يفتتح ويليك النصف الثاني من موسوعته الأدبية التي نهج فيها نهجًا مغايرا عن الكتب الأربعة الأولى من جانبين، الأول هو في دراسته نقد كل بلد على حدة، فهذا الكتاب هو مخصص لأعلام النقد الإنجليزي في النصف الأول من القرن العشرين، وكذا الحال مع الكتاب السادس مع النقد الأمريكي، وهكذا تواليا كما أشرت في مراجعاتي السابقة، والجانب الثاني في توزيعه الأعلام النقدية ضمن حركاتهم التي اشتهروا بها، فالكتاب مقسم إلى الحركة الرمزية وأعلامها وأبرزهم ييتس، والنقد الأدبي الأكاديمي الإنجليزي وهو دراسة عن بدايات النقد الأكاديمي المؤسساتي الإنجليزي، والحركة الرومانسية الجديدة وعلى رأسها الروائي د. هـ. لورانس، وجماعة بلومزبري ومن بينهم الروائية فرجينيا وولف، والمبتكرون وعلى رأسهم إزرا باوند، وينهيه بدراسات عن نقّاد متفردين بنظرياتهم الأدبية ودراستهم النقدية وأبرزهم ت. س. إليوت. أما فيما يخص تناوله لهؤلاء النقاد واستعراض آرائهم وتعليقاتهم ونظرياتهم النقدية فلم يتغير عن أسلوبه السابق، لكن الفصول والنقّاد يبدون أكثر ترابطا وتواصلا، وهو ما يمنح نوع من التتابعية والتسلسلية التي تمنح فهمًا أفضلَ في العرض النقدي عكس الكتب السابقة.
إنَّ النقد الإنجليزي في النصف الثاني من القرن العشرين بأعلامه الذين كان أكثرهم من الشعراء المعروض في الكتاب- يجعل من الكتاب مرجعا توثيقيا وتأكيديا لهذا الناقد أو ذلك يستفيد منه الدارس أو الباحث الأكاديمي من نقاط معينة أو من الدراسة كلية مصدرا ينوه به أو يعود إليه عند الحاجة. وبعد قراءة خمسة كتب من هذه الموسوعة بت متيقنًا من رأيي بأن هذه الدراسة ولا سيما في الكتب الثالثة والرابعة وصاعدا هي دراسات أكاديمية مرجعية وليست بالمؤلفات التي ينتفع منها القارئ العادي أو غير المتخصص، فهي مكتوبة لطبقة خاصة من القراء، الأمر الذي يجعل منها ذات قيمة معرفية ونقدية لكن ليست للجميع أو حتى لمن هو غير متخصص أو الدارس الأكاديمي. في تقديمه لهذا الكتاب، أجاب ويليك عن تساؤلات أو ملاحظات كنت قد أشرت إليها عن الكتب الأربعة الأولى، وبعضها يطرحها ويليك يفسر فيها محتوى كتبه أو المنهاج الذي اتبعه، فمثلا عن دراسته النقاد لا الحركات الأدبية يقول: “وتجميع النقاد ينبع من قناعتي بأن التيارات الفردية التي تأخذ المبادرة وليس التيارات الجمعية- هي التي تهم النقد، ولا يجب أن يُنظر للنقاد إطلاقا على أنهم مجرد ’حالات‘. إن تصوير النقاد والصور الجانبية العقلية لهم، والإحساس بالتيارات والظروف المختلفة تشكل معًا التاريخ”. ويقول أيضا في هذا الباب في موضع آخر: “وهناك نقطة يجب تأكيدها: إنني أركز تركيزا حادا على النقد الأدبي لشخوص ولا أناقش -ولا أستطيع أن أناقش- عملهم الكلي، وأبيّن أهميتهم في تاريخ الشعر أو الكتابة الروائية والفلسفة، فالكتاب سيصبح مرهقا إذا اهتممت بشعر ييتس، وبوند، وإليوت وروايات فرجينيا وولف، ود. هـ. لورانس، إلخ”. أما فيما يخص الترتيب فيقول مكملا حديثه السابق: “لكن الترتيب لا يمكن أن يكون جدليا أو تطوريا بالمعنى الدقيق، فكلما درست موقف عصر بعينه تجنبت الشعارات والتعميمات السهلة. وإنني أثق أنه في تخطيط المجال أستطيع أن أدلي ببيان عن مجاله واتساعه على غرار ما يفعله ماسح الأراضي باستخدام حساب المثلثات… إنني وأنا أنظم هذه المجلدات كان لدي في عقلي تعاقب الوقائع المتاحة المؤكدة، وهناك تاريخ للأحداث متميز تماما عن تاريخ الأفكار. إن النقاد يولدون ويموتون في سنوات معينة، والكتب والمقالات تنشر في تواريخ محددة، لكن محاولة ترتيبها سرعان ما يكتشف المرء أن فكرة تتابع خالص للنقاد والتيارات النقدية أبعد ما تكون عن الوضوح…
إن الترتيب التعاقبي لهذه الكتب هو ترتيب تقريبي ويتحدد على نحو فج بتتابع الكتب الرئيسة، ولكن تحديد الكتب أو الأقوال الرئيسة يتم وفق اختيار يتحدد بطريقة “بعدية” بعد وقوعها”. وينهي المدخل لكتابه هذا بقوله: إن العالم سيكون أكثر فقرا بشكل لا يمكن تصوره بدون الأدب، والأدب -بدوره- يحتاج إلى فهم، يحتاج إلى غربلة وإصدار حكم من جانب النقد.