التراث العربي

مختارات من شعر ابن الفارض

في السطور القادمة مختارات من شعر ابن الفارض وقصائده، وفي بعض الأبيات إشارة إلى عقيدة الاتحاد الصوفيّة بل إن كلَّ شعره يُمكن أن يُستقرأ بمعانيه الصوفيّة المختلفة. 

حُبيّكُم في الناس أضحى مذهبي * وهواكم ديني وعَقْدُ ولائي 

يا لائمي في حبِّ مَن مِن أجله * قد جدَّ بي وجدي وعزَّ عزائي 

هلّا نهاكَ نُهاكَ عن لوم امرئ * لم يُلْفَ غيرَ مُنعَّمٍ بشقاءِ 

لو تدرِ فيمَ عذلتني لعذرتني * خفِّضْ عليكَ وخلِّني وبلائي 

* 

وُهمُ بقلبي إنْ تناءت دارُهم * عني وسُخطي في الهوى ورضائي 

وعلى مَحَلّي بين ظهرانيهم * بالأخشبين أطوفُ حول حِمائي 

*

وإذا أذى ألمٍ ألمَّ بمُهجتي * فشذى أُعيشابِ الحجاز دوائي 

*

وترابُه نَدِّي الذكيُّ وماؤه * وِرْدي الرَّويُّ، وفي ثراهُ ثرائي

نَدُّ: عود طيِّب الرائحة يُتبخَّرُ به.

*

لم أخشَ وأنت ساكنٌ أحشائي * إنْ أصبحَ عني كلُّ خِلٍّ نائي 

فالناس اثنان: واحدٌ أعشقه * والآخرُ لم أحسبه في الأحياء 

*

التائية الكبرى ومطلعها: 

سقتني حُميَّا الحبِ راحةُ مقلتي * وكأسي مُحيَّا من عين الحُسنِ جَّلتِ 

فأوهمتُ صَحبي أنَّ شُربَ شرابهم * به سُرُّ سِريّ في انتشائي بنظرةِ 

*

‏فطوفان نوح عند نوحي أدمعي * ‏وإيقاد نيران الخليل كلوعتي 

‏ولولا زفيري أغرقتني أدمعي * ‏ولولا دموعي أحرقتني زفرتي 

‏*

وكلُّ أذىً في الحبِّ مِنكِ إذا بَدا * جَعَلتُ لهُ شُكري مكانَ شكيَّتي

‏نَعَمْ وتباريحُ الصَّبابةِ إنْ عَدَتْ * عليَّ، مِنَ النعماءِ، في الحُبِّ عُدَّتِ

‏ومِنكِ شقائي بَلْ بَلائي مِنَّةٌ * وفيكِ لِبَاسُ البؤسِ أسبَغُ نِعمَةِ

‏*

ولو خطرتْ لي في سواكِ إرادةٌ * على خاطري سهوًا قضيتُ بردَّتي 

*

وإن فَتنَ النُسَّاكَ بعضُ محاسنٍ * لديكَ فكُلٌّ منكَ موضعُ فتنتي 

*

فلم تهوني ما لم تكنْ فيَّ فانيا * ولم تفْنَ ما لا تُجتلى فيكَ صورتي

*

أجَل أجلي أرضى انقضاهُ صبابةً * ولا وصل إن صحت لحبك نسبتي

‏وإن لم أفز حقا إليكِ بنسبةٍ * ‏لعِزتها حسبي افتخارا بتهمةِ

‏*

وإني إلى التهديد بالموتِ راكنٌ * ومن هوله أركانُ غيري هدَّتِ 

ولم تعسِفي بالقتل نفسي بل لها * به تُسعِفي إن أنتِ أتلفتِ مُهجتي 

*

وإذا ما أحلَّت في هواها دمي ففي * ذرى العزِّ والعلياء قدري أحلَّتِ 

لعَمْري وإن أتلفتُ عُمري بحبها * ربحتُ وإن أبْلتْ حشاي أبلَّتِ 

ذللتُ لها في الحي حتى وجدتني * وأدنى منالٍ عندهم فوقَ همَّتي 

وأخملني وهْنًا خضوعي لهم فلم * يروني هوانًا بي مَحلًّا لخدمتي 

ومِن درجاتِ العزِّ أمسيتُ مُخلَّدًا * إلى دَرَكاتِ الذُّلِّ من بعد نحوتي 

*

فلو قيل من تهوى وصَّرحتُ باسمها * لقيلَ كنَّى أو مسَّهُ طيفُ جِنَّةِ 

ولو عزَّ فيها الذُّلُّ ما لذَّ لي الهوى * ولم تُكُ لولا الحبُّ في الذُّلِّ عزَّتي 

*

جلَّتْ في تجلِّيها الوجودَ لناظري * ففي كُلِّ مرئي أراها برؤيةِ 

وأُشْهِدْتُ غيبي، إذ بدت، فوجدتُني * هنالك إياها، بجَلْوَةِ خلوتي 

وطاحَ وجودي في شهودي وبِنْتُ عن * وجودِ شهوي ماحيًا غيرَ مُثبِّتِ 

 *

فوصفي إذ لم تُدْعَ باثنين وصفُها * وهيئتُها إذ واحدٌ نحنُ هيئتي 

وإن نطقتْ كنتُ المُناجي كذاك إن * قصصتُ حديثًا إنما هي قصَّتِ 

*

وصرّح بإطلاق الجمال ولا تقل * ‏بتقييده ميلا لزخرفِ زينةِ 

‏فكل مليحٍ حُسنه من جمالها * ‏معارٌ له بل حُسن كل مليحةِ

‏بها قيس لبنى هامَ بل كل عاشق * ‏كمجنون ليلى أو كُثيّر عَزَّةِ 

‏فكلٌ صبا منهم إلى وصف لَبْسها * ‏بصورة حسن لاح في حسن صورةِ

‏*

ولي من أتمِّ الرؤيتين إشارةٌ * تُنزَّهُ عن رأي الحلولِ عقيدتي

وفي الذكرِ ذكرُ اللبس ليس بُمنكرٍ * ولم أعدُ عن حُكمَيْ كتابٍ وسُنَّةِ 

*

وروحي للأرواح روحٌ وكلُّ ما * ترى حَسَنًا في الكون من فيضِ طينتي 

*

أسائلها عني إذا ما لقيتها * ومن حيث أهدتْ لي هُداي أضلَّتِ 

وأطلبها مني وعندي لم تزل * عجبتُ لها لي كيف عني استجنَّتِ 

وما زلتُ في نفسي بها مترددًا * لنشوة حسي والمحاسنُ خمرتي 

وأُسافر عن عِلمِ اليقين لعينه * إلى حقه حيثُ الحقيقةُ رحلتي 

وأنشُدُني عني لأرشدَني على * لساني إلى مُسْترشِدِي عند نشدتي 

وأسالُني رفعي الحجاب بكشفي الـ * نقاب وبي كانت إليَّ وسيلتي 

وأنظرُ في مِرآة حُسني كي أرى * جمالَ وجودي في شهوديَ طلعتي 

فإن فُهتُ باسمي أُصغِ نحوي تشوُّقًا * إلى مُسمِعي ذِكري بنُطقي وأُنصتِ 

*

هي النفسُ إنْ ألقتْ هواها تضاعفت * قواها وأعطتْ فِعلها كلَّ ذرَّةِ 

وناهيكَ جمعًا لا بفرقِ مساحتي * مكان مقيسٍ أو زمان موقَّتِ 

بذاك علا الطوفان نوحٌ وقد نجا * به مَن نجا من قومه في السفينةِ 

وغاض له ما فاض عنه استجادةً * وجدَّ إلى الجودي بها واستقرَّت 

وسارَ ومتنُ الريح تحت بساطه * سُليمانُ بالجيشين فوقَ البسيطةِ 

وقبل ارتدادِ الطرف أُحضر من سبا * له عرشُ بلقيسٍ بغير مشقَّةِ 

وأخمدَ إبراهيمُ نارَ عدوِّه * وعن نوره عادتْ له روضَ جنَّةِ 

ولما دعا الأطيار من كلِّ شاهقٍ * وقد ذُبحتْ جاءته غيرَ عصيَّةِ 

*

ولا تحسبنَّ الأمرَ عني خارجًا * فما سادَ إلا داخلٌ في عبوديتي 

ولولاي لم يُوجدْ وجودٌ ولم يكن * شهودٌ ولم تُعهد عهود بذمَّةِ 

فلا حيٌّ إلا من حياتي حياته * وطوعُ مرادي كلُّ نفسٍ مُريدةِ 

ولا قائلٌ إلا بلفظي مُحدِّثٌ * ولا ناظرٌ إلا بناظرِ مقلتي 

ولا منصتٌ إلا بسمعي سامعٌ * ولا باطشٌ إلا بأزْلي وشدَّتي 

ولا ناطقٌ غيري ولا ناظرٌ ولا * سميعٌ سوائي من جميع الخليقةِ 

*

ولولا احتجابي بالصفات لأُحرقت * مظاهرُ ذاتي من سناء سجيَّتي 

*

وإن عَبَدَ النارَ المجوسُ وما انطفت * كما جاء في الأخبار في ألفِ حجَّةِ 

فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم * سواي وإن لم يُظهروا عقد نيَّةِ 

ورأوا ضوء نوري مرَّةً فتوهَّمــــــو * ـه نارًا فضلُّوا في الهدى بالأشعةِ 

ولولا حجاب الكون قُلتُ وإنما * قيامي بأحكامِ المظاهرِ مُسكِتي 

انتهى المختار من التائية الكبرى 

*

عتبتُ فلم تُعتب كأن لم يكن لِقًا * وما كان إلا أن أشرتُ وأومتِ 

أيا كعبةَ الحسن التي لجمالها * قلوبُ أولي الألبابِ لبَّتْ وحجَّتِ 

بريقُ الثنايا منكِ أهدى لنا سنا * بريقِ الثنايا فهو خيرُ هديَّةِ 

وأوحى لعَيْنِي أنَّ قلبي مُجاورٌ * حماكِ فتاقتْ للجمالِ وحنَّتِ 

*

من لي بإتلافِ روحي في هوى رشإٍ * حلو الشمائل بالأرواح ممتزجِ 

من ماتَ فيه غراما عاشَ مرتقيًا * ما بين أهل الهوى في أرفعِ الدَّرَجِ 

*

أيا ساكني نجدٍ أما من رحمةٍ * لأسيرِ إلف لا يريدُ سراحا 

هلا بعثتم للمَشوقِ تحيَّة * في طي صافية الريح رواحا  

يحيا بها من كان يحسب هجركم * مزحًا ويعتقدُ المزاحَ مزاحا 

*

خليليَّ إن جئتما منزلي * ولم تجداهُ فَسِيحًا فَسِيحَا 

وإن رُمتنا مَنطِقًا من فمي * ولم تسمعاه فصيحًا فَصِيحا 

*

خفف السيرَ واتئد يا حادي * إنما أنتَ سائقٌ بفؤادي 

*

خخفي الوطء ففي الخيف سلِمـ * ـتِ على غيرِ فؤادٍ لم تطي

*

وهذان شبيهان بقول المعري: 

خفف الوطء ما أظنُ أديم الـ * أرض إلا من هذه الأجساد 

*

قَسَمًا بمن فيه أرى تعذيبه * عذْبًا وفي استذلاله استلذاذا 

*

أبدًا تسُحُّ وما تشحُّ جفونه * لجفا الأحبَّة وابلا ورذاذا 

مَنَحَ السُّفوحَ سُفوحَ مَدْمَعه وقد * بَخَلَ الغمامُ به وجادَ وِجاذا

قال العوائدُ عندما أبصرنه * إن كان من قتلَ الغرامُ فهذا 

جاذ: حفرت. 

*

أهوى رشًا هواه للقلب غِذا * ما أحسنَ فِعْلُه لو كان أذى 

لم أنسَ وقد قلتُ له الوصلُ متى * مولاي إذا مُتُّ أسى؟ قال إذا 

  

*

عيني جرحت وجنته بالنظر * من رقتها فانظرْ لحسن النظر 

لم أجنِ وقد جنيتُ ورد الخَفَر * إلا لترى كيف انشقاقُ القمر 

*

لما نزل الشيب برأسي وخطا * والعمرُ مع الشباب ولَّى وخطا 

أصبحتُ بسُمرِ سمرقندٍ وخَطا * لا أفرِّق ما بين صوابٍ وخَطَا 

خطا الأولى: مدينة في تركيا. 

*

لا تحسبوني في الهوى متصنعًا * كلفي بكم خُلُقٌ بغير تكلُّفِ 

أخفيتُ حبكم فأخفاني أسًى * حتى لعَمري كدتُ عني أختفي 

وكتمته عني فلو أبديته * لوجدته أخفى من اللطفِ الخفي 

*

كملت محاسنه فلو أهدى السنا * للبدر عند تمامه لم يُخسَفِ 

وعلى تفنن واصفيه بحُسنه * يفنى الزمان وفيه ما لم يُوصفِ 

*

يا محيي مهجتي ويا متلفها * شكوى كلفي عساك أن تكشفها 

عين نظرت إليكَ ما أشرفها * روح عرفت هواك ما ألطفها 

*

وكفاني عِزًّا بحبكَ ذُلّي * وخضوعي ولستُ من أكفاكا 

*

يُحشر العاشقون تحت لوائي * وجميع الملاحِ تحت لواكا 

*

يعبقُ المسكُ حيثما ذُكرَ اسمي * منذُ ناديتني أقبل فاكا 

*

أشاهدُ معنى حُسنكم فيلذ لي * خضوعي لديكم في الهوى وتذللي 

*

أدرْ ذِكر من أهوى ولو بملامِ * فإن أحاديثَ الحبيب مُدامي 

*

وكنت أحسبُ أني قد وصلت إلى * أعلى وأغلى مقام بين أقوامي 

حتى بدا لي مقام لي يكن أرَبي * ولم يمُرَّ بأفكاري وأوهامي 

*

فلها الآن أصلي قبلتْ * ذاك مني وهي أرضى قبلتي 

*

وادْعُني غير دعيّ عبدَها * نِعمَ ما أسمو به هذا السُّمي 

إن تكنْ عبدًا لها تُعَدْ * خيرَ حُرٍّ لم يشُبْ دعواه لي 

*

أهوى رشأً رُشَيْقَ القد حُلَيّ * قد حكَّمه الغرامُ والوجدُ عَلَيْ 

إن قلتُ خذِ الروح يقل لي: عجبا * الروحُ لنا فهاتِ من عندكَ شيْ 

*

ومن قصائده بعد تائيته الكبرى والصغرى

– قصيدة لن ترى، ومطلعها: 

زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا * وارحمْ حشًى بلظى هواك تسعَّرا 

– قصيدة قلبي يحدثني، ومطلعها: 

قلبي يحدثني بأنكَ متلفي * روحي فداكَ عرفتَ أم لم تعرفي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى