آخيلوس في مواجهة هيكتور
آخيلوس الصنديد الباكي
إنْ قلنا إنَّ ملحمة الإلياذة كتبت في مجد آخيلوس لما جانبنا الصواب، فهو أعظم مقاتلي زمانه، وأشهر محاربي حرب طروادة، حبيب الآلهة وابن حورية البحر ثيتيس، مفرِّق الجماعات والموت الزؤام ومُجندل الأبطال في سوح الوغى، سريع القدمين الذي بانسحابه رجحت كفّة الطرواديين وبعودته رجحت كفّة مقاتلي الآخيين مجددًا. مجَّده هوميروس وأطراه ومدحه وجعل زيوس، كبير الآلهة، يقف في صفه وعلى يديه عرف الطرواديون الهزيمة النكراء والميتة المذلة لأميرهم وأقوى رجالهم وأشهر أبطالهم هيكتور مروض الخيول، وعند أقدامه ركع ملك طروادة عندما قدّم فدية جثمان ابنه الذي أخذه آخيلوس متوعدًا إياه بأن تنهش جثته الكلاب ولن يحظى بتكريم مشرِّف بعد موته. يتجاوز حضور ملك الميرميدونيين الجميعَ حتى الملك أجاممنون الذي يبدو قُبالته صغيرًا.
تبتدئ الملحمة في كتابها بالحديث عن غضبة آخيلوس، التي لعنت الآخيين وسببت لهم الخسائر وجعلت مروضي الخيول يثخنون فيهم قتلًا وتدميرًا حتى حاصروهم في معسكراتهم وأماكن تجمعهم القريبة من سفنهم المجوفة والبحر. وبغضبة آخيلوس ينسحب عن الحرب، شاعرًا بالحزن والأسى على شرفه المهان، وحتى عندما أقرَّ أجاممنون بخطأه وطلب رضاه وأرسل له الرُسل يسترضيه ويلتمس عنده المعذرة ويعوضه عما أخذ منه فإنه يأبى ويرفض، وما كان له أن يعود للحرب إلا بسبب موت صديقه باتروكلوس الذي سمح له آخيلوس بعد أن منحه عدته الخاصة بالقتال، ليغضب آخيلوس غضبة الانتقام التي ثأر فيها من قاتل صديقه العزيز وسالب أسلحته، هيكتور، في واحد من أجلى المشاهد التي صورها هوميروس وأروعها في الملحمة، وهي تسرد قصة القتال بين أشهر مقاتليْـن في الحرب، إنها الذروة التي حُبستْ فيها أنفاس الطرواديين لوحدهم لأن آخيلوس كان لا يُقهر ولا ترهبه مجاميع الرجال ولا أسلحتهم وطارد الطرواديين كالأسد الذي يلاحق قطيع غزلان مُشرِّدًا إياهم إلى ما وراء أسوار مدينتهم الحصينة والشاهقة.
لكن هذه الصورة البطولية الخارقة لنظير الآلهة في الشجاعة لم تكتمل إذ “يُخرِّبها” هوميروس بما لا يتوافق مع سمات الشخصية المقدامة التي تقود الأبطال ولا تتوانى عن جعل أبطال الأعداء يجثون على ركبهم قُبالته طالبين الرحمة. فبعد أن يسلب أجاممنون آخيلوسَ محظيته فإن الأخير بعد أن يغضب منه وينوي قتله ثم يتراجع بمشورة الإلهة أثينا وينسحب إلى خيمته فإنه يبكي على شرفه المهان، ويظهر في حال ضعيفة وهيئة تتنافى كل النفي مع مكانته قائدًا وملكا للميرميدونيين وأفضل وأشهر مقاتلي عصره حتى تخرج أمه ثيتيس من أعماق لتواسيه! لكن هوميروس لا يُبقي آخيلوس في حالة ثابتة تتلائم ما فيه من سمات البطولة رغم أنه محور الإلياذة وغضبته هي التي تؤرجح كفتي الحرب ما بين الآخيين والطرواديين. ويبدو أن هوميروس يركز على بكاء آخيلوس فيتكرر بكاؤه في ثلاثة مواضع: الأول ما ذُكر آنفا، والثاني وهو الأطول والأكثر مرارة وحرقة يسكب الدمع فيه مدرارًا على موت صديقه باتروكلوس الذي يُقتل في المعركة، والأخير عندما أتى بريام ليفدي جثة ابنه هيكتور فيبكي آخيلوس على والده -إذ يذكره بريام به ليستشفعه- وباتروكلوس. إن للبكاء لدى آخيلوس بدافعين الأول وهو الذي تعلوه سمة الضعف وعدم القدرة على الرد كما يريد، والآخر هو بدافع الحزن والأسى على فقدان من يحب، وهو بكاء على أعين الملأ فآخيلوس لا يبكي في الخفاء بل ويبكي معه الآخرون، إنه نوع من البكاء البطولي الذي يفخر به، وعلامة من علامات الحب التي يكنها لصديقه الذي مات. علاوة على ذلك فإن البكاء المقرون بالحزن العظيم لا يقلل منه على العكس تمامًا فهو يعزز من قدره مقاتلًا شجاعًا وصديقًا مخلصًا، وقبل كل شي إنسانًا بطباعٍ بشرية متعددة ومتباينة لا تنتفي مع شجاعته ولا تختفي خلف قناع زائف ولا تختبئ خلف ستار من ادعاءات كاذبة. إنها الصراحة والتوافق ما بين العالمين الداخلي والخارجي التي يجعل كل ما يقوم به مدعاة للإفصاح والإعلان دون تردد أو خوف أو التحفِّظ لأي اعتبارات.
هيكتور أمير طروادة
من بين جميع أبطال حرب طروادة التي مالت فيها كفَّة أبطال الآخيين كثيرًا، يبرزُ في الجهة المقابلة هيكتور أمير مدينة طروادة ذات الأسوار الحصينة والبوابات العملاقة، مروّض الخيول الذي أثخن في الغزاة قتلًا وتدميرًا، وهو أشجع الرجال المؤيَّد بالآلهة والحكيم الرأي وسليل زيوس، ولولا آخيلوس وشجاعته المنقطعة النظير لكان لهيكتور رأي آخر في الحرب الطويلة الأمد إلا إن مشيئة الآلهة كانت لها فصل الخطاب في الأخير وتحديد هُوية المنتصر ثم تدمير المدينة التي استعصت على الغزاة عقودًا طويلة، مدينة الملك بريام.
تبرز دوافع قتال الأمير هيكتور في الحرب لتكون الأكثر شرفًا من بين الجميع، وهو الوحيد الذي يبدو أنه يُقاتل لأهداف مشروعه وتحركه نوازع حكيمة لا يُمكن أن يُخالفه عليها إنسان. يُقاتل هيكتور دفاعًا عن مدينته طروادة، فهو إذن في مقام الدفاع عن الوطن والذود عن الحمى، ليس بغازٍ مغتصب ولا طامع سفَّاك للدماء يبحث عن السيطرة وتوسيع ممتلكاته وثرواته. وهو كذلك يقاتل دفاعًا عن عِرضه وأهله خاصة وشعبه عامة فقد اجتمعت له خاصيتين سيقاتل كل امرئ لأجلهما أحرَّ القتال وأشدَّه- الوطن والأهل. لنقف عند هيكتور البطل الشجاع والقائد المحنَّك والرجل الهمام الذي قضيته أعدل من قضايا الجميع وهو رغم يقينه بضعفه إذا ما قابل آخيلوس وهزيمته الموقَنة أمامه فهو حين آن أوان المواجهة الحقيقية مع آخيلوس، الذي كان يتميَّز من الغيظ وتتأجج في صدره نار الثأر والانتقام لباتروكلوس، فقد واجهه بشجاعة طلب منه أن يُكرم القاتلُ القتيلَ بتسليم جثمانه إلى جيشه وشعبه ليؤدوا مراسيم جنائزية تليق به لكن آخيلوس يرفض طلبه فلا اتفاق ولا عهود ولا مواثيق بينهما ويجيب آخيلوس:
“أي هيكتور، أيها البائس الملعون، إياك أن تحدثني عن العهود
فكما لا يُوجد صدق في الوعود بين البشر والأسود
وكما لا تكون للخراف والذئاب ذات الميول
فدائما ما يضمر كل منهم للآخر الشرور
فهكذا نحن أنا وأنت، فلن يستطيع أحدنا أن يحب الآخر،
ولن تكون بيننا عهود قبل أن يرتوي الإله آريس،
ذلك المحارب العتيد بدم من يسقط أولا، فلتستجمع كل قواك القتالية،
فهذا ما تحتاج الآن، تصرف بوصفك حامل رمح ماهر،
ومحاربًا جريئًا، حقًا ليس لك مفر بعد الآن،
فسوف تقضي عليك الإلهة باللاس أثينا
في التو برمحي هذا، كما أنك ستدفع أيضا جزاء
أحزاني على رفاقي الذي أرديتهم قتلى بحربتك العاصفة”.
كان هذا ردُّ آخيلوس على طلب هيكتور، والنهاية المعروفة المتمثلة بقتل هيكتور على يد آخيلوس سريع القدمين، والتمثيل بجثته قُبالة ناظر الطرواديين وملكهم بريام حيث دار بجثته التي ربطها بعربته حول أسوار طروادة ثم أخذها إلى معسكر الآخيين ليشبعَ نفسه بالانتقام العظيم ويبر بوعده بأن تنهش الكلاب جسد هيكتور إلا إن تدخل الإلهة يحول دون ذلك بقدوم بريام ليفدي جثمان ابنه هيكتور.
إن كان آخيلوس قد بزَّ الجميع طرواديين وإغريق بالشجاعة وحسن التصرف في القتال ونيل مجد الآلهة وكبيرها زيوس في الحرب والقتل وجندلة الرجال أفرادًا وزرافات إلا أننا نقف بعد رفض آخيلوس العهد بينه وبين هيكتور قُبالة رجلين أحدهما همجي قتّال والآخر متحضِّر شجاع، لذا فقد بزَّ هيكتور الطروادي مروضُ الخيل آخيلوسَ الغازي ملك الميرميدونيين في أخلاق الحرب وسلوكيات المقاتليين الأكفَّاء، فقد عامله هيكتور وطلب منه تكريم القاتل لقتيله بعد الموت بدافعٍ من تحضُّر طروادي وتمدُّن لم يعرفه آخيلوس الذي أعمى الانتقام بصيرته وأغلقت شهوة الدم كل أبواب الإنسانية التي لا بد أن تكون قرينة الشجاعة والإقدام والرجولة التي يتمتع بها لكنه يأبى إلا أن يكون متوحشًا بربريًا تحت تأثير الرغبة بالثأر الذي ناله برمحه الدرداري المثقل بالبرونز، فيقول بعد أن طعن هيكتور بحَنجرته وطلب منه الأخير تسليم جثمانه مجددًا إلى أهله ويمنحه شرف حرق جثمانه يجيبه آخيلوس:
“لا تستحلفني أيها الكلب بركبتيَّ أو بوالديَّ فليت غضبي
وجنوني يأمراني بتمزيق جسدك، والتهام لحمك نيئًا،
بسبب كل ما ارتكبتَ ضدي فليس هناك ما يدفع الكلاب عن رأسك،
حتى لو أحضروا لي فدية لا تعدُّ ولا تحصى، عشرة أضعاف
أو عشرين ضعفًا ولو تعهدوا لي بأكثر من ذلك…”
هكذا يستمر آخيلوس بتعنته ويصرَّ على عجرفته البربرية في حرب طروادة، تاركًا الأفضلية كاملة لهيكتور خلا تلك الخاصة بفنون الصِدام بين المقاتليْن وهمجية الانتقام.