كتب

سيرة فرانز كافكا (1883-1924) – رونالد هايمان

بدا الأدب في حياة كافكا بديلا عن الحياة، لكنه كان أيضا بديلا عن الانتحار.  

عاشَ كافكا حياةً قصيرةً حافلةً توَّجها بالكتابة وتوَّجته بالمرض، فقضى نحبه بعد أن استوفى أيامه فيها، ودارَ بكأسه يملأه من قوارير النساء مدادًا لقلمٍ صبَّ أوجاعه وخيالاته وأحلامه في رسائله إليهن. تقول عنه ميلينا “ما يرتسم على كافكا من غرابة أطوار هو في حقيقة الأمر سمته الرئيسة. لقد رافقته نساءٌ عاديات لم يعرفن حياةً يعشنها سوى حياة النساء”. لكن عرفَ كيف يقتبسُ منهن نارًا تُبقي جذوة صدره ملتهبة. وُلدَ والد كافكا، هرمان، بعد أخته الكبرى، وكان الأكبر بين الإخوة الأربعة، في عام 1852. كانت العائلة فقيرة وتنام في حجرة واحدة، وفورما ما بلغَ العاشرة شرعَ هرمان بمساعدة والده لقواه الجسدية في كسب قوت العائلة. وفي سن الرابعة عشرة غادر المنزل ليشق دربه في الحياة وحده. انتقل هرمان إلى براغ في عام 1882، وقبل نهاية العام تزوَّج جولي لوفي. أنجب الزوجان كافكا في الثالث من تموز/ يوليو 1883، لكنه لم يتلقَ رعاية أمه التي ساعدت والده في العمل بالمتجر، وقامت على رعايته مرضعة. عاشَ الصغير كافكا منذ طفولته حياة متنقَّلة بين المساكن إذ لم تستقرْ عائلته في سكنٍ حتى تغادره إلى آخر. توفي لجولي طفلها جورج وهو رضيع، وتُوفي طفلها الآخر هينريش ولم يتجاوز الستة أشهر في عام 1887، ورأت في سبب وفاتهما بُعدها عنهما بسبب عملها مع زوجها في المتجر. لذا بقي كافكا الابن الوحيد في العائلة. تعلم كافكا الصغير التشيكية والألمانية، وكان يتحدث مع والديه التشيكيّة أكثر من الألمانية، وعيَّن أبوه بعدها فتاةً تشيكيّة لتعلمه اللغة التشيكيّة. تمثَّلتْ أكثر حادثة مؤثرة في حياة الصغير كافكا، وتركت ندبةً نفسية بالغة في حياته، في تصرف أبيه القاسي معه في إحدى الليالي، إذ استيقظ الصغير كافكا في إحدى الليالي، غير قادر على النوم، وبدأ بالبكاء يريد الماء، مخالفًا طلبَ أبيه أن يبقى صامتًا، فما كان من الأب إلا أن ذهبَ إليه وأخرجه إلى الشرفة ثم عادَ دون أن يلتفت إليه. يكتب كافكا الحادثة “بعد سنوات بقيتُ أعاني خيالا مُعذِّبا من ذلك الرجل العمليق، أبي، السلطة العليا، يأتي في آخر الليل، وبلا سبب تقريبًا، ليحملني من فراشي إلى الشرفة، ويتركني هناك كأني مخلوق بلا كيان”.

عاش كافكا في عائلة يهودية لكن ما كان للصغير أيُّ وعي إيجابي تجاه يهوديته، فلم يتعلم العبرية، وما تناهى إلى مسامعه من ألفاظ والده كانت حوشية بائدة، وما اتصلَّ بهيوديته إلا في سنوات بلوغه ونضجه. رُزقَ والداه بعد ذلك بثلاث بنات، فولدتُ أخته إيلي في عام 1889، ثم بعد سنة ولدت فالي (فاليريا)، وهي سنة التحاق كافكا بالمدرسة الابتدائية، وفي عام 1892 ولدت أوتلا الصغرى، وكافكا بسن التاسعة، لتصبح أكثرَ أخواته قربًا منه واهتماما به. وفي عام 1893 التحق بالجمنازيوم، الثانوية، التي تؤهله للالتحاق بالجامعة. شرعَ كافكا في صباه بكتابة المسرحيات وأدائها في حفلات أعياد ميلاد والديه، وهي من كتابات الصبا التي لم ينجُ منها نصٌ. وفي سنته الرابعة في الجمنازيوم قرأ لهومير وأوفيد، ومن المحتمل أنَّ بدأ التحضير لقصته “التحولات” عند قراءة تحولات أوفيد. تمتَّعَ كافكا بسلوكيات مائزة منها أنَّه كان نباتيًّا، وذلك بسبب اشمئزازه من عمل جدِّه جزارًا، وشغله اليومي في نحر البهائم وتقطيع اللحم. تفوَّقَ كافكا في دراسته الابتدائية والجمنازيوم، على عكس توقعات والده. واختار بعد تخرجه في الجمنازيوم دراسةَ الفلسفة في أول الأمر، ثم في عام 1901 التحق بالجامعة الألمانية مسجلا اسمه في فصل الكيمياء، ثم لم يعجبه الوضع هناك فحوَّل إلى القانون، التحويل الذي أرضى والده وأسعده. في الجامعة ابتدأت علاقة كافكا بماكس برود في الثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1902، وكان يصغره برود بسنة. ومما أُعجبَ به كافكا في برود كان كلَّ ما افتقر إليه من طاقة وجرأة وثقة بالنفس. ومن المفارقة أنَّ كتابة كافكا لم تلغِ برود الكاتب إلا بعد وفاته في عام 1924، إذ كان برود كاتبًا ومتحدثًا مفوَّها ومعينًا لكافكا في مشواره الأدبي في حياته وبعد وفاته. لم يكن كافكا يطلع الكثير على كتاباته رغم مزاولته لها، وممن أطلعهم على كتاباته وقصائده كان صديقه بولاك منذ أيام الجمنازيوم، ثم حلَّ محله برود الذي كان يتدارس معه ويقرأ، وبعدما وثق به أطلعه على كتابته. وكتبَ أنَّه “قرأ مع برود لأفلاطون باليونانية، بمساعدة الترجمة وقاموس أيام الدراسة، لكن غالبا بصعوبة كبيرة”. كما اقترح كافكا على برود أن يقرأا مدام بوفاري لفلوبير باللغة الفرنسية. ساعدت كافكا دراستُه في الفلسفة وعلم النفس في تحديد وعيه تجاه الأمزجة والعقول وكيف تبدو مستقلةً عيانا في حوادثها العقليّة أو الخارجيّة (السلوكية)، وفي عام 1904 استوعب نثرَه تغيُّرَ المظهر، وكان جزءًا منه بسبب تغيُّر أسلوب حياته. لم يشارك كافكا رفاقه، مثل برود وباعوم وفلكس فيلتش، كتاباته عندما كانوا يجتمعون في الجامعة ليناقشوا كتاباتهم، وكان الوحيد الذي أخفى كتاباته. ولعلَّ السؤال المطروح لماذا كان يكتب كافكا ولمن، بدون أن يعرضها على أحد أو ينشرها؟ لقد كتبَ كافكا لنفسه، وإنْ لم يكن على الشاكلة نفسها حين بدأ يسطِّر يومياته في سنوات لاحقة، لكنه أيضًا كان يكتب للناس، لا سيما النساء اللائي نظرن إليه بإهمال لم يتسامح معه. ونرى هذا النهم للكتابة للسناء قد توحَّش فكتب مثلا قرابة ربع مليون كلمة لفيليس باور.  

ما خاض كافكا حتى سن الثالثة والعشرين أيَّ مغامرات نسائية ولا علاقات جسدية، واشترك مع برود في عام 1905 بمجلة أدبيّة-فنيّة دوريّة ذات محتوى إباحيّ. كما شعرَ كافكا في حياته برعب الواقع وما استطاع التماهي معه إلا بأن يلجأ إلى الأنا الأخرى، وبفضلها تمكَّن من تأمين موضعٍ له يواجه به والده، وفي أي موضوع رغبَ بإنجازه دون أن يخوضَ غماره، وفي تقمّص حياة أناس آخرين. ورأى في الكتابة تقطيرًا لأفضل ما فيه، مثل نَفْسٍ بديلة يسعها أن تنجو بذات المرء من الخضوع للتدهور السريع، لكنه فكَّر بعباراتٍ نفسيْن، وثمة تجاذب ما بين فكرة نيتشه في الكيّ رغبةً بولوج معاناة النفس وبين صورة كافكا المتخيلة عن الآلة التي تنقش القانون على جسد الإنسان العاصي للقانون كما في كتابه “مستعمرة العقاب”.  

