كان صامتًا كالقبر، ومنتصبًا بهدوء مثل برجٍ،
رفعتُ ناظريّ وأبصرتُ صلاتي لحجر:
نشدتُ مساعدةَ مَنْ لا يقوى عليها،
وسعيتُ وراء حُبٍ حيث الحبُّ مجهول تماما.
قصيدة “أبصرَ شقاءَ فؤادي”
شارلوت برونتي
شكَّلت تجربة شارلوت في بروكسيل منعطفًا مهما في حياتها الأدبية فتصفها في رسائلها بأنها الأرض الموعودة، ويقول الناقد الإنجليزي، ماريون سبيلمان، بأن شارلوت هي صنيعةُ شارع إيزابيلا. ولم يكن لهذه المرحلة ذاك التأثير المهم لدى الدارسين لأدب وسيرة شارلوت برونتي حتى ظهرت الرسائل الأربع من أصل خمس كانت قد أرسلتها شارلوت إلى أستاذها البلجيكي، هيغر، وكشفت عن حبٍّ غير متبادل أو حبٍّ معبَّرٍ عنه من طرف شارلوت فحسب، كان له الدور الكبير في إلهاب موهبة شارلوت الروائيّة وتسريع ظهور إنتاجها الأدبي. يعود تاريخ الكشف عن رسائل شارلوت برونتي الأربع إلى عام 1913 حين نُشرت كاملةً وسُلِّمت إلى المتحف البريطاني من بنات هيغر بعد وفاة والدهن وزوج شارلوت آرثر نيكولاس في عام 1906، ولهذا الرسائل قصة يرويها الناقد الإنجليزي ماريون سبيلمان الذي رتَّب لتسليم الرسائل إلى المتحف الوطني. يذكر سبيلمان على لسان لوسي، ابنة هيغر، في سنوات شيخوختها بأنَّ ثلاث رسائل مُزِّقت من والدها بعد قراءتها قبل أن يرميها في سلة المهملات، لكنَّ والدتها عادت وجمعت القصصات ولصقتها واحتفظت بالرسائل بعيدًا عن الأنظار مدة خمسين سنة، والسبب يعود كما تقول لوسي بأن أمها أخبرتها عن خشيتها من أن يقود هوس شارلوت بزوجها إلى الإساءة بحق سمعته أو سمعة المدرسة وحفظت الرسائل لتكون دليلا يُدين شارلوت ويبِّرئ ساحة زوجها من أي علاقة مع طالبته السابقة. ويُشير سبيلمان بأن والدها مزَّق الرسائل مرة أخرى بعد خمسين سنة عندما وجدها مجددًا إثر وفاة زوجها، وأعيد لصق الرسائل لكن هذه المرة من قبل لوسي. لكن يبدو أنَّ حادثة التمزيق الثانية غير صحيحة كما هو الحال في إخفاء الرسائل بعيدًا عن الانظار من المدام هيغر إذ تتعارض مع حقيقة إظهار هيغر لهذه الرسائل لإليزابيث غاسكل عندما أتت في عام 1856 لجمع مواد عن كتاب “حياة شارلوت برونتي”. بقيت حتى يومنا هذا أربع رسائل أرسلتها شارلوت إلى هيغر (من أصل خمسة)، مزَّق هيغر ثلاث منها ورماها في سلة المهملات قبل أن تعيد زوجته لصقها وحفظها، وأما الرسالة الخامسة، والرابعة في التسلسل في تاريخ أيار/ مايو 1845 فهي غير موجودة.
{كتبت شارلوت هذه الرسائل الأربع باللغة الفرنسية والترجمة الإنجليزية مأخذوة من المجلد الأول من مجموع الرسائل الكاملة طبعة مارغريت سميث. أشارت شارلوت في رسائلها هذه إلى رسائل أُخر لم تُبقَ، كما لم تبقَ أيًّا من رسائل هيغر التي أرسلها إليها. والنسخ الأصلية من الرسائل الأربع محفوظة في المكتبة البريطانية ومعروضة فيها للذكرى}.
