كتب

كيف هدمت الخلافة – عبد القديم زلّوم

لم يمر على أمة الإسلام خيرٌ قط منذ أن أزيلت الخلافة نظاما وحكما وتشريعا وتنفيذا في بواكير القرن العشرين، إذ تضافرت عوامل كثيرة ما بين داخلية وخارجية، انتهت بإزالتها ومحاربة أي جهود أو محاولات لإعادتها، وهذا بلا شك أصل الشرور والمشاكل التي نمر بها والتي فاقمتها الحكومات الاستبدادية الحاكمة للمنطقة العربية والمدعومة من الغرب (إنجلترا وفرنسا وحلفاؤهما قديما، وأمريكا في الوقت الحالي). فلا يجهل امرؤ أو يغفل عن دور كل هؤلاء في إركاع الأمة الإسلامية وما نعيشه اليوم أكبر دليل من تسلط أمريكا ونفوذ إيران وتمدد الصهاينة وموجات التطبيع المجتاحة للبلاد رغم كل رفض وصد، إضافة فإن الجميع متحدٌ في سعيه لمنع أي إعادة هذا النظام إلى الحياة وقتله في النفوس لأن وجوده يعني خلخلة سطوة النظام الدولي وقضَّ مضجعه والتضييق عليه وهو الجاثم فوق صدر الأمة خانقا إياها ولا تكاد تلتقط أنفاس الصعداء حتى يعود مجددا لا يُفسح لها مجالا ولا يقيم لها اعتبارا ظاهرا كل يوم بحروب وتحالفات باسم محاربة الإرهاب والإرهاب الإسلامي والشر الإسلامي وتهديد السلم الدولي، إلخ من شرور تزداد لا تنقص وضحيتها المسلم والعربي، حتى أضحوا الحلقة الأضعف بل وكل من له مشكلة فإنه يُصفيها بأجساد وبلاد المسلمين، فما مسلمي آركان واضطهادهم من قبل البوذيين الوثنيين ببعيد ولا اعتقال أكثر من مليون إيغوري من قبل الصين الشيوعية الملحدة ولا جرائم الهندوس الوثنيين بحق إقليم كشمير، وما العراق والشام بمنأى عن جرائم الصليبيين بمقدمهتم أمريكا وحربها الصليبية التي أعلنها بوش الابن بعد أيام من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر والتي ابتدأوها بغزو أفغانستان المسلمة، كل هذا والجرثومة الخبيثة والكيان السرطاني الصهيوني اللقيط يحتل الأقصى ومساحات كبيرة من فلسطين، ويزيد الطين بلة ويفاقم الوضع سوءا، حكومات عميلة ورؤساء طواغيت فمن عراق يحكمه أزلام الفرس الطامعين لإعادة أمجاد كسرى ولا كسرى بعد كسرى كما وعد النبي، إلى مصر يحكمها نذل خسيس عميل للصهيونية بل خادم وضيع لها، وبلاد الحرمين وجزيرة محمد الصادق الأمين تحكمها عوائل الشيطان من آل سعود وآل صباح وآل زايد وآل ثاني، الذين ما تركوا وسيلة للتذلل لأمريكا والصليبين إلا فعلوها، وما وجدوا سبيلا للمعونة في قتل المسلمين إلا وسلكوه فهذي قواعد الشيطان الأكبر أمريكا في قطر والكويت، فما أضرَّ الأمة أكثر من وجودهم يدعمون بالمال والنفط أعداءنا ليقتلونا. وما أمر دول المغرب خير من دول مشرقه، ففرنسا عدوة الإسلام الدائمة التي لم تجف أيدي جيشها من دماء المسلمين في الجزائر والمغرب ما زالت تُخضع تلك البلاد لصولجانها، فما أتعسه من حال وأخبثه من مرض نعاني منه منذ عقود بل وتجاوزنا قرنا من الزمن. وما شجّع أولئك الأغراب وعزز مكانة هؤلاء الحكّام إلا غياب حكم الخلافة الجامع لأمر الأمة الموحد البلاد في بلاد واحدة وجامع الرايات في راية واحدة، وما حربهم ضد داعش بعد إعلان دولة الخلافة حربا ضد إرهاب كما يزعمون ولا حفظا لحقوق الإنسان والحريات بل لأنهم يعرفون أن نظام  الخلافة يهدد مصالحهم وحكمهم وسيطرتهم، فما همَّهم إن كانت داعش بريئة أو مذنبة، خيّرة أو شرانية، فليكونوا إرهابيين وقتلة ومجرمين فكل شيء مسموح به إلا نظام الخلافة في السياسة والحكم والتشريع والتنفيذ، وإن لم تعلن داعش الخلافة ولم تتوجه إلى الإضرار بمصالح أمريكا والغرب لما اكترثوا لها ولا رفعوا بوجهها سكين مطبخ، بل هم يعلمون كل العلم ما الذي تعنيه خلافة توحد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. 

دائما ما اهتممت بموضوع الخلافة منذ أن فتح الله عليَّ من هديه وفضله، وكانت الخلافة العثمانية موضع اهتمامي وشغلي الشاغل، باحثا عن أسباب إزالة الخلافة وهدم النظام الإسلامي في الحكم وتمزيق الأرض بحدود مصطنعة بعد أن كانت الأرض واحدة بسلطان ونظام واحد. لم أكترث لتلك التهم والطعون التي تصف العثمانيين بالسوء والعنصرية والإقصاء وكان لزاما عليَّ أن أجدَّ في البحث فقد قال جلَّ من قائل “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وقال “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون”، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد؛ ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغتُّ؟” فقال الصحابة بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كانت أمتنا أمة قائمة على مبدأ التوحيد والإسلام ولا تمييز بين أحد وفقا لعرقه أو نسبه أو بلده إلا بعمله لذا فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه مسلم: “يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئًا، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»”. فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية تُعلمنا أن نحكم على الناس وفقا لعملهم، لذا فقد طرحت جانبا أي طعنٍ لا يتوافق مع آي القرآن الكريم وهدي النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.  ولا شك إن إزالة الخلافة هو المنطلق الذي يجب أن ابتدئ فيه حتى أربط الحلقات بعضها مع بعض، ولا فهم للحاضر دون فك عقد الماضي ولا بناء مستقبل مشرق دون إصلاح الحاضر. فكان كتاب كيف هدمت الخلافة لعبد القديم زلّوم من آخر ما قرأت بخصوص هذا الموضوع وإن كنت قد سبقته بقراءات مثل الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية ومذكرات السلطان عبد الحميد الثاني وكتب أخرى فيما يخص تاريخ هذه المرحلة، إلا إن هذا الكتاب لخّص وأعطى صورا كاملة للمشهد الذي سبق هذه النكسة المتمثلة في إلغاء نظام الخلافة، وهنا لا أكتب مشتاقا لأطلال العثمانيين ولا غيرهم، بل أكتب تائقا لكشف الزيغ والطعون التي لفت هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المعاصر وكيف تحولنا من نظام خلافة يستمد قوانينه من الشريعة السمحاء إلى نظام حكم وضعي يلائم أهواء الصليبيين والملاحدة ممن الماديين المنكرين لله والأديان والمحاربين لهما أشدَّ الحرب بلا هوادة ولا كلل ولا ملل. فبعد تقديم للصراع بين الكفر والإسلام يوضّح فيه عبد القديم زلّوم أن الصراع بين الكفر والإسلام صراع دائم ولن ينتهي ومن الجهالة والسفالة والغباء الظن بنهايته بل هو باقٍ ما بقيت السماوات والأرض وما حدث ضد العثمانيين هو جزء من هذا الصراع إلا إن هذا الصراع قد بدأ قبل ذلك بعقود تزامنت مع وهن العثمانيين وتسلّط الإنجليز والفرنسيون والأوروبيون عامة وما فعلته الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر من قلب موازين القوى إلى صالحهم بشكل لا يُضاهى، لكن هذا وحده لم يكن كافيا إذ الغاية ليست الهزيمة الحربية فقط بل تدمير النظام الإسلامي كليّا من الألف إلى الياء، وهذه الغاية الخبيثة تحتاج إلى جهود متضافرة في جوانب متعددة ثقافية وفكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية، فبدءًا من محاولة استمالة خلفاء بني عثمان إلى إنشاء مركز إسطنبول ومركز بيروت لإثارة النعرات القومية والضرب على وتر العرب والترك، هذه الأمراض الاجتماعية التي نهى عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) بل وحاربها أشد المحاربة وطالب الصحابة بهجرها، فقد كان العرب متناحرين والأمم متنازعة فوحّد الإسلام صفّهم ولمَّ شملهم وجعلهم أمة واحدة لا فرق فيها ولا تفاوت إلا بالعلم والعمل الصالح، ثم شرعوا بعدها في محاولة إدخال القوانين الوضعية في القضاء إلى جانب الشريعة، ليحل الخراب تدريجيا ويبلغ أشده في إنشاء جمعية تركيا الفتاة أو ما يعرف لاحقا بحزب الاتحاد والترقي الذي تزعم هذه الحركة الثورية الجديدة -التي تأسست في باريس- أحمد رضا بك وشبّان أتراك آخرون ممن تشبعوا بالقيم والمفاهيم الأوروبية في السياسة والحكم، فكان دور الأوروبيين في نشأة حزب الاتحاد والترقي وضخِّه بالأفكار العنصرية والقومية، وبذر البذور القوميات والصراع العنصري بين العرب والأتراك ثم التواصل فيما بعد مع العرب وكان من بين تلك الشخصيات في منطقة الجزيرة العربية اللا شريف حسين وعبد العزيز آل سعود، حتى يكتمل الخلاف وتبدأ المرحلة الثانية في تمزيق الأمة الإسلامية التي تمثلت في الثورة العربية الكبرى عام 1916. لكن هذه الثورة سبقها صعود حزب الاتحاد والترقي وعزل السلطان عبد الحميد عام 1908، وبروز النعرة القومية وفرض سياسة التتريك والدعوة إليها، وسوء معاملة العرب والتمييز لهم في المناصب وترقيات الجيش، كل هذا ساعد على نشوء جدار فاصل بين العرب والأتراك وهي من السياسات الخبيثة التي سعى فيها الإنجليز والفرنسيون، إضافة إلى إطلاق حملاتهم الاستكشافية والتنقيبية في الأراضي العربية دارسين وفاحصين وعاقدين الاتفاقات ومهيئيين الأجواء والأفكار لبذر القومية والاستقلال العربي عن الحكم التركي يسابقهم في هذا الفرنسيون والألمان فالكل يريد حصته في هذه الغنيمة. فكان اشتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، والسلطة شبه شكلية للسلاطين العثمانيين الذين خلفوا عبد الحميد، وزمام الأمور بيد الوزراء الذين كان أغلبهم معروف الولاء للإنجليز من أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، وحتى الذي لا يواليهم فهو يداهنهم ويخطب ودهم، ثم جاءت هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية التي دخلوها في خندق ألمانيا نذير شؤم النهاية وترافقت بصعود نجم مصطفى كمال أتاتورك ولا سيما بعد المعركة بالقرب من “أنا فورطه”، ليجد الإنجليز ضالتهم في شخصه، الذي كان سعيه مسعورا ومحموما في إلغاء نظام الخلافة والتنازل عن جميع الأراضي غير التركية، والتي ابتدأ الإنجليز والفرنسيون احتلالها في العراق والشام ومصر، وكان عبد العزيز وأمير مكة يتكفلان بمهامهم في الجزيرة العربية وبعد انسحاب العثمانيين منها، بدأ الصراع بين الاثنين وكانت الغلبة لمن كان ولاؤه للإنجليز أقوى إذ كان أمير مكة اللا شريف حسين متمسكا بالقدس عكس الأول الذي لم يكن يهمه سوى أن يثبّت سلطانه ويحظى بدعم الإنجليز بغض النظر عن الثمن المدفوع. 

يركز الكتاب بعد هذا على تسليط الضوء على صعود نجم أتاتورك واتصالاته مع السلطان وحيد الدين الذي كان يعرفه، ثم اعتزاله العمل العسكري، والبدء بالعمل السري من أجل إعداد العدة للهدف المنشود، ويمكننا القول وما يثبته الواقع إن العثمانيين انتهت سلطانهم مع عزل عبد الحميد وكان قد دخلوا عصر الانحطاط والانهيار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لذا فقد هُييئت لأتاتورك الأرضية المناسبة للتوسع بمشاريعه بدعم الإنجليز الذين كان شغلهم الشاغل إلغاء الخلافة بعد أن مزّقوا البلاد العربية واحتلوها، فكانت خططهم أخطبوطية في العراق ومصر والشام وتركيا. بدأ أتاتورك باتصالاته وتكوين النواة في دولة تركيا الجديد كل هذا بإشراف الإنجليز ودعمهم ومساندتهم السياسية والعسكرية وكانوا قد احتلوا إسطنبول وأخضعوها لأمرهم وسمحوا لليونانيين بالتوغل والوصول إلى احتلال أزمير، فأقام أتاتورك المؤتمرات مثل مؤتمر أرضروم وسيواس، واتصل بالخليفة، وكان مصطفى يبث فكرة تحرير البلاد من سطوة الإنجليز ويشكك بموقف السلطان الذي كان خاضعا للإرادة الإنجليزية، لذلك فقد تحولت القضية من أرض خلافة تضم البلاد العربية والإسلامية إلى قضية بلد قومي للأتراك يجب أن يحرروه من النفوذ الإنجليزي، فيا لها من خطة ويا له من تغيير، انتهى به إلى تأسيس حكومة أنقرة واتخاذها مركزا له ونقل العاصمة من أسطنبول إلى أنقرة لاحقا بعد أن أعلن دولة تركيا الحديثة، وإنشاء برلمان، لتبدأ بعد سياسة الجذب والأخذ التي استمرت، وأصبح لحكومة أنقرة تمثيلها الرسمي الذي تخاطبه الدول الأوروبية وتعترف به تباعا إضافة إلى وجود سلطة الخلافة العثمانية التي يمثلها الخليفة. جرى كل هذا في سنوات قلائل ما بين (1918-1922) حتى إعلان تأسيس دولة تركيا الحديثة في عام 1923. هذا الإعلان سبقه شد وجذب، فقد كان الأتراك ما يزالون يؤمنون بنظام الخلافة ولا يرون له بديلا عكس أتاتورك وأعوانه، لذا فقد كانت حكومة أنقرة هي الحركة التي قصمت ظهر الخلافة العثمانية، وأخطر ما نراه والذي يكشف دور الإنجليز في هدم نظام الخلافة وإزالته هو ما وقع في مؤتمر لوزان المعقود في عام 1922 وحضره مبعوث وفد حكومة أنقرة الذي عُدَّ ممثلا وكان قد طلب رئيس الوفد الإنجليزي: إلغاء الخلافة إلغاء تاما، وطرد الخليفة خارج الحدود، ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة، حتى تنال استقلالها. وانفض هذا المؤتمر دون الوصول إلى اتفاق. أمست قضية استقلال تركيا مرتبط بإزالة الخلافة، ورغم الصعوبات والعواقب ورفض أعضاء البرلمان وحتى بعض أفراد حزب الاتحاد والترقي هذا الأمر فقد كان لأتاتورك ألاعيبه وسلطته وقوته التي فرضت هذه الإرادة وتمت الموافقة على إلغاء الخلافة وأعلن المجلس الوطني الكبير هذا القرار في الثالث من آذار/ مارس 1924. واعتقل جميع أفراد عائلة  السلطان والأمراء والأميرات ورحلوا إلى الخارج، وتحولت أوقاف المسلمين إلى الدولة، وتحولت المدارس الإسلامية إلى مدنية، وبدأ عهد جديد من علمنة الدولة بقيادة أتاتورك عدو الإسلام والمسلمين. وأعيد افتتاح مؤتمر لوزان ووافقوا على شروط الصلح واستقلال تركيا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى