قواها طريقها في الحياة العملية الفعليّة، وكانت لتفشلَ في أن تدافعَ عن أكثر حقوقها وضوحًا وفي أن تشاورَ في أكثر مزياتها أصالة. لا بد من مؤِّول دائما بينها وبين العالم. لم تتمتع برغبة مرنة جدًا، وعادةً ما وقفتْ بوجه ما تهتمُّ به. كان لها طبع متَّسمٌ برحابة الصدر لكنه حميميّ وغير متوقَّع، وروحها مستقيمة تماما.
أما آن فكانت ذات طبعٍ أكثر دماثة وكبتًا؛ رغبتْ بقوة، ونار، وأصالة أختها، بيد أنَّها موهوبة جدًا بخصال هادئة تميِّزها. تمتَّعتْ بالأناة، والإيثار، والتأمُّل، والنجابة، والتحفُّظ الجسماني، وقلَّة الكلام، ووضعها كل هذا في الظل، وغطَّى عقلها ولا سيما مشاعرها حجابُ راهبة نادرًا ما رفعته.
لم تكن إميلي ولا آن متعلمة، وليس لديهما أدنى فكرة عن ملء أباريقهما من نبع عقول الآخرين الفوَّار؛ دائما ما كتبتا بدافع الفطرة، وبإملاء البديهة، وبخزَّان مشاهداتٍ مُلءَ بما أتاحته لهما تجربتهما المحدودة. هل لي أن أختصرَ كل هذا بقولي إنهما في نظر الغرباء كانتا نكرتين، لكنَّهما في نظر من عرفهما طوال حياتهما وجمعته بهما عَلاقة حميمية قريبة طيبتان حقًا وعظيمتان صدقًا.
كُتب هذا البيان لأني شعرت بأنه واجب مقدَّس أن أزيلَ الغبارَ عن شاهديْ قبريهما، وأخلِّفَ اسميهما الحبيبين نظيفين من التراب.
كورير بيل
19 أيلول 1850
*
بهذا البيان عُرفت هوية إيليس وأكتون الحقيقية وطوي صفحة هذا الفصل إلى الأبد، لكن شارلوت بقيت محافظةً على اسم كورير بيل ولم تكشف عنه قط في حياتها، وكما نلاحظ في بيانها الآنف أنها تكلمت عن نفسها بصيغة المذكر. ونشرت رواياتها الأخيرة فيليت في عام 1853 باسم كورير بيل، وبقي اسم كورير بيل على غلاف رواياتها حتى وفاتها في عام 1855 بعد أشهر قليلة من زواجها.
في آخر المطاف كان لا بُدَّ أن يُكشف عن هُوية كورير بيل الحقيقية لعامة القراء وهذا ما تمَّ لكنه على نحوٍ خارق ومدوٍّ ساهم لا في تعريف العامة على شارلوت برونتي فحسب بل ونقلها إلى مقام القديسة ثم الأسطورة بعدما نشرت إليزابيث غاسكل أول وأشهر سيرة حياتية عن شارلوت والأخوات برونتي، كتاب “حياة شارلوت برونتي” في عام 1857. عرَّفت بهذه السيرة الحقيقة الخفيّة لمؤلفة الروايات الشهيرة “جين إير وشيرلي وفيليت”.
الهوامش:
1- تقصد رواية “الأستاذ”، وكانت أول رواية تكتبها ولم تُنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857. المترجم
2- تقصد تربية والدها الخوري لهن، وتأثير خالتها إليزابيث الديني ومعتقدها الميثودي المباشر في آن على نحو خاص، لأنها كانت أصغر الأخوات فحظيت برعاية خالتها المطلقة. المترجم
3- تقصد مأساة أخيها برانويل وتدهور حياته بعد علاقته الغرامية السقيمة مع السيدة روبنسون المتزوجة. كانت شارلوت تظن أن شخصية هنتغتون في رواية “قصر ويلدفيل هال” استمدَّت من حياة أخيها برانويل وهذا سبب شجبها العمل ورفض منح حقوق الاستمرار بنشره بعد وفاة آن برونتي. لكن ما غاب عن شارلوت برونتي أنَّ شخصية هنتغتون لم تكن مستمدَّة بأكلمها من برانويل فهي مزيج بين برانويل وما عايشته آن عندما عملت مربية لدى أسرة روبنسون وحياة مجتمع هذه الأسرة الفاسق والمتهتك. المترجم
المراجع:
1- Anne Brontë at 200 by Nick Holland.
2- The life of Charlotte Brontë by Elizabeth Gaskell.
3- Introduction for The tenant of Wildfell Hall by Anne Brontë.
4- The Bronte Myth by Lucasta Miller.
5- Biographical Notice by Currer Bell (Charlotte Brontë).