الرسالة الأولى 24-7-1844
{الرسالة الأولى طويلة ومُسهَبة. مُزِّقت هذه الرسالة وأُعيد جمع أجزائها ولصق القصاصات بالصمغ}
مسيو
أدركُ أنَّ هذا ليس دوريَ في الكتابة إليك، لكن بما أنَّ السيدة ويلرايت في طريقها إلى بروكسيل وراغبة بأخذ رسالة معها- ارتأيتُ ألا أرفض فرصة مُحببة في الكتابة إليك.
يُسعدني أن السنة الدراسية على وشك أن تنتهي واقتربت العطلة -سعيدة لأجلك مسيو على الخصوص- لأنني علمتُ بأنك تعمل بجهد مُفرط وتدهورت صحتك قليلا نتيجة لذلك، وبسبب هذا أحجمتُ عن إبداء أي تشّكٍ من صمتك الطويل، وأفضِّل البقاء ستة أشهر دون سماع شيء منك على وضع ذرة فوق عبئك -عبءٌ ثقيلٌ سلفا- الذي أرهقك، وما أزال أذكر أنَّ الوقتَ الآن لإعداد الواجبات ثم ستحلُّ الامتحانات وبعدها الجوائز، وأنك مُلزم في هذه المدة قضاء جُلَّ يومك في قاعة الدرس -مُرهقًا نفسك حد الإعياء- في الشرح، وطرح الأسئلة والحديث طوال اليوم، ثم في المساء قراءة كل الواجبات المُكدِرة وتصحيحها، وإعادة كتابتها تقريبًا- آه مسيو! لقد كتبتُ لك مرةً رسالة تكاد تفتقر إلى العقلانية بسبب الحزن الذي يُعذِّب فؤادي، لكن لن أكررها مجددًا. سأحاول أُحجِمَ أنانيتيّ ومع ذلك فإنني أرى رسائلك أسرَّ بهجةٍ أعرفها، سأنتظر بصبرٍ لأتسلَّمها متى ما أسعدكَ وناسبكَ إرسالها. لكن على أي حال بمقدوري كتابة رسالة صغيرة إليك بين الفينة والأخرى- لقد منحتني الأذن بفعل هذا. أخشى كثيرًا نسيان الفرنسيّة، لأني مقتنعةٌ تماما بأني سأراك مجددًا يوما ما -لا أدري متى أو كيف- ولا بد من حدوث هذا بما أنني توَّاقة إليه، ولا أرغب وقتها في التزام الصمت بحضرتك، لمن المحزن جدًا أن أراك ولا أكون قادرةً على محادثتك، ولمنع وقوع سوء الحظ هذا فإنني يوميًا أحفظ نصفَ صفحةٍ بالفرنسيّة من كتابٍ عن ظهر قلب وأرددها في أسلوب مونولوجيّ: وتغمرني سعادة تعلم هذا الدرس مسيو- حين أنطق الكلمات الفرنسيّة يبدو وكأنني أبادلك الحديث. عُرضَت عليَّ مؤخرًا وظيفة معلمة أساسية في مدرسة داخلية كبيرة في مانشستر براتب 100 جنيه -نحو 2500 فرانك سنويا- لا يمكنني قبولها لأنني وقتها سأكون مضطرَّة لترك والدي وهذا ما لا يمكن فعله. ومع ذلك فلدي خطّة عمل (حين يعيش المرء وحيدًا فإن دماغه ينشَطُ على الدوام -يرغب المرء بأن يشغل نفسه- ويتوقُ إلى الشروع بعملٍ فعّال). البارسونج كبير بما يكفي -مع بعض التغييرات- وستكون ثمة غرفة تتسع لخمس تلميذاتٍ داخلياتٍ أو ستٍّ، لو استطعت تأمين هذا العدد من الأطفال من العوائل الموقَّرة فأكرِّس نفسي وقتها للتعليم. إيميلي ليست مولعة بالتعليم كثيرًا لكنها مع ذلك ستدبر شؤون البيت، ورغمَ أنها انطوائية نوعا ما فلديها قلبٌ عطوف لبذل قصارى جهدها لرعاية الأطفال، وهي كذلك واسعة الصدر كريمة، أما فيما يخص النظام والتدبير الماليّ والتنظيم الصارم -العمل الجاد- وكل المتعلقات الضرورية بالمدرسة الداخلية فكلي رغبة بتولي مسؤوليتها بنفسي. هذه هي خطَّتي، ولقد وضَّحتها منذ مدة لوالدي واستحسنها، كل ما يتبقَّى إيجاد التلميذات -مسألة عويصة نوعا ما- نظرًا لأننا نعيش على مبعدة من البلدات ونادرًا ما يرغب الناس بخوض صعوبة قطع التلال التي تُشكِّل حاجزًا محيطا بنا -لكن أن تفتقر المهمة إلى الصعوبة فهي معدومة البهجة تقريبا- والتغلب على الصعوبات فعلٌ جديرٌ بالثناء جدًا. لا أقول إني سأنجح لكن سأحاول النجاح، وما من شيء يغمرني بالراحة مثل بذل الجهد ولا أخشى شيئًا كخشيتي الخمول -الافتقار إلى الوظيفة- والعطالة وهمود الإمكانيات، إنَّ الروح تعاني بشدِّة حين يكون الجسد كسولا. ليس في نيتي خوض تجربة الكسل إذا استطعت الكتابة، مرَّت في حياتي أوقاتٌ اعتدتُ فيها قضاء أيامٍ وأسابيعَ وشهورٍ في الكتابة وليست بلا أي فائدة تمامًا منذ أن أرسلت إلى ساوثي وكوليدرج -كاتبان من أفضل مؤلفينا- بعضًا من مخطوطاتي وأبديا بابتهاج موافقتهما عليها، لكن بصري في الوقت الحالي ضعيفٌ جدًا ليسمحَ لي بالكتابة، ولو كتبتُ كثيرًا سأصاب بالعمى1. إنَّ ضعفَ البصر حرمانٌ فظيع أخافه -وبدونه أتدري ما الذي سأفعله يا مسيو- سأكتب الكتب وسأهديها لأستاذي في الأدب، إلى أستاذي الوحيد (سيدي) الذي حظيتُ به يومًا- إليكَ مسيو. أخبرتكَ مرارًا بالفرنسيّة ما أكثرَ توقيري لك، وما أكثر ما أنا مدينة للطفك وعطفك ونُصحك، وأرغب بأن أخبرك لمرة واحدة بالإنجليزية- أن هذا لا يُمكن حدوثه، ولا يجب أن أفكِّر به فالمسيرة الأدبية مُوصدة الأبواب في وجهي، التعليم فحسب أبوابه مُشرعة قُبالتي مع أنه لا يُقدِّم ذات الإغراءات، لا تكترث لأنني سألجه وإذا لم أصل فيه إلى محطة بعيدة فلن يكون هذا بسبب نقص الجهد المبذول. وأنت أيضًا مسيو رغبتَ يوما أن تكون محاميًا في المحاكم العُليا، القدر أو العناية الإلهية صيَّرتكَ أستاذًا وأنت سعيد رغمَ ذلك.
أبلغ تحياتي للمدام -آمل ألا تكون ماريا، ولوسي، وكلاير، قد نَسَيْنني قبل الآن- وبروسبير وفيكتورين2 التي لم تعرفني جيدًا قط، إلا أنني أذكر الفتيات الخمس لا سيما لوسي، لها سَمْت مُفرط يُوحي بالغرارة، ويطفحُ الصدق في مُحيَّاها الصغير.
إلى اللقاء مسيو
طالبتُكَ المُخلصة
ش. برونتي
[حاشية] لم أسألك أن تكتبَ لي في القريب العاجل فلا أريد أن أبدو لحوحة -لكنك طيب بما يكفي لكيلا تنسى أني أرغب بهذا رغم ذلك، نعم، أرغب بذلك جدًا -يكفيني هذا- مع ذلك افعلْ ما يحلو لك مسيو. وإذا تسلَّمتُ رسالة وظننتُ أنَّك كتبتها بدافع الشفقة عليَّ؛ سيؤذيني هذا بشدَّة.
من الجلي أن السيدة ويلرايت ستذهب إلى باريس قبل الوصول إلى بروكسيل لكنها ستضع رسالتي في بريد بولون. إلى اللقاء مجددًا مسيو، يؤلمني أن أودِّعك حتى في رسالة -رباه من المؤكد أني سأراك مجددًا يومًا ما- لا بد أن يكون هذا لأني وقتما جنيتُ مالًا كافيًا للذهاب إلى بروكسيل سأكون هناك، وسأراك مرة أخرى وإن في لحظة يتيمة فحسب.
__
1- كانت شارلوت تعاني من قصر النظر. وهذا ما جعلها ترفض اللعب مع البنات في المدرسة الداخلية في بروكسيل لأنها لم تستطع ممارسة اللعب والركض بسبب ضعف البصر. وقد أصيب والدها بإعتام عدسة العين، وكاد يفقد بصره حتى أجريت له عملية، واستعاد بعدها بصره لكنه بقي يعاني في أوقات مختلفة من بصره. المترجم.
2- بنات هيغر من زوجته زوي كلاير. المترجم.
*
الرسالة الثانية 24-10-1844
{كُتبت الرسالة الثانية على عُجالة وهي قصيرة جدًا. مُزِّقت هذه الرسالة وأعيد تجميعها ولصقها}
مسيو
تملأني البهجة هذا الصباح، أمرٌ نادر الوقوع لي في آخر سنتين، والسبب أنَّ أحد معارفي [جو تايلور] سيمرُّ عبر بروكسيل وعرضَ عليَّ توليّ أخذ رسالة إليك، فإما هو من سيوصلها إليك وإما أخته، وبهذا سأتأكد أنك ستستلمها. لن أكتب رسالةً طويلة، فما من وقت عندي أولًا، سأكتبها على الفور، ولأني غير راغبةٍ بإزعاجك. أتساءلُ إن كنت تسلَّمتَ شيئًا مني في بداية أيار ثم في شهر آب؟ كنتُ خلال هذه الأشهر الستة أتوقَّع تسلَّم رسالة منك مسيو -ستة أشهر من الانتظار- لهو وقتُ طويل حقًا! مع ذلك فأنا لا أتشكَّى وسأعوَّض بثراء على نَزِير أساي إذا أردتَ كتابة رسالة وإعطاءها هذا السيّد أو -أخته- فسيوصلها إليّ بلا شك. بغض النظر عن قصر الرسالة سأكون راضيةً بها- ولا تنسَ أن تخبرني عن حالك مسيو، وحال المدام والأطفال والمعلمات والطالبات. يُبلِّغكَ والدي وأختي تحياتهما -مِحنة والدي في ازدياد تدريجي ومع ذلك لم يُصب بالعمى تماما بعد3، وحال أختيَّ على خير ما يرام لكن أخي عليلٌ على الدوام.
إلى اللقاء مسيو، أعدُّ الأيام حتى وصول أخبارِكَ إليَّ- تُبهجي هذه الفكرة لذكرى عطفك التي لن تخبو في نفسي، وما دامت هذه الذكرى باقية فإن التوقير الذي بثَّته فيَّ سيدوم أيضًا.
[ح] لقد رتَّبتُ الكتب التي منحتني إياها حينما كنتُ في بروكسيل. تنتابني سعادة غامرة حين أنظر إليها -كوَّنت مكتبة صغيرة- في البداية الأعمال الكاملة لبيرناردين دي سان بيير – خواطر باسكال – كتاب شعر – كتابان ألمانيان – (شيء يَعْدل قدَر البقية) خطبتان للأستاذ هيغر- أُلقيتا خلال توزيع جوائز Athenee Royal.
3- تُشير إلى إعتام عدسة العين وضعف بصره. المترجم
*
الرسالة الثالثة 8-1-1845
{مُزقت هذه الرسالة الثالثة أيضًا ثم لُصقت أجزاؤها معًا. بعد جملة “يعاني المرء بصمتٍ ما امتلكَ المقدرة، وحينما تخذله مقدرته؛ يُطلق كلماته بلا عِقال على هواها بإفراط” ثمة سطران من العسير جدًا تبيّن فحواهما لأنه لم يُمكن قراءتهما. وبعدهما تكتب شارلوت الختام الرسميّ “أرجو لك مسيو السعادة والهناء”}
عاد السيد تايلور. سألته إن كان ثمة رسالةٌ لي ’لا شيء‘ ’صبرًا‘ -أقول- بأن ’أخته ستعود قريبًا‘ عادت الآنسة تايلور وقالت ’ليس معي شيء من المسيو هيغر. لا رسالة ولا كلمة‘. عندما استوعبت المعنى الكامل لهذا الكلام، قلت لنفسي، ما الذي سأقوله لشخص آخر في هذا الحال ’ستخضع للأمر الواقع، وفي المقام الأول، لا تكدِّر نفسك بسبب سوء طالعٍ لا تستحقه‘ وبذلت قصارى جهدي لكليلا أبكي ولا أشكي. لكن حينما لا يشكو المرء، ويرغب بأن يمسكك بزمام نفسه بقبضة حازمة؛ تثور عليه كل جوانحه، ويحافظ على هدوئه الخارجيَّ بمقاساته صراعًا داخليًا لا يُحتمل بتاتًا. لم تحلّ عليَّ طمأنينة وسلام ليلًا أو نهارا، وإذا هجعتُ عذَّبتني أحلام أراكَ فيها قاسيًا، غاضبٌ مني على الدوام وهازئ. سامحني مسيو إن بادرتُ بالكتابة إليك مجددًا- أنَّى لي تحمَّل حياتي إن لم أبذل جهدًا لتخفيف عذاباتها؟ أدركُ أن صبركَ سينفد وستبلغُ من لدني عذرا عندما تقرأ هذه الرسالة -ستقول إني مفرطة الاهتياج- لأنَّ في ذهني هذه الأفكار السوداوية وما شابه. الأمر كذلك مسيو، ولا أسعى خلف التسويغ لنفسي، وأنا مُسلِّمة لكل توبيخ. لكن كل ما أعلم هو أنني لا يُمكنني، ولن أسلِّم بالخسارة الكاملة لصداقة سيدي، وسأفضِّل مقاساة أوجعَ الآلام الجسديّة على أن يذهب فؤادي متمزَّعًا بالحسرات الحارقة على الدوام. فإذا استرَّد سيدي صداقته مني بالكامل سأصبح يائسة تماما، وإذا منحني النزرَ من صداقته -القليل جدًا- سأكون راضية وسعيدة، وسأحظى بالحافز للعيش والعمل. مسيو، لا يريد الفقراء وجبةَ هنيئة ليعيشوا، فهم يسألون فُتات الخبزِ المتساقط من مائدة الأغنياء، لكن إن رفضوا منحهم الفُتات سيموت الفقراء جوعًا. وليس لي حاجة بعظيم عاطفة مَن أُحبُّهم، فلن أعرفَ كيف أجاري صداقتهم التامة والكاملة -لستُ معتادةٌ على ذلك- لكنك أبديتَ قليلَ اكتراث بي في الأيام الخالية عندما كنت في بروكسيل، وأنا أسعى جاهدة للمحافظة على هذا الاهتمام النزر، سأسعى من أجله ما دمت قادرةً على المضي في هذه الحياة. ربما ستقول لي’ما عاد عندي أدنى اهتمام بكِ آنسة شارلوت – لستِ اليوم من أهل بيتي4- لقد نسيتُك‘؟ أخبرني إذًا مسيو بصراحة كبيرة -سيصدمني هذا لكن لا يهم- سيبقى الأمر أقل رعبًا من الشك. لا أريد قراءة هذه الرسالة -سأرسلها فور إتمام تسطيرها- ومع ذلك فإني وبثمالة باقية في عقلي أعلم أن لو قرأها بعض العقلاء غلاظ القلوب لقالوا “إنها تهذي”. ثأري الوحيد منهم رجاءُ أن ينالَ هؤلاء يوما من معاناتي التي قاسيتها طوال ثمانية أشهر، ثم سنرى إن لم يهذوا وقتها أيضا. يعاني المرء بصمت ما امتلكَ المقدرة، وحينما تخذله مقدرته؛ يُطلق كلماته بلا عِقال على هواها بإفراط.
أرجو لك مسيو السعادة والهناء
4- عاملها هيغر وزوجته في بداية السنة الثانية بتقدير كبير وسمحا لها بأن تكون في الغرفة المخصصة لهما. المترجم.
*
الرسالة الرابعة 18-11-1845
{في هذه الرسالة، وهي آخر ما لدينا، تُشير شارلوت برونتي إلى رسالة كتبتها في أيار عام 1845. وتُشير أيضًا إلى رسالة لهيغر قائلة بأنها قاست مدة ستَّة أشهر. في هامش الرسالة، في آخر صفحة، دوَّن أحدهم، من المفترض هيغر، ما يبدو أنه عنوان إسكافيّ في بروكسيل. هذه هي الرسالة الوحيدة التي لم تُمزَّق. والصفحات المكتوبة بعناية سليمة، لكن لا يُمكن تكرار ذات الشيء على حالة شارلوت الذهنية عندما كتبتها. الحاشية مكتوبة بالإنجليزية}
مسيو
انسلختْ ستةُ أشهرٍ من الصمت، واليوم هو الثامن عشر من تشرين الثاني، وآخر رسائلي مؤرخة على ما أظن في الثامن عشر من أيار لذا أكتب إليك اليوم دون أن أخلَّ بوعدي. استطالَ فصلا الصيف والخريف عليَّ كثيرًا، والحرمان الذي أفرضه على نفسي: هو أنت مسيو، لا يمكنك أن تصوُّر ما أعنيه لكن تخيّل لحظةً بأنَّ أحدَ أطفالك بعيدٌ عنك مسافة 160 فرسخ، وعليكَ انتظار مضي ستةَ أشهرٍ بدون الكتابة إليه، وبدون استلام خبرٍ منه، بدون سماعه أو محادثته، أو معرفة أحواله، ستفهم حينها بسهولة مقدار صعوبة في التزامٍ مثل هذا. سأخبرك صراحةً بأنني خلال هذا الوقت من الانتظار حاولت نسيانك. إنَّ ذاكرةَ الإنسان -عندما يعتقد بأنَّه لن يرى امرأً بعينه مجددًا ويكنُّ له الاحترام رغم ذلك- تُعذِّب العقل بما يفوق الحد وحين يُعاني الإنسان هذا النوع من القلق سنةً أو سنتين سيكون مستعدًا لفعل أيَّ شيء ليستردَّ سلامه العقليّ. لقد فعلت كلَّ شيء. سعيت وراء ما أُشغل به نفسي، ومنعتها تماما من متعة الحديث عنك حتى لإيميلي لكني لم أتمكن من قهر حسرتي أو نفاد صبري -وهذا مُهين حقًا- من عدم معرفتي كيفية السيطرة على أفكاري، أو أن أكون عبدة الأسى، والذاكرة، عبدة فكرة راسخة ومُهيمِنة أضحت مُستبِّدة على عقلي. لمَ لا يُمكنني أن أحظى منك بمقدار الصداقة التي تحظى بها مني لا أكثر ولا أقل؟ سأكون حينها في منتهى الطمأنينة، وحرَّة لأحفظَ لساني وألتزم الصمتَ عشر سنين دون جهد يُذكر. صحة والدي على خير ما يُرام لكن نظره تلاشى تقريبا، ما عاد بإمكانه القراءة أو الكتابة؛ مع ذلك فإن نصيحة الأطباء هي أن ينتظر أشهرًا معدودة أخرى قبل محاولة إجراء عملية -ولن يكون الشتاء عليه إلا ليلٌ يُخيّم طويلا- وهو نادرًا ما يتشكَّى. مُعجبة بصبره، وإذا قضت العناية الإلهية ذات الشيء لي فستكون راحة البال من نصيبي، عسى أن يمنحني مثل صبره لأتحمل هذا! يتضح لي يا مسيو بأنَّ أقسى ما يُوجع بمرارة في المِحن الجسدية الجسيمة يكمن حين نُكْرِه كُلَّ من حولنا على مقاسمتنا معاناتنا؛ بمستطاعنا إخفاء آلام النَّفْس لكن العذابات التي تهاجم الجسد وتُدمِّر قواه لا يُمكن إخفاؤئها. يتركني والدي هذه الأيام أقرأ له وأكتب، ويُبدي ثقته فيَّ كما لم يُبدها من قبل قط، وفي هذا مواساةٌ جليلة. مسيو، أسألك أن تتفضلَّ عليَّ حين ترد على هذه الرسالة وتحدِّثني قليلا عن نفسك لا عني، لأني أعلم أنك حينها لو تحدَّثتَ عني ستوبّخني، وأود اليوم رؤية جانبكَ العطوف؛ حدِّثني عن أطفالك؛ لا يبدو سَمْتكَ صارمًا حين تكون لوسي وكلاير وبروسبيري قريبات منك. أخبرني عن المدرسة، والطالبات، والمعلمات، هل ما زالت الآنسات بلانش، وصوفي، وجاستين في بروكسيل؟ أخبرني أين ارتحلت أثناء العطلة- هل مررت بالراينلاند؟ هل زرتَ كولونيا أو كوبلنز؟ حدِّثني بإيجاز عما ترغب به، سيديّ، لكن أخبرني بأي شيء. إنِّ الكتابة إلى معلمة مساعدة سابقة (لا، لا أريد تذكر وظيفتي السابقة معلمةً مساعدةً. أتنصل منها) بل الكتابة إلى طالبة سابقة لن يكون أمرًا مثيرًا جدًا لتشغل نفسك به -أعلم ذلك- لكنه الحياة بذاتها لي. لقد قوَّتني رسالتك الأخيرة -شدَّت من عضدي ستة أشهر- والآن أنا بمسيس الحاجة إلى أخرى ستمنحها لي لا لأنك تكنُّ صداقةً لي -لا تملك منها الكثير- بل لامتلاكك نَفْسًا عطوفة ولأنك لن تحكمَ على أي امرئ أن يقاسي طويلا معاناته من أجل أن تحفظ لنفسكَ بعض اللحظات من وقتَ الفراغ. أن تمنعني من الكتابة إليك، وترفض الرد عليَّ، فهذا سيمزِّق إربًا بهجتي الوحيدة على الأرض- أن تحرمني من آخر امتياز متبقٍّ لي، امتياز لن أقبل التخلّي عنه طواعيةً أبدًا. صدّقني، سيدي، إنِّك تسدي في كتابتكَ إليَّ معروفًا ما دمت أظنَّك سعيدًا معي تمامًا، وما دمتُ لا أزالُ على أمل سماعٍ شيء منك. بمقدوري أن أصبح مطمئنة وغير مفرطةِ الحزن، لكن حين يُنذرني الصمت الطويل والفظيع بأنَّ سيدي في نفور مني، حين يومًا تلو آخر أنتظر رسالةً ويومًا بعد آخر تطرحني الخيبة أرضًا مجددًا لفكّي تعاسة قاهرة، وتفرُّ مني البهجة اللذيذة لرؤية كتابتك وقراءة مشورتك مثل طيفٍ زائل، ثم -وأنا محمومة- أخسر شهيتي ونومي ويهزل جسدي. أتسمح لي بالكتابة إليك مجددًا في أيار القادم؟ كنت لأفضل الانتظار سنة كاملة -لكن هذا مستحيل- إنه وقت طويل جدًا.
ش. برونتي
[ح] أود قول شيء واحد لك بالإنجليزية- أرغب لو أن بمقدوري كتابة رسائل مبهجة أكثر، حينما أقرأ هذه الرسالة ألتمس فيها الكآبة بنحوٍ ما، لكن سامحني سيدي، ولا تنزعج من حزني، وكما في كلمات الكتاب المقدَّس ’فإنَّه مِنْ فَضلَةِ القَلبِ يتكَّلمِ الفَمُ5‘ وإني لأجد من العسير أن أكون مبتهجة ما دمت أفكِّر بأني لن أراك مجددًا. ستلتمس من الهفوات في هذه الرسالة بأني أنسى اللغة الفرنسية، مع ذلك فما زلت أقرأ كل الكتب الفرنسية التي أحصل عليها، أحفظ كل يوم جزءًا عن ظهر قلب لكني لم أسمع قط أحدًا يتحدث الفرنسية منذ أن غادرت بروكسيل، وتطرب أذني لها كالموسيقى، وما أغلى كل كلمة منها لأنها تُذكِّرني بك. أحب الفرنسيّة من صميم قلبي وروحي من أجلك.
وداعًا سيدي العزيز
حفظك الله ورعاك بطيّب عنايته وساقاك دُرَّ بركته.
ش. ب.
{بعد وفاة شارلوت برونتي، راسلت إيلين نوسي هيغر معلنة عن نيَّتها نشر نحو خمسمئة من رسائل شارلوت برونتي الخاصة، لكنه أبدى اعتراضه على ذلك لأنه سيبدو غير منصفٍ لشارلوت وسيرفع الحجاب عن قلبها المسكين العليل. في مسوَّدة رسالته هذه شطب على كلمة عليل وأبدلها بكلمة “مجروح أو مكلوم” قبل أن يُبقي على الكلمة الأولى}
5- إنجيل متى: 12-34
المرجع: The Brontes in Brussels by Helen MacEwan