التطهير العرقي في فلسطين – إيلان بابيه
يقدم المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه رواية من داخل إسرائيل عن التطهير العرقي الذي نتج منه قيام دولة إسرائيل. لم تكن نشأة هذه الدولة بمعزل عن الواقع الاجتماعي والتاريخي لفلسطين، بل نشأت على تدمير القرى والبلدات الفلسطينية وتهجير نصف الشعب الذي عاش قرونا مديدة في هذه الأرض. بدأ أواخر القرن التاسع عشر الهجرات اليهودية وإنشاء مستوطنات صغيرة للعيش فيها، الأمر الذي لم يلق معارضة من السكّان أو السلطة العثمانية حينئذ، لكنه أنذر بخطر مع الاستعمار البريطاني ودخول فلسطين في الانتداب البريطاني، فكثرت الهجرات وتعززت المستوطنات. ومع أن المساحة التي شغلوها صغيرة فقد بنيت عليها قاعدة تأسيس وانطلاق. باندلاع الحرب العالمية الثانية واضطهاد اليهود في أوروبا، والسعي الأوروبي، لا سيما البريطاني، لإيجاد حل لمشكلة اليهود في أوروبا، عملوا على توطينهم في فلسطين، ودعموا المؤسسات اليهودية والصهيونيّة، وفي تدريب اليهود العسكري، وبعضهم كان مشاركا في الحرب العالمية الثانية، وفسح المجال لهم لفعل كل ما يريدون في مناطق سيطرة القوات البريطانية في فلسطين، وأحيانا على الرغم من البريطانيين أنفسهم. بلغ الأمر ذروته بقرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1947 بتقسيم الأراضي الفلسطينية التاريخية إلى دولتين يهودية وعربية، القرار المعروف ب181، وأعطى الدولة اليهودية 54.7% من الأرض، والدولة العربية 44.8، مع وصاية دولية على مدينتي القدس وبيت لحم نظرا للأهمية الدينية المتعددة. رافق القرار رفع الانتداب عن فلسطين، لكنه شهد أكبر عملية تطهير عرقي في العصر الحديث، إذ شرع اليهود فيما عرف بالخطة دالِتْ (حرف دال باللغة العبرية)، الخطة التي بدأت تنفيذها عصابات الهاغاناه بجناحها العسكري البالماخ، ثم عصابات الإرغون المنشقة عنها، وعصابات الشتيرن المنشقة عن الأرغون، بقيادة مجلس سياسي وعسكري يتزعمه بن غوريون. هاجمت العصابات الصهيونية القرى الفلسطينية، والبلدات، والمدن، بخطط محكمة، وأدّى اختلال موازين القوى لصالح العصابات الصهيونية المدرّبة والمسلّحة تسليحا قويا، والمدعومة بريطانيًّا، في وجه المدنيين العزّل وغياب القيادة الواعية للخطر المحدق ومآلاته، والتخاذل العربية وأحيانا الخيانة متمثلة بملك الأردن المؤسس عبد الله بن الحسين الذي ربطته بالبريطانيين علاقات قوية وبالصهاينة تفاهمات لضم أجزاء من فلسطين لدولته- إلى نجاح الصهاينة في تطهير الأرض من أهلها بتشريد نحو مليون فلسطيني، يكوّنون نصف الشعب حينئذ، وقتل الآلاف من العزّل نساء ورجالا وأطفالا في عشرات المجازر الموثّقة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، عدا تلك التي لم توثّق أو حذفها مقص الرقابة الإسرائيلية. باكتمال نجاح الخطة دالت أعلن بن غوريون قيام دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948، وسارع أعضاء لجنة الأمم المتحدة، في مقدمتهم أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي، إلى قبول هذه الدولة الوليدة في قلب العالم العربي. غير أنّ التطهير العرقي وتوسع إسرائيل لم يتوقفا بل استمرا وشملا مناطق كانت ضمن الدولة العربية، وما زال التوسع الاستيطاني والتطهير العرقي في فلسطين قائما وإنْ أصبح أبطأ وأخذ أشكالا مختلفة. تسيطر إسرائيل اليوم على نحو 85% من الأراضي الفلسطينيّة، وتحاصر قطّاع غزة، وتسيطر على الضفة الغربيّة قاضمة أراضيها ببطء لكن بثبات، وتتحكم بحكومتها، السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عباس، الممثل الشرعي لفلسطين في المحافل الرسمية والمجتمع الدولي.
يؤرخ كتاب بابيه لما أنف بالتفصيل وتبيين كيّف قامت هذه الدولة بقوة الجريمة المنظمة والإرهاب، وطردت الناس من أرضهم، وتسليط الضوء على دور الجيران العرب في هذه السنوات التي شهدت قيام إسرائيل ما بين دعم قليل وخيانة وتآمر. لم يقتصر هذا على الجيران العرب بل شمل الداخل الفلسطينيّ ودخول دروز فلسطين في الحلف الصهيونيّ ضد جيرانهم العرب الفلسطينيين. أخطر ما يؤكده الكتاب هو ما يعرف بحلّ الدولتين وفقا لحدود سنة 1967، فهذا الحل -الذي يبدو منطقيا ومعقولا لبعض الفلسطينيين ومستحيلا لمعظم الإسرائيليين- يقفز على ما وقع من تطهير عرقي في سنة 1948 وتهجير مئات الآلاف من الفلسطيينين، لا سيما مع رفض إسرائيل تعويض الضحايا ولا الاعتراف بحقهم في العودة. ويرى بابيه أن الحل الناجع الوحيد هو دولة واحدة يعيش فيها اليهود والعرب سواء بسواء، غير أنّ هذه الدولة أكثر من مستحيلة إذا ما نظرنا إلى الواقعين الإسرائيليّ والفلسطينيّ.