كتب

هارون الرشيد في كتابي أحمد أمين ومحمد رجب البيومي

يتناول هذان الكتابان سيرة الخليفة العباسي هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس، الذي ذاع صيته وانتشر عبر العصور، فتخلّد اسمه بين عظماء الخلفاء وكان على رأس قائمة خلفاء بني العباس شهرة، ويقول الأديب والناقد البيومي إنَّ شهرته التي استمدها مما حصل في عصره من ازدهار أدبي وثقافي وعلى رأسها ما دُوِّن عن عهده في حكايات ألف ليلة وليلة، وتصوير ليالي قصر الخلد، وانتقلت هذه الحكايات عبر الترجمة إلى أوروبا فكان لها الأثر الكبير في ذيوع اسم الرشيد، ويكمل على الرغم أنه لم يكن بعظمة جده أبي جعفر المنصور ولم تزدهر الآداب كما ازدهرت بعصر ابنه عبد الله  المأمون فقد اشتهر أكثر من هما. ويقول الأديب والناقد أحمد أمين وهذا فضل يمنه الله على من شاء وتلعب الأقدار في خفض ناس ورفع آخرين. 

يُمهِّد كتاب البيومي للدخول لعصر الرشيد فيذكر قيام دولة بني العباس بعد إطاحتهم بالأمويين في معركة الزاب عام ١٣٢ هـ لتنتهي المعركة بنتائج تمثلت بنهاية الأمويين وملاحقتهم من قبل خلفاء بني العباس ولا سيما الأولَيْن أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور، إذ عملا على توطيد الحكم بالنار والحديد وأقصوا جميع الأمويين وقتلوهم ومن عاداهم ومن شُكَّ بمعاداتهم ومن خافوا منه إذ عمل السيف في كل من شاؤوا حتى استتب لهم الأمر، وكان هارون الرشيد خامس الخلفاء بعد وفاة أخيه الهادي. يذكر البيومي في كلامه عن خلافة الأخير رغبته بقلع أخيه من ولاية العهد وإسنادها لابنه ذي الخمس سنوات، لكن المنية عجَّلت برأب الصدع وتولي الرشيد للخلافة. فكان عصره عصر قوة وازدهار بلغ ملك من بلاد السند شرقا إلى المغرب غربا، فكانت مملكته من أعظم الممالك أذل فيها الروم في القسطنطينية حتى دفعوا له الجزية وهم صاغرون وكانت له مراسلاته مع الملك الفرنسي شارلمان كما تنفرد بهذا الأمر المصادر الأوروبية وهو ما يبقي حدوثها محل شك، كما قمع أيَّ حركة أو بليلة أو ثورة قامت ضده، وقد أسند الرشيد وزارة خلافته ليحيى بن خالد البرمكي واستعمل بعدها ابنيه الفضل وجعفر استعمالا سيتحول لوبال عليهم ينتهي بمأساة عرفتها كتب التاريخ بنكبة البرامكة. كان من علامات هذا الازدهار التنظيم الإداري للدولة والنُظم التي عمل بها الرشيد، ويتكلم عنها أحمد أمين بأسلوب سلس رقراق جذّاب. وما يقع به أحمد أمين من هفوات هو اعتماده في كثير مروياته عن عصر الرشيد على ما كتبه الأصفهاني في كتاب الأغاني وهو كتاب جُرِّحَ الأصفهاني بسببه ووصف بتتبعه مرويات الخلاعة والمجون وكل ما هو غير موثوق، إذ يُظهر عصر الخليفة عصر انحطاط وابتذال وشر أخلاقي وفساد، لذا نقرأ لأحمد أمين وهو ينقل دون تدقيق أو تمحيص وكذلك ما أخذه من حكايات ألف ليلة وليلة وكأنها كتاب تاريخ موثوق لا حكايات نسجها الخيال لا يُعرف لها كاتب حتى اليوم ولم يتفق على أصلٍ لها حتى الساعة فكيف يستند إليها، الأمر الذي يجعل بعض ما يرد في كتاب أحمد أمين، مجرد حشو لا أكثر حتى إنه وقع بتضارب فيما ينقله فعند حديثه عن الحالة الاجتماعية يركز ويكثر الحديث عن الجواري والمغنيات والشعراء الخلاعيين، ويقول وكثير من الشعب هم من الفقراء، أفلا يكون كثير الشعب هم الذين يمثلون الحالة الاجتماعية! بيد إنه في هذا قد اتبع ما صوره الأصفهاني في كتابه، ويفتتح حديثه عن الحالة الاجتماعية بحديثه عن عليّة القوم بدل عامته إذ هم السواد الأعظم وصورة المجتمع الفعلية وفي هذا قد جانب الصواب! 

ينقد البيومي في كتابه نقطة الاستعانة بكتب الأدب والشعر مصدرًا تاريخيا على بعض الباحثين واعتمادهم على كتاب الأغاني وحكايات ألف ليلة وليلة واستنادهم إلى مروياتها. ويتعجب مما يفعلونه بل ويتهم بالتقصير وقصر النظر وأن عليهم العودة لكتب التاريخ الموثوقة فالأدباء ليسوا مؤرخين وما يكتبونه من خيالهم وفكرهم الذي قد يجمح لا يُصحُّ أن يستند إليه، بل الأمر بحاجة إلى بحث رصين وتدقيق وفحص وتحليل للمرويات ومقابلة بعضها ببعض حتى يصل الباحث إلى الحقيقة أو يقترب منها بدل الاستشهاد بالمكذوب والملفق والموضوع من أحاديث وقصص ومرويات تاريخية، ويلمح أحمد أمين لهذا الفرق بين المؤرخ والأديب الذي يكون أكثر حرية من الشاعر لكنه لم يعمل وفق ما يراه صحيحا في كتابه. وأنا هنا أنصح لمن يود القراءة أن يبتدئ بكتاب البيومي ثم التعريج إلى كتاب أحمد أمين إن شاء. وما يميز كتاب البيومي هو تحليله النقدي للمرويات والآراء عن حادثة بعينها، مما يرفد القارئ بمصادر إضافية وعرض تحليلي أنيق، فيمزج التاريخ بالنقد بتحليل النص والرد على الآراء الأخرى، فيثريه ويغنيه بعدة مصادر وأقوال ويستخلص قولا هو أقرب لما يراه هو الحقيقة. 

يتحدث الكتابان عن عصر الرشيد الأدبي واهتمامه باللغة والشعر والأدب ومن قربهم إليه من شعراء كالأصمعي وعباس بن الأحنف وأبو العتاهية، وأما أبو نواس فينفي البيومي حضوره مجلس الرشيد إذ يقول بعدم وجود أي دليل شعري بأن أبو نواس نظم في حضرة الرشيد أو قصصي يؤكد علاقته بالرشيد ونقلته كتب التاريخ، إضافة إلى البون الشاسع ما بين أخلاق والتزام الرشيد مع خلاعة ومجون أبي نواس، وكان يجتمع في مجالس الرشيد علماء اللغة العربية كالكسائي والعارفون بالأنساب وأخبار العرب كأبي عبيدة، إذ كان هارون الرشيد محبا للشعر ونوادر الأخبار والطرف، إضافة لاهتمامه بمصالح الرعية والعدل بينهم إذ قرب له القاضي أبي يوسف وطلبه منه أن يكتب له رسالة في الخَراج، فكانت هذه الرسالة في أساليب الحُكم والفقه والسياسة والمظالم التي يتعرض لها الناس من قبل أمراء أو جباة فاسدين. 