عملَ كافكا في عام 1906 بعد تخرجه في كلية القانون سنةً غير مدفوعة الأجر مع قضاء المدينة في براغ. ثم عملَ بعدها في شركة التأمين الإيطاليّة Assicurazioni Generali، لكن العمل ساعاتٍ طويلة يوميًا أرهقه، وسعى مع برود لإيجاد عملٍ ينتهي في الساعة الثانية ظهرًا مع صعوبة إيجاد عمل بمثل هذه المميزات. 

قضى كافكا في عام 1907 مع خاله ألفريد بعض الأسابيع في منتجع سياحي في مدينة تريش التشيكية، وتعرف هناك على فتاة يهودية شقراء اسمها هيدوِغ، وراسلها بعد عودته إلى براغ. يكتب كافكا عنها “حلمتُ الليلة بسيقانها القصيرة الممتلئة، وبكل الطرق الملتوية في النظر أدركتُ جمالها وهويتُ في غرامها”. وبعد شهرٍ كتبَ ثماني رسائل وبدأ معها أول علاقة حبٍ عن بعد كالتي ستليها مع فيليس باور وميلينا جيسينسكا. ومما سطَّره لها “ما أعقمَ أن نلتقي في الرسائل فقط، كما لو يتبلل امرآن برذاذٍ عند الشاطئ، والمحيط فاصل بينهما”. “وما قلتُ أنَّ تبللهما بالماء محسوسٌ”. انتهت علاقة كافكا بهيدوِغ، وطلبتْ منه أن يبعثَ لها كلَّ رسائلها فجمعَها وأرسلها إليها مخاطبًا إياها بضمير الجمع الثاني (خطاب رسمي).

شهدَ أوائل شهر آذار/ مارس 1908 نشرَ كافكا ثماني من قصائده القصصية، هي أولى منشوراته، بفضل صديقه برود، ونُشرت بعنوان “تأملات”. ووجدَ في تموز/ آب من العام نفسه عملًا جديدًا ينتهي في الثانية ظهرًا، وترك العمل في الشركة الإيطالية بعدها بأسبوعين. جاء في رسالة إلى الوالد، ترجمة إبراهيم وطفي، عن خطاب استقالته “وهناك عللتُ للمدير، دون أن يكون تعليلي مطابقًا للحقيقة كلَّ المطابقة، لكن دون أن يكون كاذبًا كليًا، سبب استقالتي بأنني لا أستطيع أن أتحمل الشتائم حتى لو لم تكن موجَّهة إليَّ مباشرةً، لكن كنت من هذه الناحية حساسا بنحوٍ مؤلم، وكنت قد جلبتُ هذه الحساسية معي من البيت” [شهد كافكا في طفولته تعاملَ أبيه السيئ مع العاملين التشيكيّين في متجره ويُسميهم “أعداء مدفعو الأجر”]. وبفضل صديقه القديم إوالد بريبرام حظي كافكا بوظيفه في مؤسسة ضمان الحوادث العماليّة في مملكة بوهيميا، ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية. وفي عام 1909 طُلبَ من كافكا أن يكتب مراجعة لكتاب Powderpuff: a Female breviary لصحيفة Der Neue Weg، وظهرت المقالة، وهي ثاني منشوراته الأدبية، في السادس من شباط/ فبراير عام 1909. شرع كافكا في عام 1910 بكتابة يومياته، ووجد فيها الذريعة للكتابة إلى نفسه ما لا يستطيع أن يصبه في قصصه. كانت الكتابة عند كافكا وسيلة للتحرر من القلق المتراكم في عمله، والكثير من مواد كافكا الكتابية الخام استُمِّدت من خبراته في العمل. 

تعرَّف كافكا في هذه المدة من حياته على ممثلين يدشيّين، يهود ألمانيا الإشكناز، كانوا يؤدون مسرحياتهم في حانة يذهب إليها كافكا بين الحين والآخر، ودخلَ بفضلها على هويته اليهوديّة ونظرَ نظرةً جديدة إلى التوراة والتلمود واللغة العبرية والتراث اليهودي، وجمعته صداقة طويلة الأمد بالممثل لوفي، الذي التقاه مرات كثيرة في بلاد مختلفة. كما أنَّ والده لم يعجب بلوفي ورأى فيه إنسانًا غير لائقة صحبته. وأشارَ كافكا إلى هذا الخلاف حول لوفي في رسالته إلى والده. كما كان من معاناة كافكا حياةُ العزوبية، إذ ظلَّ الزواج حلمًا يراوده، ورغبةَ تكوين أسرة وإنجاب أطفالٍ ملحة ما استطاع منها فكاكًا. ورأى أبوه أنَّه وقتما تزوَّج سيقل التزامه بالكتابة، والأدب، ويهتم أكثرَ بالعمل والمصنع الذي كان من المفترض أن يديره كافكا مع زوج أخته، واستثمر والده فيه أيضًا. أثار إهمال كافكا لإدارة المصنع مشاكلَ مع أبيه، وسعى لأن يهربَ منه، ويخرجَ من عبائته، وتمثَّلت هذه الفكرة في أحلامه بالرموز المرتبطةَ بالسجن. وفي النشر مرة ثانية كان لبرود الفضل إذ زار الناشر إرنست روفوهلت آخذًا معه عينات من كتابات كافكا ووافقَ على نشرها في كتاب. 

*

التقى كافكا بفيليس عند برود في عام 1912، وشرعا في علاقة طويلة الأمد، شهدت خطبتين ومئات الرسائل، لكنها لم تتنهِ بالزواج. إذ كانت علاقة غير مثالية من الطرفين يعيش كلٌّ منهما في بلد، كافكا في براغ وفيليس في برلين. وجدَ كافكا في فيليس امرأة تحقق غاياته، امرأة لم يرغبْ بلمسها إلا بالكلمات، وراضيةٌ بذلك منه، وشكَّل غيابها الفعليّ وحضورها الوهميّ الشريك المثالي المتواطئ في نوبات غضبه التي كان يتظاهر بها تجاه نفسه، حيث التدمير الذاتي البطيء والافتضاحيّة الأثيمة التي تركَّزت في قلمه. أعلن كافكا عن خطبته لفيليس في عيد ميلاده الثلاثين، في الثالث من تموز عام 1913. تزوج في هذه المدة برود، ووضع زواجه نهاية للعلاقة الحميميّة التي جمعتهما. يكتب كافكا “إنَّ الصديقَ المتزوج لن يستمرَّ صديقا. فكل ما تفضي به إليه يُمرره لزوجته صمتًا أو صراحة”. ساءت علاقة كافكا بفيليس فأرسلت صديقتها، غريته بلوخ، لتكون وسيطَ صلحٍ بينهما، لكن كافكا مال إليها “إنكِ -إنني على وشك أن أقول شيئًا غبيًا بفظاعة، أو لربما ما سأقوله ليس غبيًا، لكنني سأقوله- أفضلَ مخلوقةٍ وأحلاها وأغلاها”. وبدأ معها مراسلاتٍ حميميّة، وقررا أن يلتقيا في عيد الفصح لكن ما تمَّ لهما ذلك. يكتب لها كافكا “خطبتي أو زواجي لن يشكل أدنى تأثير في علاقتنا، وهي في نظري، في الأقل، مليئة بكل الاحتمالات المحببة التي لا يسعني التخلي عنها”. أنجبت غريته طفلا مجهول الأب، ويظنُّ ماكس برود أنَّ كافكا هو أبوه. وكتبت غريته في نيسان عام 1940 رسالةً إلى موسيقيّ، فولفغانغ سخوكن Wolfgang Schocken عن زيارتها لقبر كافكا “إنه والد ابني، وقد مات في السابعة من عمره على حين غرة في ميونخ عام 1921”. لا يوجد من دليلٍ جازمٍ على أبوَّة كافكا لهذا الطفل، وبقي على جهل من الموضوع. تحسَّنت علاقة كافكا بفيليس وزار عائلتها معلنًا خطوبتهما رسميًا، لكنها فُسخت بعد مرور نحو ستة أسابيع، وكتبَ إلى ذويها بذلك. 

شهدت الأشهر ما بين حزيران وكانون الأول من عام 1914، على غرار سابقتها ما بين أيلول وتشرين الثاني من عام 1912، إنتاجًا كبيرًا جدًا من كتابات كافكا. ووسمَ هذا النشاط المفرطُ نمط كافكا الكتابيّ، إذ كان يكتبُ بإفراط بضعة أشهر ثم يهوي في ركود سنتين أو ثلاث. ثم استئنف التراسل ما بين كافكا وفيليس، وقررا الزواج بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، والسكنى في برلين وبدأا البحث عن شقة في برلين من غرفتين أو ثلاث، وكانت فيليس تطمح أن تكون مستقلةً ماديًا. كما أنَّ الزواج وتكوين أسرة وإنجاب أطفال مثَّل هاجسًا لكافكا، لكنه أيضًا جعل الزواجَ في معادلة أحدُ طرفيها السجن. زارت فيليس براغ مرة ثانية وخُطبًا مجددًا. 

في آب 1917 بانت أولى أمارات إصابة كافكا بالسل في رئتيه، وبصقَ دمًا في إحدى الليالي. كان هذا المرض كافيًا لكافكا ليفسخَ خطبته للمرةً الثانية. ما أعلمَ كافكا بخبر مرضه عدا أخته أوتلا، التي ما أبقت الأمرَ سرًا عن أبويها، وأخبرتهما بمرضه وسرِّ فسخ خطبته بعد أشهرٍ. بدأت مع السل سلسلة من الإجازات عن العمل، والمكوث مددًا طويلة بعيدًا عن بيئة العمل في المؤسسة، وقضاؤها في مصحَّاتٍ استشفائية أو منتجعات. كما أصيبُ كافكا بالأنفلونزا الإسبانيّة في تشرين الأول عام 1918، وبقي طريح الفراش نحو أربعة أسابيع قبل أن يتماثلَ للشفاء، وشهدَ أيضًا انهيار الإمبراطوريّة النمساويّة المجريّة. تعرف كافكا في بداية عام 1919 على فتاة شابة، تبلغ من العمر سبعة وعشرين عاما، اسمها جولي فوهريزك، كانت تقيم معه في الفندق، حيث كان يستجمُّ في مدينة سخيلسن، غربي ألمانيا. يكتبُ كافكا عن أول لقاءاته مع جولي، وقد اقتصرت على الضحك فقط. “مرَّت أيامٌ عديدة لازمنا الضحكُ باستمرارنا في كلِّ مرةٍ نتقابل -عند وجبات الطعام، والخروج للمشي، أو الجلوس مواجهيْنِ بعضًا. ما كان الضحكُ مقبولًا حقًا، لأنه ما من سبب وجيه له. لقد كان مؤلمًا ومُحرجًا”. شرعَ بعدها بعلاقة مع جولي، وتراسلا، وفي صيفِ ذاك العام أعلمَ كافكا والدَه أنَّ جولي وافقتْ على خطبته إياها والزواج. أنكرَ والده عليه هذا وقال “أحسبُ أنها رفعت لك أحد رُدني بلوزتها. إنَّ اليهوديّة البراغيّة ضليعة من هذه الأفعال، وبالطبع فأنت لم تدَّخرْ جهدًا وحزمت أمرك على زواجها، وبأسرع وقت ممكن، في أسبوع إن استطعت أو حتى غدًا. إنني لا أفهمكَ حقًا. لمن المفترضِ أنَّك رجلٌ ناضجٌ تعيشُ في المدينة، ومع ذلك لا يمكنك أن تفعلَ خيرًا من زواجِ فتاةٍ تمنحُ نفسها لأي رجل. أما من نساءٍ أُخَر؟ وإذا ما كنتَ خائفًا من إنهاء أمركِ معها فإنني على أهبةٍ لفعلِ ذلك”. مضى كافكا قُدما في أمرِ زواجه جولي، واختارا شقة في براغ، وقبل يومين من موعد الزواج المجعول خسرا الشقّة المقرر العيش فيها، وقرر كافكا ألا يتزوجا لأن ما من مكانٍ ليعيشا فيه. ما كانت خسارةُ الشقة طيرةً يُخشى منها في زواجه، أو توبيخًا لافتراضاته السابقة بأنه مؤهل لولوجِ الحياة الزوجيّة، وتبدو مقترنة أكثرَ بمرضه، وقد رحَّب بها على خفيةٍ. يكتب كافكا في رسالة إلى الوالد، ترجمة إبراهيم وطفي، “لماذا لم أتزوج إذًا؟ كان ثمة عوائق مفردة مثل هو الحال في كل مكان، لكن الحياة تتألف من قبول مثل هذه العوائق. غير أن العائق الجوهري المستقل مع الأسف عن الحالة المفردة كان أنني على ما يبدو غير قادرٍ، عقليا، على الزواج. ويعبر هذا عن نفسه بأنني منذ اللحظة التي أعزم فيها على الزواج لا أعود أستطيع النوم، ويروح رأسي يتوهج ليلا ونهارا، إنها ليس حياةً بعد الآن، وأروح أتمايل يأسًا. وليست الهموم التي تسبب هذا في الحقيقة، صحيح أن ثمة أيضًا هموما كثيرة تبعًا لبطئي وحذري ودقتي، لكنها ليست كل شيء، صحيح أن هذه الهموم تكمّل، مثل الديدان، العملَ في الجثَّة، لكنني أصبت إصابة حاسمة من شيء آخر، إنه الضغط العام الناتج عن القلق والضعف واحتقار الذات”.

*  

نُشرتْ قصة كافكا الوقَّاد في تشرين الأول عام 1919، وأهدى كافكا نسخةً منها لوالده الذي أجابه “ضعها على الطاولة بجانب السرير”. وفي أواخر الشهر تسلَّم كافكا رسالة من ناشره يعلمه عن كاتبةٍ شابةٍ، اسمها ميلينا جيسينسكا، ترغبُ بترجمة بعضَ أعماله إلى التشيكية. التقى كافكا بميلينا برهةً من الزمن في براغ داخلَ مقهى من العام نفسه، وقد كانت امرأة متزوجة رجلًا نمساويًّا، اسمه إرنست بولاك، ويعيشان في فيينا. لكن هذا ما كان مانعًا لكافكا ولا ميلينا من الكتابة لبعضٍ والتراسل. ‏لميلينا حياة مضطربة، إذ كانت تسرق من ذهب أبيها وتعطيه عشاقها، وما كان من ابيها إلا وضعها في مصحة. وبعد خروجها من المصحة تزوجت بولاك وذهبت للعيش معه في فيينا. كان بولاك رجلا عضوا في دائرة الفلسفة الوضعية الجديدة في فيينا، وما أخفى عن ميلينا خياناته الزوجية، ولا أدخلها دوائره الاجتماعية. وشعرت أنها غير محبوبة ومعزولة، وتعاطت أحيانا الكوكايين. ولحاجتها إلى المال عملت في الصحافة. تشير رسائل كافكا إلى أنه كان يرسل إليها مالا أحيانا. لكنها في الوقت نفسه بقيت محبة لزوجها كما استشفّ كافكا من رسائلها، ويرى بعضهم أن هذا سبب فراقهما. ومما أخبرت ميلينا كافكا أنها كانت تستمتع كثيرا بتلميع حذاء زوجها. لم يُخبِّئ كافكا أمرَ ميلينا عن جولي، وصارحها به. ما تفوّهت جولي بأي كلمةٍ حانقة، لكنها استشاطت غضبًا، ووعدها كافكا أن يلتقيها بعد أسبوع. كانت جولي في اللقاء التالي هادئة، وحين أثيرَ الموضوعُ بدأت بالارتعاش الشديد، وما وسعَ كفاكا سوى أن يقول سيكون معكِ كلُّ شيء سوى هذا، وإذا لم يتغيّر الحال من تلقاء ذاته سيختفي ويصير عدما. أجابته جولي لا يسعني تركك، لكن إذا ما أبعدتني عنك سأبتعد. وحين سألها كافكا الابتعاد أجابته أنها لا تستطيع ذلك. بدأت تُجادل بعدها، وتقول إن ميلينا تحب زوجها، وأهانت ميلينا وطلبت من كافكا أن يُريها رسائلها لكنه رفض. ثم طلبتْ منه أن تكتب لها، وحين وافقَ هدأت وسكت عنها الغضب. 

تصفُ ميلينا كافكا “ما يرتسم على كافكا من غرابة أطوار هو في حقيقة الأمر سمته الرئيسة. لقد رافقته نساءٌ عاديات لم يعرفن حياةً يعشنها سوى حياة النساء. وإني لأختارُ أن أومن بأننا جميعا -الدنيا بأسرها، كلُّ الناس- سِقامٌ وهو الإنسان الوحيد السليم الذي يُدركُ العالمَ ويشعرُ به على النحو الصحيح، الإنسان النقيّ الوحيد. يعرفُ كافكا العالمَ عشرةَ آلافِ ضعفِ ما يعرفه أيٌّ منا. لقلقه أساسُه الراسخ، وهو مؤمنٌ على الدوام بأنه امرؤ مذنب وضعيف. لكن ما من أحدٍ في هذه الدنيا يملكُ طاقته المهولة، وعزيمته، وسعيه غيرَ المشروط إلى الكمال، والنقاء، والحقيقة”.

اشتدَّ على كافكا المرض، وفي كانون الثاني عام 1922 اقتربَ من انهيار تام. يكتبُ واصفا حاله “يبدو أنَّها النهاية، من المتعذَّرِ النوم، أو البقاء يقظا، أو التعاطي مع الحياة، أو استمراريتها. تتعارضُ عقارب الساعة، فالمؤشر الداخلي ينطلقُ بسرعة شيطانية أو ملعونة أو أي حالٍ غير بشرية، والخارجيّ منكفئٌ على سرعته المعتادة. ما الذي يُمكن أن يحدث ما لم ينفلقُ هذين العالمين المتباينين أو يتداعيان مُدمرين نفسيهما بهلع؟”. بعدَ أشهرٍ من العام نفسه، وفي السابع من حزيران، قدَّم كافكا بطلبِ تقاعدٍ من الوظيفة، وحظي على تقاعد مؤقت في الفاتح من تموز بعد أربع عشرة سنة قضاها في المؤسسة التي انخرطَ فيها مُساعدًا. ارتحل كافكا إلى موريتز، شمالي شرق ألمانيا، في رحلة استجمامية واستشفائية، والتقى هناك دورا ديامانت، التي صارت آخر حبٍ في حياته، ومن بقيت معه حتى موته. اعتنت دورا به بإخلاص وحبٍ حتى أكثر من أخته أوتلا، وتمثَّلت له، وهي اليهودية الشرقيّة، الحصانة من الفساد الماديّ للغرب. عاشَ كافكا معه أواخرَ حياته بسعادة رافضًا كلَّ ما عمل والداه عليه بجدٍ. انتقلَ معها إلى برلين، وقصدا أن تكونَ مرحلة فاصلة من الهجرةِ إلى فلسطين، ولم يكن من السهلِ العيش في برلين بسبب التضخم الذي ضربَ البلاد بعد نهاية الحرب العالمية. وفي أحد متنزهات برلين يُذكرُ أنه التقى بطفلةٍ تبكي، ولما سألها عن سبب بكائها أجابته بأنها أضاعت دميتها. طيّب كافكا خاطرها وقال لها إن الدمية التقت به وأخبرته أنه ستكتب لها. كتب كافكا بعد أسابيع رسائل للطفلة على لسان الدمية تخبرها بمغامراتها. هذه القصة المشهورة، والتي ألهمت كتّابا بكتابة قصص، وذكرها ماكس برود، ليس عليها أي دليل حقيقي، وصحتها مشكوك بها، ومصدرها دورا التي روتها لبرود، وتبقى قصة غير موثوق من صحتها ولا توجد أي من رسائل كافكا المكتوبة المزعومة. 

سافر كافكا في نيسان من عام 1924 إلى منتجع في فينير فالد، جنوبي غرب فيينا، ورافقته دورا في الرحلة ومكثت معه. وتأكَّد للأطباء هناك إصابته بسل الحنجرة، وبسبب تكاليف العلاج الباهضة اقترحَ كافكا نشر ثلاث من قصصه في مجموعة واحدة لكسب بعض المال لسد حاجته من تكاليف العلاج، وهذه القصص هي “فنان جوع، وامرأة صغيرة، الحزن الأول”. وبفضلِ برود نُشرت قصته “فنان جوع” في الملحق الأدبي لصحيفة Prager Presse. حوِّل كافكا في أواخرِ نيسان إلى مصحة في كلوستيرنيبورغ، شمالي فيينا. أخبرَ الطبيبُ هناكَ كافكا في منتصف أيار بأن حنجرته تتماثلُ للشفاء، الخبرُ الذي أسعدَ كافكا أيما أسعاد. لكنَّ صحته لم تتحسَّن كثيرًا، وفي فجرِ الثالث من حزيران ساءَ تنفسه جدًا، وما نفعه إسعاف الطبيب ليقضي نحبه بعد حياة قصيرة مليئة بالاضطراب والقلق والمرض والكتابة. نُقلَ جثمان كافكا إلى براغ، ودفن في الحادي عشر من حزيران عام 1924 في المقبرة اليهودية في ستراشنتز Straschnitz. ألقى في الجنازة برود تأبينًا، وحضرت دورا الدفنَ وألقت بنفسها باكيةً فوق قبره. يروي أحد الحضور “لقد أُغمي عليها، وما حرَّك أحد ساكنًا، على العكس فقد أدار والد كافكا ظهره، الأمر الذي حثَّ الناحئين على التحرُّك. لا أذكر من الذي قدَّم لها يد المساعدة حين تهاوت، وما زلت أشعرُ بالخزي لأنني لم أساعد تلك الفتاة الأسيّة”. أعلنَ والداه في الصحيفة أنهما لا يرغبان بتلقّي أيّ زياراتِ تعزية. تُوفي والده في عام 1931، ووالدته في عام 1934، ودُفنا في القبرِ نفسه. 

*

مرت الكتابة عند كافكا بمراحل متعددة، وتغيرت علاقته معها ونظرته لها ووظيفتها في حياته. بتتبع علاقة كافكا مع الكتابة في سيرة حياته لرونالد هايمان، يمكن ملاحظة تمثلات الكتابة عند كافكا. مبدأيا بدا الأدب لكافكا أنه بديل عن الحياة، لكنه كان أيضا بديلا عن الانتحار أيضا، الذي راوده كثيرا. وشعرَ كافكا في حياته برعب الواقع وما استطاع التماهي معه إلا بأن يلجأ إلى الأنا الأخرى، وبفضلها تمكَّن من تأمين موضعٍ له يواجه به والده، وفي أي موضوع رغبَ بإنجازه دون أن يخوضَ غماره، وفي تقمّص حياة أناس آخرين. ورأى في الكتابة تقطيرًا لأفضل ما فيه، مثل نَفْسٍ بديلة يسعها أن تنجو بذات المرء من الخضوع للتدهور السريع، لكنه فكَّر بعباراتٍ نفسيْن، وثمة تجاذب ما بين فكرة نيتشه في الكيّ رغبةً بولوج معاناة النفس وبين صورة كافكا المتخيلة عن الآلة التي تنقش القانون على جسد الإنسان العاصي للقانون. مارس كافكا الكتابة منذ الصغر لكنه لم يعرضها على الآخرين، أو يناقشها مع أصحابه في الجامعة (1901-1905). ولعلَّ السؤال المطروح لماذا كان يكتب كافكا ولمن بدون أن يعرضها على أحد أو ينشرها؟ لقد كتبَ كافكا لنفسه، وإنْ لم يكن على الشاكلة نفسها حين بدأ يسطِّر يومياته في سنوات لاحقة، لكنه أيضًا كان يكتب للناس، لا سيما النساء اللائي نظرن إليه بإهمال لم يتسامح معه. وعندما بدأ العمل 1908 في مؤسسة ضمان الحوادث العمالية صارت الكتابة لكافكا وسيلة للتحرر من القلق المتراكم في عمله، والكثير من مواد كافكا الكتابية الخام استُمِّدت من خبراته في العمل. في حين بدأ كافكا في عام 1910 بكتابة يومياته، ووجد فيها الذريعة في الكتابة لنفسه ما لا يستطيع أن يصبه في قصصه. ثم تدهورت لاحقا نظرته للكتابة، يكتب في 1917: “لا تعني هذه الكتابات أي شيء لي، ولا أحترمها في سوى لحظات كتابتي لها”. ثم رآها وسيلة عام 1920 “كانت الكتابة وسيلة لا غير، كما يكتب امرؤ وصيته قبل أن يشنق نفسه. وسيلة قد تمتد العمر كله”. وفي 1922 كتب “إن خربشاتي ليست سوى تجسيدٍ لفزعي. ولا يجب أن تطبع أبدا، لا بد تحرق”. أراد حرق كل كتاباته ليحرر نفسه من أشباح روحه، الأشباح التي تساءل “إذا ما كنت قد استطعتُ الهرب منها”. ثم كتبَ في تشرين الأول عام 1922 رسالةً إلى برود يطلبُ فيها حرق وإتلاف كلِّ كتاباته ما عدا قصة الحكم، الوقّاد، التحول، مستعمرة العقاب، طبيب ريفي، فنان الجوع، تأملات. (مع رغبته بعدم إعادة نشرها). أما بقية أعماله من مخطوطات ويوميات ورسائل وقصص منشورة فرغب من صديقه أن يحرقها. في المقابل أحرقت دورا بعضا من مخطوطات كافكا وكتاباته غير المنشورة في برلين بطلب منه وتحت أنظاره. غني عن التذكير بأن برود لم ينفذ وصية صاحبه، ونشر أعماله بعد موته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى