هذا الكتاب بحث ودراسة في المناهج النقدية الغربية والعربية التراثية، مقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول هو مخصص للنظرية النقدية التي تبنتها جامعة كونستانس الألمانية تحت عنوان “نظرية الاستقبال”، والقسم الثاني فهو بحث في المذاهب الغربية الحديثة، وفلسفة التلقي وجمالياته، واستعراض لأهم ما في النقد الماركسي، والوجودي، والرمزي والتحليل البنيوي ومنهاج التحليل البنيوي للشعر، والقسم الأخير من الكتاب في نصفه الأول فهو عن محاور التلقي في تراثنا النقدي المتمثل في محاور ثلاثة هي لغة النص وخبرة المتلقي وذوقه الجمالي وصاحب النص. والنصف الثاني عن طريقة التلقي وعلاقتها بجمهور الأدب. رغم صغر حجم هذا الكتاب، فإنه غني كل الغنى بكم كبير من الآراء والنقودات والاستعراضات للمناهج النقدية العربية القديمة والغربية الحديثة، ويفتتح الكتاب بالحديث عن نظرية الاستقبال والتي كانت حسبما يذكر في حديثه عنها “تمثل زاوية عكسية في مسيرة الحركات النقدية التي أعلنت الحرب على لغة النص، ومعطياته التعبيرية، واستبدلت بها لغة الأسطورة أو لغة التجارب الهاربة بأصحابها إلى اللا وعي الإنساني ودفائنه التي لا تمثل في تاريخ البشر قيمة. ومعنى هذا أن النظرية الجديدة حركة تصحيح لزوايا انحراف الفكر النقدي، لتعود به إلى قيمة النص، وأهمية القارئ، بعد أن تهدمت الجسور الممتدة بينهما بفعل الرمزية، ومن ثم كان التركيز في مفهوم الاستقبال لدى أصحاب هذه النظرية على محورين فقط هما على الترتيب القارئ والنص،…” إذًا، فهذه الحركة النقدية الجديدة جاءت لتكون حركة مغايرة لما تعارف عليه النقد الغربي الحديث والفلسفات النقدية التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في التعامل مع النص، وفق مناهج تتضارب فيما بينها أحيانا، وتهمل القارئ أحيانا أخرى كالرمزية، أو تتعامل مع النص وتهتم بالمؤلف وفقا لمتطلبات الطبقة التي ينتمي لها باعتباره إنتاجا خاصا بها، ومعبرا عنها وأي مخالفة في هذا يرفض النص وصاحبه كما في الماركسية، وليس هناك أي اهتمام للقارئ، ونرى في الوجودية إهمالا للمؤلف والتعامل مع النص بكل حرية دون الاهتمام بمقصد المؤلف أو محاولة فهم الظروف المحيطة أو النفسية التي أدت إلى إنتاج النص، انطلاقا من فكرة عدم أحقية وجود أي قوة خارجية تفرض على الإنسان أن يفعل أي شيء وإن كان في نص، فهو حر في التعامل مع النص، وفي بحر هذه الاختلافات المنهجية النقدية، خرجت النظرية النقدية الجديدة (نظرية الاستقبال) والتي تمحورت حول ثلاثة أسس رئيسة هي:
1- أن يكون القارئ حرا. فهي ينأون بالقارئ عن النماذج السائدة من ناحية، ويريدون أن يتحرر من الجبرية التي فرضها النقد الماركسي على الفن من ناحية أخرى كما يبين محمود عباس.
2- المشاركة في صنع النص. ويقرر أصحاب هذه النظرية في إجراءات التفاعل مع النص أن يشارك القارئ في صنع المعنى. فهذه النظرية لا تريد من القارئ أن ينعزل عن النص، والتعامل معه ككيان لا ينتمي له، بل هو شريك في صناعة النص، من خلال التفسير والغوض والبحث عن المعنى، ويتمثل هذا الامر في مهمتين هما:
أ- مهمة الإدراك المباشر وهو يمثل المرحلة الأولى من القراءة.
ب- مهمة الاستذهان وهي المرحلة الأخرى في تفسير وفهم النص، وإعمال الخيال وذاتية القارئ وفكره في صنع المعنى.
ج- وظيفة المتعة الجمالية. يقول ياوس وهو أحد أصحاب هذه النظرية “إن المتعة الجمالية تتضمن لحظتين: الأولى تنطبق على جميع المتع حيث يحصل استسلام من الذات للموضوع، أي “من القارئ للنص”، والأخرى تتضمن اتخاذ موقف يؤطر “به القارئ وجود الموضوع ويجعله جماليا”.
ومعنى هذا كما يضيف الدكتور في حديثه “أن القارئ كما يشارك -عندهم- في صنع المعنى فكذلك يشارع في إبداع المتعة الجمالية”. من هذه الأسس الثلاثة الرئيسة نرى أن نظرية الاستقبال تقوم بنحوٍ مباشر ووثيق مع القارئ بعدِّه المخاطب والمتلقي من هذا النص. وبعدها يستعرض في بحثه هذا رواد هذه النظرية مثل ياوس وآيزر أنجاردين، ذاكرا آرائهم النقدية في النص والتلقي وجمالياتهما، وليقارنهم بعدها مع نقاد تراثنا العربي كابن قتيبة والجرجاني، وهي دراسة ممتعة وشائقة تبين مدى الدقة النقدية والمنهاجية التي كانت متبعة في تراثنا النقدي الأدبي وتعامله مع النص ولغته والمتلقي وصاحب النص.
القسم الثاني من هذا البحث، لا يقل أهمية من سابقه، وهو يمثل زبدة الأفكار للمناهج النقدية الغربية الحديثة كالماركسية والوجودية والرمزية، ويقف معارضا طريقة التعامل مع هذه المناهج النقدية، وطريقة استيرادها من قبل الحركات النقدية العربية، حيث هذه المناهج النقدية الغربية عند أصحابها، ليست مناهج نقدية أدبية فقط، بل هذه مناهج لها ارتباطها الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحياتي، والتعامل معها أو محاولة تصويرها على أنها مناهج أدبية بحتة كما يفعل البعض، لهو من الشطط والتدليس وقلة الفهم أو محاولة تصوير هذه المناهج على ما ليست عليه في حقيقتها كما يقول محمود عباس. ينهي الكتاب في قسمه الثالث والأخير بمفهوم التلقي عند تراثنا النقدي والذي تمثل في ثلاثة محاور رئيسة هي:
1- لغة النص ومعطياته.
2- خبرة المتلقي وذوقه الجمالي.
3- صاحب النص.
من خلال الشواهد واستعراض أئمة اللغة والبيان والنقد في تراثنا، تتبين لنا بصورة واضحة جلية ومميزة المنهج الدارس للنص وإن كان هناك اختلاف في كيفية التعامل مع النص وصاحبه أو المتلقي، لكن يبقى محصورا في المثلث الممثل في النص ومميزاته اللغوية والبيانية والفكرية ومعانيه وأهدافه، المتلقي -سامعا كان أو قارئا- واعتماد ذوقه في التعامل مع النص صعودا أو هبوطا، إيجابيا أو سلبيا، صاحب النص بكونه جزءا من هذا النص ومكونا له، والتعامل معه دون أهمال البيئة أو الزمن أو الفكر أو العقيدة، بل تجتمع كل الظروف المحيطة والعوامل الفكرية المؤثرة في تكوين النص.
الكتاب بكل أقسامه الثلاثة، دراسة ثرية بما طُرح فيه، وهو مورد من موارد الفكر النقدية وبوابة لولوج آفاقا واسعة في التلقي وجماليات النص ومتعته، والطرق الأسلم في التعامل مع النص في وضع متزن ومتساوٍ بين ثلاثة أسس تقوم عليها أي حركة نقدية في تعاملها مع المادة المكتوبة أو المسموعة هي النص ومكوناته القارئ وذوقه الكاتب وخبراته، إذ لا يمكن تجاهل أحد من هؤلاء وأي تجاهل لهم يجعل من العملية النقدية شائبة، وغير صافية وينقصها ما يعطي لكل من هذه الأسس الثلاثة حقها الذي يكفل فهم النص فهما كاملا، وإدراك قميته الحقيقية، دون إفراط أو تفريط.