وتطرَّق الكتابان في الحديث إلى نساء الرشيد كأمه الخيرزان وزوجته زبيدة وأختيه عليّة الشاعرة الأديبة والعباسة. وأفرد الكتابان فصلين مختصين بالحديث عن نكبة البرامكة وأسبابها، وقد تناول أسباب النكبة البيومي بالشرح والنقد والتحليل أفضل مما قام به أحمد أمين لذا أنصح بالوقوف على ما كتبه البيومي ولا سيما ذكره لحادثة غضب الرشيد على جعفر بن يحيى البرمكي بعد أن أطلق سراح يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي، وما كان لهذه الحادثة من أثر كبير دفعت الرشيد بالوثوب إلى إنهاء سلطان البرامكة والقضاء عليهم قتلا وتشريدا وحبسا، وما يمتاز به كتاب أحمد أمين أنه تناول ما تعرضوا له من أحداث وما لحق الحادثة من قصص وما كتب من أشعار، وفي حين يحاول أن يبرر أحمد أمين هذه الحادثة بقول إن هذا كان ديدن الملوك وإن لكل عصر أحكامه وقوانينه، يقف البيومي بالضد من الرشيد فيما فعله بالبرامكة وألقى مسؤولية خطأ هذا الفعل كاملا على الرشيد على الرغم من محاولات شحن الرشيد ضد البرامكة وإشعال غيرته منهم وما كان تحيكه زوجته زبيدة ضدهم نظرا لأن ابن الرشيد الآخر المأمون كان من أم فارسية ويميل إليه البرامكة في حين ابنها الأمين عربي وتخشى عليه من ثورة يتزعمها البرامكة، وما يضيفه البيومي حول أن الشرع ودين الله هو الذي يجب أن يحكم ولا يجب أن يحيد عنه أحد ولا أن يبرر أي تصرف مخالف لشرع بأي تبرير وأن الحق والإسلام هما الفيصل في الحكم والقضاء بين الناس. 

من أهم ما عُرِّج عليه في الكتابين، هو العلاقات الخارجية التي كان أبرزها جهاد الرشيد للروم، إذ سلمه والده المهدي في حياته قيادة جيوش المسلمين في قتال الروم وخرج مع والده في الجهاد فكأنه كما يقول البيومي كان يحضره لقتالهم فيما بعد، لذا فقد عركته الحياة وصاحبَ ذوي الخبرة العسكرية والمعرفة بحاجات الجيش في المعارك من استعدادات وخطط وتعبئة وآلات واستراتيجيات الحروب المختلفة، وله حادثة مشهورة مع نقفور ملك الروم انتهت بدفعه الجزية صاغرا ضعفين ما كانت تدفعه الملكة السابقة. وكذلك سفريات شارلمان مع الرشيد، وعلاقته بالعلويين التي لم تختلف كثيرا عن أسلافه في محاربة أي ثورة تنشأ يقوم بها العلويين كحال يحيى بن عبد الله وأخيه إدريس، وسجنه لموسى الكاظم ووفاته في السجن، والقضاء على الخوارج كما في حرب الوليد بن طريف الشيباني. 

يركز البيومي في كتابه على إظهار الرشيد بصورته البشرية العابدة والعابثة الملتزمة ذات الهفوات، فهو لا يرفعه ولا يدافع عنه بالمطلق ولا يحاربه ويخفض من قدره، وما يزود به آراءه من أقوال لباحثين ومؤرخين تُبيّن مدى اهتمامه وبحثه واجتهاده في استخلاص الموثوق في المرويات عن الرشيد، لكنه بذات الوقت يتغاضى عن حالات كموت موسى الكاظم في سجن الرشيد، لكنه في عمومه أكثر موثوقية من كتاب أحمد أمين الذي ظهرت فيه سمة عدم الجدية في البحث أو الكتابة والعرض، إذ يقع بأخطاء لو وقعت بيد ناقد ومؤرخ حذق لأبان تضاربات فيما نقل وتكلم. وهو كذلك يركّز على الجانب العابث واللاهي من حياة الرشيد، فيذكر هفواته وعلاته، في حين لا يتعرض للجانب الديني والأخلاقي للرشيد بما يتساوى مع نصفه الآخر، ليبدو لنا اهتمامه بلهوه ودنياه أكثر من رزانته وآخرته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى