ثلاثية غرناطة – رضوى عاشور

يكاد لا يختلف اثنان على أن الرواية التاريخية هي أصعب الروايات التي تتناولها أقلام الكُتّاب، فهي محفوفة بالمخاطر لا يتجرأ على الكتابة فيها إلا القلة. تتجلى صعوبة الرواية التاريخية في أن الكاتب مطالب أن يقرأ المادة التاريخية ويتشبع بها فيكون جزءًا من عالم آخر لم تكن له اليد الطولى فيه، على العكس من باقي المجالات فرغم صعوبة العمل الروائي فإن للراوي اليد العليا بإبداع الأحداث والشخصيات والأفكار وأماكن وقوع الحدث وزمانه. كل هذه العوامل عدا الشخصيات يجد المغامر في كتابة الرواية التاريخية نفسه مجردا منها، فهو محاط بأحداث معينة وزمان ومكان معينين، فبدل أن يجعل شخصياته تلج عالمه، يكون هو مطالبا بالدخول لروايته قبل شخصياته، حذرًا أشد الحذر من زلة قدم تودي به وبعمله إلى مسالك السؤال والفحص والنقد والكذب والتدليس. والآمر الآخر الذي يجب القيام به هو استنطاق كتب التاريخ، فعملية قراءة كتب التاريخ التي تؤلف مادته ليست كافية، فمهمته أيضا في سؤال كيف يُجلس التاريخ إلى طاولته، ويبدأ بمساءلته واستنطاقه، وأخذ الجواب الصحيح من بين عدة أجوبة إذا كانت المرحلة تلك يلفها الغموض، وتشوبها التضاربات وقلة الأخبار المؤرخين وندرة الشواهد، وهنا بالضبط تكمن مهمة الروائي حين يجمع خيوط كثيرة لتكتمل الصورة أمامه ليعيد تشكيلها بأسلوب أدبي روائي يوضح لنا ما التهمته الظلمة في بطون كتب التاريخ العملاقة، فيخرج الروائي بعباءة المؤرخ مرتديا تحتها قميص الروائي الذي يحاول جهد إمكانه إبقاءه بعيدًا عن بصيرة القُرّاء، فمهتمه ذات خلفية تاريخية بواجهة رواية أدبية.
قبل الشروع في قراءة رواية تاريخية يجب أن نرفع القبعة للكاتب الذي ضحّى بالكثير لأجل أن يغامر ويسافر إلى الماضي ويغوص باحثًا عن الصحيح ليُشبعَ النهم الذي يضطرم في نفوس الناس ويروي ظمأهم للحقيقة. كثيرٌ من المؤرخين يوردون مادتهم التاريخية بأسلوب يبعد كثيرا عن شاعرية الكتابة، التي قد يحتاج إليها القارئ أحيانا، ونعذر المؤرخين فهم لا ينقلون قصة أو حكاية بل تاريخا قد واجه بعضهم الصعوبة في ترصد الخبر ونقله، وواجه البعض ندرة الخبر كما في أحداث معركة بلاط الشهداء التي تجنب الكثير الخوض فيها وذكر تفاصيلها مكتفين بنقل هزيمة المسلمين وانكسارهم فيها، ويعلل البعض ربما كانت الواقعة مؤلمة جدا –ولا نشك في هذا– فحاولوا تجنبها وتجنب تذكر مرارة الهزيمة والألم الذي ألمَّ بهم بعدها فكتبوا عنها أخبارًا قليلة تكاد تعد على أصابع اليد. وكذلك يواجه المؤرخون والباحثون عن الحقيقة هذه الندرة وقلة الأخبار حول ما حدث لمسلمي غرناطة بعد سقوط مملكة غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس سنة 897هـ في القرن الخامس عشر ميلادي على يدي الملكين فرناندو الخامس وإيزابيلا، وما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وتضييق وتهجير وتقتيل واستعباد.
رُزقت رضوى عاشور –رحمها الله– الشجاعة للكتابة عن تلك المرحلة المأساوية قليلة الأخبار، لا لتكتب كتاب تاريخ، ولو تصفحنا كتب التاريخ عن الأندلس سنجد أن بعد سقوط الأندلس الكلام يقل جدًا عن أحوال المسلمين، ذاكرين فقط نقض بنود اتفاقية الملكين والسياسة القمعية التي تعرض لها المسلمون. يذكر الكاتب الإسباني آنخيل جونزالز فالنسيا إن الحضارة الإنسانية فقدت الكثير من الموروث العربي الإسلامي الأدبي والعلمي بعد أن حُرق أغلب ما كتبوا وما تبقى لنا هو بعض الكتب العربية أو تلك المترجمة لللاتينية أو العبرية، رضوى لم تتراجع بل اتسمت بشجاعة فائقة لتكتب رواية!
ثلاثية غرناطة
هذه الرواية مؤلفة من ثلاث روايات، الأولى هي غرناطة ونشرت في عام 1994. والرواية حائزة على جائزة أفضل كتب في مجال الرواية لعام 1994 من معرض القاهرة الدولي للكتاب.
1– غرناطة
تدور أحداث الرواية حول السنين التي تلت سقوط مملكة غرناطة، وردة فعل أهالي غرناطة –حي البيازين- بعد السقوط وحياتهم في ظل القشتاليين، لتنقل بصورة وكلمات حية حياتهم ومعاناتهم والتغيير الاجتماعي الذي طرأ عليهم سواء على مستوى الديني أو مستوى التعليم أو اللغة أو الملبس.
سعد ونعيم وحسن وسليمة ومريمة، أكثر الشخصيات حضورًا في الرواية، يمثّل كل منهم جانبا من أهالي غرناطة فحسن صاحب الأسرة الذي يحاول أن يحمي أسرته من ظلم القشتاليين بشتى الطرق، وسعد يمثل الجانب الذي رفض الرضوخ للقتشاليين واختار حياة الجهاد والمقاومة، ونعيم يمثل جانب مختلفًا عنهما نوعا ما فكونه عزبا لم يعر الأسرة ذاك الشأن الذي من أجله قد يغير حياته لا سيما بعد أن فقد الأمل بالزواج مع تقدم سنه، فعمل لدى قس مساعدًا وخادما له، وتختار سليمة طريقًا أراده لها جدها بين الكتب رغم ما تحفه حيازة الكتب من مخاطر، وتعمل كذلك في الصيدلة وتحضير بعض الأدوية التي تتعلمها من الكتب، أما مريم فهي تمثل دورة الزوجة التي تهتم بعائلتها وشؤون منزلها مع ما تتمتع به من رجاحة عقل وذكاء.
ليست الرواية موضحة وناقلة لحقبة زمانية معينة، بل كذلك تبيّن للقارئ وتعرفه على عادات أهل غرناطة في أوقات أفراحهم (كالأعراس أو حين يُرزقون بذرية) وأتراحهم (كالمآتم)، والمطبخ العربي الغرناطي بأكلاته المتنوعة، والأسواق والطرق والحمامات، تنقل حياة غرناطة بكل مجالاتها في الصفحات، لتعطي القارئ ذلك البعد الثالث بجغرافية المكان وحضور الزمان وتجسّد التاريخ ليعيش القارئ بربوعه دون الشعور بغربته بين الصفحات. تمتاز رضوى عاشور بأسلوب سلس جدا بعيد عن التكلف أو الغوص في سرد ممل لا يجني القارئ منه أي ثمرة، الرواية كأنها كُتبت بسطر واحد، تناسق وانسجام لا يكل القارئ منها، كلماتٌ حية، متناغمة مع الحدث المروي، كل شيء في هذه الرواية يُبهر.
النقطة الوحيدة التي أرى رضوى لم توفق فيها هو مستهل الرواية الذي كان من الأفضل مع هكذا عمل أدبي تاريخي يكون أكثر تناغما مع جسد روايتها العذب.
2– مريمة
تُكمل رضوى في رواية مريمة الحديث عن المورسكيين في النصف الثاني من القرن العاشر في غرناطة، والعلاقة بين جيل المورسكيين الأول الذي تمثل بمريمة وزوجها حسن الذي عاصروا وشهدوا سقوط غرناطة والجيل الثالث من المورسكيين الذي تمثل بحفيدها علي. تسير أحداث الرواية بنسق منتظم لم يعكر صفوها حضور نعيم، ولا حتى الموت الذي أخذ شخصياتٍ من حياة مريمة وعلي. تمثل العلاقة بين الجيل الأول والثالث التفاعل الوجداني والحياتي للرواية والرغبة والعمل على نقل الموروث العربي للأبناء والأحفاد، وهذا ما يثبته بعض الآثار العربية للمورسكيين الذين كتبوا الكلمات القشتالية بحروف عربية في قصائدهم وكتاباتهم من أجل الحفاظ على الهوية بأقصى إمكانيات ممكنة مع مراعاة التشديد القشتالي المفروض عليهم الذي أجبرهم على الرحيل في آخر المطاف. تبرز رضوى هنا ما يشد الغرناطيين نحو وطنهم والعلاقة بين الأرض وساكنيها، وهذا الرابط الذي يمتلكه كل إنسان نحو بلده والمكان الذي نشأ فيه، حتى يصل لدرجة تفضيل الموت على الانتقال، وهذا ما أوضحته رضوى، ونرى الاتصال الوثيق ما بين الرحيل الغرناطي والرحيل الفلسطيني، فلذلك يكون وصف الرحيل والشعور أقرب لذهنية الكاتب ومشاعر القارئ حيث إن الحدث لا يبدو غريبا عليه. وبما إن الترحيلَ لم يشمل المورسكيين جميعا، فقد قُسموا إلى قسمين، كُتب على بعضهم الجلاء، ونال الآخر حق البقاء، نظرا لضرورة وجودهم الاقتصادية وفائدتهم الحرفية وحاجة المجتمع القشتالي إليهم. بقي من بقي ورحل من رحل، لكن بقيت في غرناطة دماء عربية حتى اليوم.
3– الرحيل
كانت نهاية الثلاثية في رواية الرحيل، ببطلها حسن، وحياته في قرية الجعفرية، حسن الذي اضطر للرحيل من غرناطة وجد نفسه غريبا في هذه القرية يتشارك الناس حياتها، والعمل في بساتينها ويأكل خيرها. تدور الرواية تدور في المقام الأول حول حياة المورسكيين في ظل الإقطاع القشتالي، وهذا هو النظام الذي طال أوروبا جمعاء ولم يسلم منه المورسكيون، ومعاناتهم في ظل حياة أشبه بحياة العبودية. تمضي الرواية على خطٍ شبه مستقر سردًا وأحداثا، وحتى الحوادث العارضة والجديدة تندمج في ذات المستوى الرتيب من السرد، لتنتهي حياة المورسكيين بقرار الترحيل الإجباري نحو عدوة المغرب. إن ما تعرض له العرب والمسلمون في الأندلس بعد سقوط غرناطة، آخر ممالك المسلمين في الأندلس، وما لحقتهم من أحداث، اعتمد فيها القشتاليون على سياسة التغيير الديموغرافي للأرض، لذلك كانت النتيجة مأساوية على الأندلسيين فرغم بقاء العرب فيها ثمانية قرون لم يتبقَ منهم إلا أعدادا قليلة جدا حتى اليوم. عملت رضوى على تحضير حدث الرحيل وتهيئته بذات الإيقاع الذي نظمت فيه سردها، حتى أتى وكأنه تحصيل حاصل، وخطوة هي نتيجة لتلك الحياة، فلم تكن النهاية، رغم قساوتها، مُثيرة لأشجان القارئ.
ثلاثية رضوى والعلاقات الزوجية الفاشلة
ما يُلاحظ على رضوى أن العلاقات الزوجية لأبطالها فاشلة، فعانوا ما بين سوء الزوجة أو الزوج أو بقاء بطلها عزبا يحلم بظل امرأة يستقر في أحنائها، فأبو جعفر الورّاق علاقته مبهمة مع زوجته، ولم تكن أي ملامح يُمكن للقارئ منها أن يتصوّر العلاقة بينهما، وأما سعد وسليمة فعلاقتهما لم تنجح رغم وجود الحب وتنتهي بهجر سليمة ذات الطباع السيئة تجاه زوجها إلى الجبل والالتحاق بمقاتليه، وحسن ومريمة علاقتهما ذات وتيرة متباينة ما بين الهدوء والشجار، وكذلك أبقتها علاقة بعيدة كل البعد عن الحياة الزوجية السعيدة، حتى وفاة حسن ليس له ذاك الأثر في حياة مريمة، ونعيم الذي يبقى يحلم بزوجة يلتقي بعد زمن طويل فتاةً يحبها، ويعلم القارئ في صفحات الثلاثية اللاحقة ارتباطه بها حين يُذكر أن زوجته ماتت دون ذكر لمستوى أو نوع العلاقة بينهما. وفي الجيل الثاني من المورسكيين، هشام ابن حسن رغم غيابه إلا في شذرات فهو يشبه زوج عمته سعد، فيرحل تاركا زوجته وابنه ليلتحق بالجبل ومقاتليه وتختفي أخباره نهائيا، ولا يوجد أي ذكر لعلاقته مع زوجته عائشة التي تموت دون أن يكون لها وزن في الرواية. والجيل الثالث الذي تمثل بعلي، فهو لا يفرق كثيرا عن نعيم، يحلم بامرأة يتزوجها ويقع في عاطفة مشبوهة تجاه طفلة، أو يطفئ نار شهوته مع مومس، ويبقى حتى النهاية عزبا بلا امرأة. حتى ما يُذكر عَرَضا من علاقات زوجية بين الفلاحين الذين سكنوا قرية الجعفرية، كانت حول تعرض الزوجات للضرب! فما الذي أرادته رضوى من هذه السوداوية في نسج قدر أبطالها وجعله تعيسا في حياتهم الزوجية أهي رسالة أن لا حياة زوجية سعيدة، أم حنق كان يعتلج في نفسها ضد الرجال فجعلت حياتهم منكَّدة؟!