التراث العالميالنقد الأدبي

بواكير الأدب والثقافة في ألمانيا

Early Germanic literature and Culture

إنّ الظاهرة الألمانية في الأدب والثقافة فريدة من نوعها، فعلى ما لها من غنى حديث ومعاصر في الأدب والفلسفة والثقافة فإنّ أصولها الأولى وبداياتها تعتورها الجهالة والظنون والتناثر، بل تكاد لا تجد لها مبدأ إلا في أواخر الألفيّة الأولى. ويُنبئ هذا التأخّر في الظهور وتشكّل الملامح ثم البروز فيما بعد عن أدب وثقافة استطاعا في قصير الزمان على مدّ جذور، وإنبات شجرٍ يُجنى ثمره، عن ظاهرة معرفيّة أصيلة نهض بها الجرمان في شمال أوروبا، وساهموا في نشأة ثقافة وطنية ألمانيّة بلغت أوجها في العصر الحديث لا سيما في حقلي الفلسفة والأدب مع أسماء مثل كانت وهيغل ونيتشه وهايدغر وغوته وشيلر وهيسه وتوماس مان وهيرتا مولر وغيرهم الكثير. ولتفرّد الظاهرة الأدبية والثقافية في ألمانيا جاء هذا الكتاب موازيا لها، وهو الجزء الأول من عشرة أجزاء صادرة عن دار Camden House عن الأدب الألماني منذ العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر. وتصفه مطبوعات جامعة كامبردج قائلة “تاريخ الأدب الألماني الصادر عن دار كامدن هاوس عملٌ مرجعي جديد رائد، يُعَدّ من أضخم المشاريع في ميدان تاريخ الأدب الألماني منذ سنوات طويلة. تتألف هذه السلسلة من عشرة مجلدات تشكِّل أوسع عرض لتاريخ الأدب الألماني باللغة الإنجليزية، إذ تتيح للباحثين والطلاب والقراء بعامة رؤيةً جديدة متماسكة لهذه المنظومة الأدبية والثقافية الهائلة الممتدة على مدى ألف ومئتي عام. وتهدف هذه المجلدات إلى تقديم تقييم حديث لطبيعة الأعمال الكبرى وأهميتها، وكذلك الأعمال ذات الشهرة القليلة لكن ذات القيمة التاريخية أو النموذجية، منذ أقدم النقوش والوثائق حتى الأدب ما بعد الحداثي. تتألف المجلدات من الأول حتى التاسع من دراسات جديدة كُلِّفت بها نخبة من الباحثين الرائدين في أمريكا الشمالية وأوروبا، تتناول أبرز الجوانب الأدبية في كل عصر من العصور. وتستفيد هذه الدراسات من تنوع المناهج النقدية التي تطورت خلال العقدين الماضيين، فتُعيد أحيانًا النظر جذريًا في مفهوم المتن الأدبي وفي المدارس والتيارات الأدبية. ومع ذلك، يبقى الهدف الأساسي لهذا العمل عرض الحقائق الجوهرية المتعلقة بكل حقبة من حقب التاريخ الأدبي الألماني عرضًا موضوعيًا. ومن خلال تنوّع تخصّصات المشاركين تتبلور رؤية شاملة ذات طابع بينيّ واضح للأدب. أما المجلد العاشر “الأدب الألماني في القرن العشرين” فهو أول ما صدر من هذه السلسلة، ويختلف عن المجلدات التسعة الأولى إذ ألّفه كاتب واحد هو البروفيسور إنغو شتير، رئيس تحرير المجلة الثنائية اللغة Dimension2 المتخصصة في ترجمة الأدب الألماني إلى الإنجليزية. ويُرتقب أن يحتلّ تاريخ الأدب الألماني الصادر عن دار كامدن هاوس مكانةً بين أهم المراجع الأدبية المتاحة في عصرنا. إنّه أداة بحثية وتاريخ نقدي شامل لأدب العالم الناطق بالألمانية، لا غنى عنه للمكتبات الجامعية والمتخصصة، وللباحثين في الأدب الألماني، وللدراسات الأدبية بعامة”.

يتوزّع الكتاب الأول من السلسلة على فصول متعددة وضعها عدد من الباحثين وأساتذة الأدب، وهي مفهوم العصور الألمانية القديمة، أصول الأدب في ألمانيا، ألمانيا الرومانية، المعتقد واعتناق النصرانية في ألمانيا، الشفوية، الكتابة الرونية، القوطيّة، الأدب النوردي-الآيسلندي، اللغة الإنجليزية القديمة، أدب الألمانية العليا القديمة والسكسونية القديمة، ملحمة المخلِّص السكسونيّة القديمة. لا يجمع هذه الفصول جامع سوى علاقتها بألمانيا أرضا وشعبا وثقافة بوجه أو بآخر، قريب أو بعيد، أصيل أو هامشي، وتدرس الظاهرة الأدبية والثقافية الألمانية في الألفية الأولى، مقدّمة رؤية عن العصور القدمية في جرمانيا، الاسم القديم لرقعة جغرافية كبيرة تقع مساحة كبيرة منها في ألمانيا المعاصرة، وهي منطقة كانت جزءا من بلاد الغال ولها حدود مع إسكندنافيا وعلى تماس واحتكاك مع الإمبراطورية الرومانيّة، وصارت في الألف الثاني للميلاد جزءا كبيرا من الإمبراطورية الرومانية المقدّسة حتى تفككت في مستهل القرن التاسع عشر. كان الرومان أول من أشار في نصوصهم وكتبهم إلى جرمانيا، وأفرد لها المؤرخ الروماني تاسيتوس سنة 98م كتابا بعنوان “في أصل الجرمان وبيان حالهم”، عرف اختصار باسم “جرمانيا” ويصنّف اليوم ضمن كتب الإثنوغرافيا (وصف الشعوب). ويبيّن الكتاب طبيعة الأقوام التي سكنت جرمانيا ما بين قبائل الجرمان، والقوط، والألمان (تجمّع قبائل صغيرة)، والسكسون، وقبائل أخرى أصغر، ونظام الكتابة الرونيّة لديها، وقد استعمل في شمال أوروبا لا سيما في إسكندنافيا حيث أصل الأقوام الجرمانية كما يذهب أغلب الباحثين. من جرمانيا في القرن الخامس للميلاد هاجرت قبائل الأنجل والسكسون إلى جزيرة بريطانيا، وصارت تُعرف هناك باسم القبائل الأنجلوسكسونيّة، وأخذت معها لغتها الجرمانيّة الغربيّة، وصارت لاحقا اللغة الإنجليزية القديمة أو الأنجلوسكسونيّة، وإرثها المعرفي والثقافي، فكان من أبرز ما علّم ذلك قصيدة بيوولف الملحميّة. كان اعتناق القبائل الجرمانيّة النصرانية في القرن الرابع فصاعدا لا سيما بعد هزيمتهم على يد الفرنجة، الذين سكنوا فرنسا المعاصرة، فاتحة جديدة لدخول هذه الأقوام في النصرانيّة على مراحل. اعتنقت أول أمرها النصرانيّة الأريوسيّة قبل التحول إلى الكاثوليكيّة، وساهم هذا الاعتناق في دخول الأبجديّة الرومانيّة واستعمالها في اللغتين الجرمانية العليا القديمة والسفلى القديمة (السكسونيّة القديمة)، وهو تقسيم جغرافيّ للهجات الأقوام الناطقة بالجرمانيّة الغربيّة والقاطنة على جانبي نهر الراين. وعلى عادة الشعوب البدئيّة كانت الشفوية أول وسائل تناقل الآداب والمعارف بين الناس قبل التحول إلى الكتابة، وجاء القرنان الثامن والتاسع للميلاد ليعلّما بداية تحوّل الإرث الشفويّ الألمانيّ إلى المكتوب، فدُوّن نشيد هيلدبراند بالجرمانية العليا القديمة ما بين القرنين الثامن والتاسع عن نزال ما بين أب وابنه في ميدان المعركة، (ترجمتُ هذا النشيد إلى العربية)، وتُرجم إليها أيضا شعرا الكتاب المقدّس المعروف بـEvangelienbuch، أتمه أوتفرد الفيسنبورغيّ في النصف الثاني من القرن التاسع. غير أنّ أبرز ما جاء في الأدب الألماني القديم كتابُ المخلّص Heliand، وهي ملحمة قوامها ترجمة شعرية للأناجيل الأربعة إلى السكسونية القديمة على يد شاعر مجهول لكنه بليغ فصيح أتمّها في القرن التاسع، (ترجمتُ الدراسة الواردة في الكتاب إلى العربية، وتُنشر قريبا).

لا يبحث هذا الكتاب، كما تشير مقدّمة، في الأدب في كلّ فصوله لكنّه يدرس الأسس الثقافيّة والقوميّة واللغويّة والأدبيّة والدينيّة التي استند إليها الأدب الألمانيّ في تشكّله، وعلاقتها بالأمم المجاورة كالإسكندنافيّن والإنجليز، وكيف ساهمت كلّ هذه العوامل في انطلاقة الأدب في ألمانيا حتى صار ما نعرفه اليوم. يكشف الكتاب في ذات الحين عن اندماج هذه العوامل لا في تكوّن الأدب الألماني وحده بل في تكوّن ألمانيا نفسها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى