الأخوات برونتيروايات

البنات برونتي – غاري كيلورث

’لا يزال الإرث الرومانسي لآل برونتي للأجيال اللاحقة مُساعدًا بقوة مستقلِّة عن قدراتهن المستخدمة- بالصورة الشاخصة لحياتهن الكئيبة والفقيرة، ووَحْدتها، وتاريخها المأساوي. عُلقت هذه الصورة قُبالتنا بإصرارٍ وحيوية كأي صفحة من رواية جين إير أو وذرينغ هايتس. وإذا كانت هذه الأمور “قصصا” كما نقول، وقصصًا ذات فائدة زاهية، فإن الوسط الذي انبثقت منه في المقام الأول قصةً في ذاته، وقصة كهذه ستنال بإنصافٍ أحقيَّةَ تقديرنا. إنها تغطي وتدعم مادَّتهن، وأرواحهن، وأساليبهن، وموهبتهن، وذوقهن؛ إنها تجسِّد في الواقع الأحجية الفكرية الأكمل، إنْ لم أبالغ في القول، التي حققها جمهورنا الرائع في سؤال الأدب‘. هنري جيمس. 

شكَّلت حياة الأخوات برونتي في قرية هاورث، النائية عن المدينة والحضارة، في النصف الأول من القرن التاسع عشر عاملَ جذبٍ قوي لأدبهن الروائي والشعري، وعزَّزت ظروف الحياة الصعبة والموت المبكر للأخوات هذه الصورة، شفعتها سيرة إليزابيث غاسكل “حياة شارلوت برونتي” ثم دراسة رواياتِ الأخوات في وضع الأخوات برونتي في مقام رفيع في الأدب الإنجليزي ثم العالمي. وفي الوقت الذي توجَّهت فيه الأنظار نحو أدبهن فإنَّ حياتهن بقيت شاخصة ومحطَّ اهتمام يوازي أدبهن، فهي كما يقول هنري جيمس حكاية بل قصص. في هذه الرواية التي حملت عنوان “البنات برونتي The Bronte Girls” يستندُ الروائي الإنجليزي غاري كيلورث إلى حياة الأخوات برونتي والهوس بهن لدى مُريديهن في كتابة رواية حملت في طيَّاتها طيفًا من المواضيع المتعددة مثل الهوس الأدبي، كره القرن العشرين وعصر الآلة، العزلة الاجتماعية، النظام الأبوي، السلوكيات المَرَضيّة، العنف الأسري، العنف ضد الأطفال، الانفصال الزوجي، تأثيرات الانفصال في الأبناء، التنمُّر المدرسيّ، صدمة العالم الجديد، التربيّة الأموميّة وعوائقها، الثورة ضد النظام الأبوي، سلطان القانون والسلطة، ومواضيع أخرى. تمتزجْ هذه المواضيع في بوتقة الرواية في مسارين منفصلين يلتقيان في مراحل لاحقة، وموزَّعة على أوقات مختلفة متتابعة. 

عائلة هاورث  

قرَّر الفلاح جيمس كراستر بعد زواجه حنا وإنجابه ابنة أسماها سارة ثم ابنة أخرى، أن ينسخَ حياة الأخوات برونتي فغيَّر اسم ابنته الأولى إلى شارلوت، وأسمى الثانية إميلي، وطمح أن يُرزقَ بثالثة ليُسميها آن، فتحقق له ما رغب. ثم انعزل بعائلته للعيش في جزيرة راتان، أسماها هاورث، المحاطة بنهر روتش ومستنقعات ونائية عن الناس، حيث عاش مع عائلته بعيدا عن المدنيّة وأجواء القرن العشرين ومستخدمًا العربة والزورق عند الخروج القليل من الجزيرة. لم تختلطِ العائلة إلا بشخصيات محدودة مثل مشرفة التعليم على بنات كراستر في زيارات بين الحين والآخر، إذ تلقَّت البنات تعليمهن في البيت بإشراف أبويهنَّ. ولم تتعرف البنات على أطفال سوى ابني عمهما، أخٌ وأخت، مرةً كلَّ سنتين، وقد حذَّرهما عمهما كراستر تحذيرًا شديدَ اللهجة إذا ما أفسدا عقول بناته بقصص العالم الخارجي وآلاته، فكانا أغلبَ عطلة نهاية الأسبوع ساكتين لا ينبسان ببنت شفَّة عن ذاك العالم. واحتكَّ بالعائلة دان (دانيل سبيلي) مساعد كراستر، رجلٌ في العقد الرابع أو الخامس من العمر، عمل مع كراستر في المزرعة وتحمّل أسلوبه الفظ الخشن والعنيف، لكنه في ذات الوقت كان يجد في نفسه ميلًا خفيًا إلى إميلي، بالأحرى كانت أجمل ما يجده في المزرعة، ولديه نحوها ميلٌ في الغالب جنسيٌّ. شكَّلت أحداث جزيرة هاورث المسار الأول لأحداث الرواية، أما المسار الثاني فوقعتْ أحداثها على الجانب الآخر من النهر الفاصل في قرية باغليشام إلى الغرب حيث عاش كريس وأمه، شخصيتان رئيستان في الرواية، وقرية بارلنغ إلى الجنوب حيث عاش دان وأخته.

كان الأب جيمس كراستر فلاحًا كره القرن العشرين والآلة واتّفق مع زوجته أن يعيشوا بعيدًا عن القرن العشرين بآلاته وأجهزته وسياراته ومولداته وأسلحته وحروبه ومساوئه الأخلاقية والاجتماعية، وأن يبقوا في أجواء القرن التاسع عشر ويربوا بناتهما وفقَ معايير ذاك العصر الذي يصفه “بلغت البشرية في القرن التاسع عشر أعلى ذروة التفوّق وما من داعٍ لاستبدال آلهة العصر الباردة المُديرة للحياة- الآلات بذاك المُنجز العظيم”. فرضَ هذا الأب على عائلته أفكاره ومبادئه ومعتقداته الدينية والأخلاقية والاجتماعية، فمثلا اقتصرت الكتب التي تصل إلى هاورث على تلكِ المطبوعة قبل عام 1900، وأيَّ كتاب مطبوع بعد هذا العام ممنوعٌ في البيت. وامتاز بأسلوب عنيف خارج المنزل، ويجد ضالته في إفراغ العنف في معاملته القاسية للحيوانات ومن يعمل معه. كما بغض كراستر الشباب وكرههم، ورأى فيهم آفة للتخريب الأخلاقي والدمار الأسري ومثاله في ذلك برانويل برونتي، أخ الأخوات برونتي التعيس الحظ، فحذَّر بناته بهذا المثال السيئ من الذكور. يتَّضح في هذا العرض الموجز عن كراستر أنَّه أبٌ مهووس، أقرب إلى رجل يعاني أمراضًا نفسيّة واضطرابات سلوكيّة، ومتجاهلًا طبيعة العالم وتغيُّر المجتمع وتطوّر الحياة، فأرغمَ عائلته، لا سيما بناته، على نمطٍ حياتي مختلف جذريا عن زمانهن مع إبعاد قسري عن محيطهن. لم تكن الفتيّاتُ سميَّاتِ الأخوات برونتي أول الأمر إلا بعد ولادة البنت الثانية وأسميتْ إميلي، ويُشير هذا إلى تشتت هُوياتي مبدأيا في ذوات بنات كراستر فمن المفترض أنهن سيعشن بأسماء أخرى، وربما حياة أخرى، لكن فُرضَ عليهن نمطٌ حياتي آخر، فعشن في أسماء ليست أسمائهن وعالم ليس عالمهن، وهذا يشي باضطرابات نفسية وسلوكية متوقعة من البنات سواء في عالم هاورث أو العالم الخارجي.  

كانت الزوجة حنا موافقة في البداية لكنها مع بلوغ بناتها بدأت تستشعر خطأ الانعزال وفصل بناتهما عن العالم الخارجي. ومع تزايد شعورها بخطأ الدرب الذي قطعته مع زوجها بقيت خاضعة لإرادته ولا تخرج عن شوره وأمره، في بيت منعدمة فيه الخصوصية ولا تجد لها ملاذا سوى الحمَّام حيث تجلس بضعَ ساعات في النهار بين حين وآخر أثناء غياب زوجها أو عمله في المزرعة دون أن تشعره بذلك، لكن بناتها كنَّ على علمٍ بفعلتها المتكررة هذه دون أن يبنسنَ ببنت شفة عن الأمر في تواطئ خفيّ بين الأم وبناتها في بيت كانت الأسرار تجري فيه، والاتفاقات الصامتة بين أهله. غالبا ما وجدت حنا نفسها في صراع ما بين دورها أمًا صالحة ودورها زوجةً مُخلصة، فهذا ما جعلها في تراشق بين حالين متناقضين شعورها بالواجب نحو بناتها ورغبتها في أن يعشنَ حياةً أفضل، وبين واجبها الأخلاقي تجاه زوجها بعد أن وافقت على خططه في الانعزال عن القرن العشرين والعيش في القرن التاسع عشر المتخيَّل مع عدم قناعتها الكاملة بكل معتقدات زوجها الاجتماعيّة والفكريّة. كلما تقدَّمتْ بناتها في السنِّ وصرنَّ إلى البلوغ أقرب اقتنعت حنا، وهذا سبب شقائها، بأنَّ بمقدور بناتها أن يتلاءمن مع العالم الخارجين ويتماشين، لكنَّ صدَّها عن ذلك إرادة زوجها الحديدية التي ما تزحزحت ولا تضعضعت في حجر بناته في هاورث. لم تكن حنا في منأى عن إدراك التوتّر في التواصل المتطور بين بناتها وأحاسيسهن بأجسادهن والعالم الخارجي، لا سيما أكثر بناتها تمرُّدًا إميلي، وأخذت دورها هي الأخرى في إفهام بناتها بأجوبة مغلوطة عن بعض الأسئلة المُحرجة مثل كيف يولد الإنسان، أجابت حنا إميلي بأن الرجل والمرأة إذا اضطجعا قرب بعض تحت أنظار الرب ورعايته فإن المرأة تحمل في جوفها بالطفل. 

تبدأ الرواية والبنات برونتي في سن متقدِّمة فشارلوت في السادسة عشرة، وإميلي في الخامسة عشرة، وآن الصغرى في الحادية عشرة. إنَّ أولَ ما يتنبَّه إليه القارئ المطَّلع على حياة الأخوات برونتي إنَّ بنات كراستر هنَّ متشابهات سلوكيًا ونفسيًا بالأخوات برونتي، كلُّ بنتٍ تشبه سميَّتها. فالكبرى شارلوت، مثل شارلوت برونتي، ابنة أبيها والعائلة “المؤسسة الأبوية والاجتماعية” كارهة للعالم الخارجي ومتشرِّبة لكلِّ أقوال أبيها وادِّعائاته، مع طبيعة مترددة طيّبة عطوفة، وكاتمة لكثير من أحسايسها، وكابتة لغرائزها فتوّجهت على غير وعي وإرادة نحو أبيها في هيئة مشاعرَ خفيّة غير مصرَّح، بها فهي حين تراقص أبيها تتخيله جنديا عائدا من الحرب النابليونيّة، وتجلسُ أحيانا قُبالته في مشهدٍ صموتٍ لا يعلمُ القارئ ماذا تشعرُ شارلوت حقًّا، لكن في محيطٍ منعزل عن العالم الخارجي والرجال، فهذه البنت البالغة المستشعرة بغريزتها، وإنْ لم تحدد بالضبطِ نوعا ما يعتلج في صدرها، تحاولُ توجيه هذا الشعورَ إلى أبيها، إلى الذكر الوحيد الذي تحتكُّ به، ولربما كانت تغبطُ أمها في قرارة نفسها ولا وعيها حين تنظرُ إليها مع أبيها. 

أما إيملي ذات الخمسة عشرَ ربيعا، فهي مثل سميَّتها، قويّة ومتمرِّدة وفيها شيء من الرفض والعناد والرغبة بمعرفة العالم الخارجي، ولديها أحلام إيروتيكية كما في حلمها باللورد بايرون وطلبه الزواج منها، وفي رؤية صدره المُشعر في الحلم الذي قصَّته على أمها -تأثرت إميلي برونتي بلورد بايرون وشخصية هيثكليف في وذرينغ هايتس هي شخصيَّة بايرونيّة-. بدا للبلوغ الجنسي تأثير في نفس إميلي ودافع لها للتعرّف على الذكور. كما نجد لديها طبيعة ذكوريّة إلى حد ما ولعلَّ هذا ما يفسره أخذ إيملي دور السيد عند الرقص في حين تأخذ آن دور السيدة. أحسَّ كراستر بهذه الطبيعة الحرون والعنود في ابنته إميلي، وغالبا ما وجَّهت له أسئلة خارجة عن السياق الذي وضع فيه بناته، والأمر لا يختلف مع حنا التي عرفت إميلي باختلافها عن بناتها، ولهذه الصفات المائزة كان لإميلي الصدارة والبطولة في الرواية، فهي بؤرة الأحداث ووقائعها المتطوِّرة، وكان متوقَّعًا لها أن تقود ثورةً ضد هذا النظام الأبوي والاجتماعي الذي فرضه عليهم أبوها. 

آن الصغرى، ذات أحد عشر ربيعا، حالمة رقيقة وموقفها حيادي بين الرغبة والنفور من العالم الخارجي، مع ميل أكثر إلى الرغبة باكتشاف العالم الخارجي بدا جليا في انسجامها السريع معه في آخر الأمر، على العكس مثلا من إميلي التي قاسته في تجربتها الأولى، ولم تستطع شارلوت أن تتقبله وبقيت في المزرعة. كانت آن تعاني وتتعب وتمرض دون أن يعرف سبب تعبها فهو مرض غامض، لكنها بعد دخول العالم الخارجي تحسنت وما عادت تشكي من مرضها، فتعبها تعب نفسيٌّ سبَّبه عالم هاورث ونمطه العائلي وقوانينه.  

قرأت البنات لشعراء وأدباء القرن التاسع عشر وتعلمن في المنزل، فأمهن كانت معلمة، وحظين بمعرفة واسعة في الأدب والشعر، وامتلكن بفضل ذلك لغة إنجليزية فصيحة عالية، ولم تُخرَّب لغتهن بآفات اللهجات والمصطلحات الدارجة فكنَّ أجهلَ الناس بلغة العالم الخارجي ومصطلحاته لأن لغتهنَّ لغة الأدب المعتمد والشعر الأصيل. 

العالم الخارجيّ  

بعيدًا عن هاورث كان عالم القرن العشرين بكلِّ فضائله ومثالبه وخيره وشرّه وبمُنجزاته ومفاسده، العالمُ الذي كرهه كراستر وورَّثَ كرَه إلى بناته الثلاث حيث عاش كريس (كريستوفر)، فتى ذو خمسة عشر ربيعا، مع أمه سالي التي انفصلت منذ مدة عن زوجها. عانى كريس تنمّر زميله سوان في المدرسة، مَن رأى نفسه حاكم ساحة اللعب، ووجد نفسه وسط دوامة مضطربة من عقبات ما بعد انفصال أبويه، وتأثيرات سلوك أبيه المدمن على الكحول والضارب لزوجته والمسيء المعاملة لهما. حاول والد كريس أن يزور زوجته وابنه بين الحين والآخر على مضض منهما وكره. تعرفت سالي بعد انفصالها على توم، الموظف في مؤسسة خدمات اجتماعية. كان والد كريس أيضًا على علاقة بامرأة أخرى. في أحد الأيام نظرَ كريس في المنظار وأبصرَ نورًا في جزيرة راتان، وساوره الشك عمن يعيش في تلك البقعة النائية المنعزلة، حتى جاء الشتاء وجمدت الأرض والمستنقعات والمخاضات والنهر حول هاورث فبدأ بمغامرة اكتشاف ذلك المكان، حتى وصلَ إلى بيت كراستر ورأى البنات الثلاث عند النافذة ورأينه هنَّ كذلك، فتولدت شرارة انجذاب متبادل وفضول في نفسه وإميلي. أنهى كريس مغامرته عند هذا الحد، وأقفلَ راجعًا لكنه حدَّث نفسه بتكرار التجربة في يوم لاحق. عاد كريس بعد مدة إلى جزيرة راتان، وطرق الباب فخرجت له أميلي، وطفقَ يسألها عن أبيها وأمها، فحذرته من فعلته بسبب كره أبيها للشباب وما يرى فيهم شر ونزعة تخريبيّة، وكان أول اختلاف بينهما هو اختلاف اللغة ما بين الفصحى واللهجة، وصعوبة التواصل بينهما بلغة مشتركة والفهم السريع في الحديث. أخذت إميلي عنوان كريس واتفقت معه على المراسلة لكنها هي وحدها من ستبعثُ إليه بالرسائل وحذرته أن يرسل إليها أيَّ رسالة. طلبت إميلي في وقت لاحق من دان أن يُوصل رسالتها إلى عنوان كريس، وكتبت في الرسالة تدعوه إلى لقاء يوم السبت حين يغادر أبوها وأمها البيت في شأن لهما خارج الجزيرة، وجعلت من دان ساعي بريدها الذي وافق بعد رفضٍ لمعرفته بنظام الحياة الذي فرضه كراستر، لكنه خضع لطلبِ إميلي ووضع الرسالة في صندوق رسائل بيت كريس.  

جاء موعد اللقاء، تحضَّر كريس للقائها واعتنى بهندامه لابسًا لبس يافعين معاصر من بنطالٍ وقميص وحذاء وقبعة وكلها ماركات حديثة، في حين لبست إميلي من ثياب القرن التاسع عشر: تنورة، وسترة، ومعطف طويل إلى العقبين، وحذاء طويل العنق ذو أربطة، ووشاح قرمزي، وفراء اليد (فراء إسطوانيّ لتدفئة اليدين)، وبدا التباين واضحا بين مظهري الاثنين قبل أن يلتقيا. بانت أول عقبة بينهما عند اللقاء الثاني، كما في اللقاء الأول، متمثلة في اللغة فإميلي تتحدث لغة إنجليزية فصحى، لغة القرن التاسع عشر، لغة الأدب والشعر العالية والجزلة ذات البلاغة، في حين يتحدث كريس بلكنة عصره بألفاظها الخشنة ومصطلحاتها الغريبة على أذني إميلي، والتي تجهل مقاصدها تماما، ويبدو حوارهما أحيانا حوارَ طرشان، فكريس منبهر إلى درجة يحسبها تتصنَّع أو تُمثِّل متحدِّثة بلغة رفيعة غريبٌ عنها، في حين إميلي تقف مشدوهة لا تعلمْ أيَّ لغةٍ يتحدث. لعلَّ أطرفَ حادثتين عن عائق اللغة يبرزُ لنا حين سألت إميلي كريس إن كان أحبَّ حركتها في ترتيب هذا اللقاء، فأجابها بأنَّه يحب الفتاة ذات الجرأة مستخدما مصطلح “A bit of bottle”. لم تفهم إميلي مراده وظنَّته يعيب عليهما دقَّة ساقيها متذكِّرة قول شارلوت بأن لها ساقي قارورة “Bottle legs”. أما الموقف الثاني فكان عند التعارف على الأسماء إذا قال لها إن اسمه كريس Chris فظنَّته Kris، وكريس كما قالت له هو اسم سكينة أدغال عند قبائل الملايو، فصحَّحَ لها اسمه بأنه كريستوفر فأعُجبتْ بالاسم الذي ذكَّرها بكريستوفر مارلو والقديس كريستوفر، لكنها استهجنت الاختصار كريس فكريستوفر ليس كريس، لا تعرف إميلي هذه الاختصارات المُشوّهة للأسماء، فقالت له إن اسمه مثل كِت. أما كريس فمن جانبه سألها إن لم تمانع أن يُناديها بإيما تيمنًّا باسم الممثلة إيما تومسون.

كان مكان اللقاء المُبرم هو جزيرة راتان لكن كريس بأسلوبه الشبابي المحفِّزُ والمتحمِّس والمتهوِّر استطاع أن يقنعَ إميلي بالخروج من الجزيرة معه، وأخذا جولة في العالم الخارجي الذي لم تره إميلي من قبل قطُّ. انطلقتْ إميلي بدافعٍ ذاتي وتحفيز كريس إلى العالم الخارجي، متخيِّلة نفسها قبطان سفينة يكتشف مجاهيل البحار والجزر أو أنها في بعثة استكشافية في العالم الجديد. ما أول ما لفتَ انتباه إميلي في هذا العالم الخارجي؟ كان مسألة الجندر وزوال الفوارق بين الذكور والإناث، فاستهجنت كلَّ الاستهجان حين رأت امرأة تلبس لباسًا رجاليًا، وكان لإميلي أحكامها الأخلاقية والاجتماعية ذات معايير القرن التاسع عشر، حتى إنها غضَّت بصرها حين واجهتها امرأة مكشوفة الجيد بارزٌ أعلى نهديها. وانبهرت من كلِّ جديد في هذا العالم، كما رهبته وأصابتها وعكة صحيّة وشعرت بالدوار والغثيان حين غامرت بمغادرة الجزيرة وولوج العالم الخارجي، وبلغَت أسوأ حالٍ في تجربة ركوب الحافلة. 

إنَّ ردَّة فعل إميلي تجاه العالم الخارجي أشبه ما تكون فصلًا من روايات الخيال العلمي، لا سيما رواية النائم يستيقظ لجورج هربرت ويلز. تفاجأ غراهام بعد هجوعه نحو مئتي عامٍ أنَّ العالم قد تغيَّر فيه كلُّ شيءٍ وأضحى هو المالكُ الأوحد له، ليبدأ بعدها مرحلة معايشة هذا العالم وفَهمه. ونرى إميلي لا تختلف عن غراهام كثيرًا، ولا أحسبُ غاري كيلورث غافلًا عن هذه الرواية والإشارة غير المباشرة لرواية ويلز، وفيها يقرن الحالين مع بعض لتشابههما، فغراهام الذي نامَ في القرن التاسع عشر واستيقظَ في القرن الحادي والعشرين مثل إميلي التي عُزلتْ في هاورث القرن التاسع عشر وأضحت على حين غرة في القرن العشرين لتتفاجأ بكلِّ ما فيه متأثرِّةً على المستوى النفسي والجسدي، فما الغثيان الذي أصباها والدهشة التي ضربتها إلا نتاج عملية الإندماج الجديدة مع العالم الخارجي الذي أُقصيتْ عنه رغمًا عنها خمسَةَ عشرَ عاما. ولعلَّنا لا نجانب الصوابَ كثيرًا إذا ما قرنَّا هذه الرحلة إلى العالم الخارجي برحلة الأبطال إلى عالم الأموات في الملاحم البطولية القديمة، فرحلة إميلي هي الأخرى رحلةٌ إلى الجحيم كان لا بدَّ منها والخروجُ من الجحيم ضرورةٌ للاستعداد للعودة مجددًا إلى الجحيم/ العالم الخارجي، لأنه العالم الحقيقي لا عالم هاورث المزيَّف في سلطة أبٍّ مهووس بخيالاته المَرَضيّة وعلله النفسية. 

انجذب كريس وإميلي لبعض ولعالميهما المختلفين ما بين عالمٍ خارجي مليء بكل هذه الفظائع وعالم داخلي منعزلٍ عن كلِّ تطورات الحياة ومُنجزات الحضارة المدنيّة. رغم كلَّ ما واجهته إميلي من صعوبة عند رؤيتها العالم الخارجي فهي كما يقول السارد “أبصرتِ العالمَ على نحوٍ سيئٍ لكن هادئ”. وهذا وصف شعريّ دقيق فعلاقة إميلي بالعالم الخارجي بدأت سيئة وغريبة وتنافرتْ بشدَّة لكن هذا السوء والغرابة والتنافر معتلجٌ في داخلها، فتعاملت معه بحكمة وهدوء دون بناء أحكام قطعية عنه بل دفعتها لاستكشافه مرة أخرى رغم معرفتها بمدى عنف والدها وكرهه لهذه الفكرة ومحاولته العنيفة في صدِّها عن الخروج مرة أخرى. 

كان كراستر في انتظار ابنته والدخيل بعد أن خرجا من الجزيرة، طلبت إميلي من كريس أن يهرب لأنَّ أباها رجلٌ عنيف لا يقبل بوقوع ما حدث هربَ كريس ولحقه كراستر لكن ما ظفر به فهجمَ على بيت أمه سالي، وعرف العنوان من إميلي، هنالكَ واجه كراستر عقبة القوانين التي تحدَّثَ بها توم، رفيق سالي، وخفَّفتْ هذه الحقيقة من شعواء عنفه وشدَّتها. عادَ إلى بيته وكان لا بد من عقاب إميلي عقابا يحمل في طياته العقوبة والمنع والإقرار بالذنب فالتوبة. كانت إميلي تخاف خوفًا مروّعًا من القبو وترى فيه كلَّ أنواع الشرور والمخلوقات الشيطانية والأغوال والعفاريت والوحوش، لقد كان القبو مقر إبليس الجهنَّمي، والنزول فيه ولو خطفًا هو سَفَرٌ إلى الجحيم الحقيقي ما جرؤت إميلي على الذهاب إليه. أنزلَ كراستر بابنته إميلي عقوبة النزول إلى القبو والمكث يومًا كاملًا فيه. هنا نستحضرُ العقوبة التي أفزعت وينستون سميث في رواية 1984 وخوفه الرهيب من الجرذان والموت بأفواه هذه القوارض، فكما انكسرتْ إرادة وينستون بهذه العقوبة وأعاد إلى أحضان الأخ الأكبر، كانت هكذا إميلي بسبب خوفها من القبو في مواجهتها أرعب مخاوفها. اهتاجت هلعة إميلي من هذه العقوبة وتضرَّعت لأبيها ألا تفعل ذلك، بدت إميلي فزعة جدًا حتى إنَّ أبيها قال في نفسه إنّه يريد عقوبتها لردعها لا لتجنَّ ويفقدها إلى الأبد، فخيَّرها بعد ذلك ما بين النزول إلى القبو وبين الجلد. اختارت إميلي الجلد دون تردد وجلدها أبوها بحزامها ستَّ جلدات كانت كفيلة أن تجلب عليه نهاية عالمه في آخر المطاف وانهيار خططه المَرَضيّة. لم تكن العقوبة كافيّة فكراستر كما الأخ الأكبر فأراد كسرَ إرادة ابنته، وحين سأل ابنته أن تعترفَ بإثمها أجابته ابنته بأنَّها ما أخطأت وما فعلتْ شيئًا آثمًا. صعد إلى الواجهة صراعُ الأب، المؤسسة والنظام، والإله، في مواجهة البنت، والفرد الاجتماعي المتمرد، وإبليس. أخذ الصراع صورًا ثلاثة الأولى حقيقيّة بين أب وابنته، والثانية قانونيّة بين مؤسسة ونظام حياة وفردٍ متمرَّد، والثالثة رمزيّة دينية بين الإله بضوابطٍ الأخلاقية وشرعيّة وبين إبليس الخارج عن إرادة الربّ العاصي لأوامره. لم تعترف إميلي بذنبها، لأنها ما رأت نفسها مخطئة بل واجهت أبيها قائلة إنَّك لا تريد أسفي واعتذاري بل تريد إذلالي، وليس من شيمِ إميلي أن تعطي الدنيّة في نفسها لذا انتفضت في وجه أبيها. في خضمِّ هذا الجو المتوتر تدخلت حنا لتوقف هذا الاستعار المتصاعد بين كراستر وإميلي وأنهته بحياديّة وطلبت من ابنتها أن تصعد إلى غرفتها. لم يكن ما فعله كراستر مع ابنته كافيا لكبح جماحها بل زادها لهيبها واتِّقادًا. 

عالم جديد شجاع 

في هاورث كان “بابا هو القانون هنا” كما قالت شارلوت مُذكِّرةً أختها إميلي التي قالت إنَّ ضربها مخالف لقانون العنف ضد الأطفال. لكن ما عادَ لكراستر تلكَ السلطة المطلقة على هاورث وعائلته حين وصلت إلى الجزيرة موظفة من قسم الخدمة الاجتماعية للتحقيق في حقيقة دعوى عنف ضد الأطفال في المنزل. حاولَ كراستر بطبيعة الحال أنْ يرفضَ منحَ الموظفة ما تريده فهددته باسم سلطة القانون، وما كان له إلا أن يخضعَ لهذه القوَّة الكبيرة، وعلمَ أنَّ أيَّ دخول في مواجهتها هو خسارة وانتحار، ولحسن حظِّه كانت حنا قريبة لتعالجَ الأمر وتذكِّره بأنَّ أيّ مواجهة قد تعني فقدان بناتهما إلى الأبد. وجدَ كراستر محاصرًا من سلطة القانون، والخدمات الاجتماعية، وقوانين العمل (بسبب تهديد دان له في حال طرده لأنَّه أخت دان كانت المخبر على فعلته)، وبدأ يرى عالمه ينهار قُبالة ناظريه وانضغاطه داخلَ هذا العالم المنهار من كل اتجاه. فرضت الدولة على كراستر أن يسمح لبناته الذهاب إلى المدرسة، فالتحقت إميلي وآن بالمدرسة رغمًا عنه بفضل الحكم القضائي، وتُركَ الخيار لشارلوت في الذهاب إلى الكلية أو البقاء في المنزل لأنها في سن السادسة عشرة ولها القرار في أمرها، فاختارت البقاء في المنزل مُثبتةً أنها ابنةُ أبيها، وابنة النظام الاجتماعي الذي أنشأه كراستر، وبقيت في خوف من مواجهة العالم الخارجي. إنَّ انهيار عالم كراستر نتيجةٌ حتمية لوقوفه في وجه التيار الحياتي المندفع وحركيّة المجتمع المتقدمة، ولا يمكنه، وإنْ طالَ به الزمن، الاستمرار في هذا النأي غير الكامل عن المجتمع والعالم المحيط، فهو ما زالَ بحاجة إليه رغمَ كرهه له، بحاجة إلى المؤسسة التعليمية والمؤسسة الصحيّة والمؤسسة الاقتصاديّة. قد ينجح كراستر لو أنَّه كان وحده أو انعزلَ انعزالًا تامًا عن العالم الخارجي مُنشئًا بدائله في عالمه، لكنه لم يفعلها، وبقي مربوطًا بالعالم الخارجي، الذي هو ابنه بوجه أو بآخر، فجرَّه هذا الرباط إلى الضفة الأخرى. وفي الوقت الذي حسبَ نفسه في مأمن كان الخطرُ محدقًا به وجاثيًا بين يديه، وكامنًا في ابنته.  

في هذا العالم الجديد الشجاع، كما أسمى غاري هذه المرحلة من الرواية والإشارة واضحة إلى رواية ألدوس هكسلي “عالم جديد شجاع”، بدأ انخراط إميلي وآن في المدرسة، ومع هذا الانخراط بقيتْ إميلي بؤرة الأحداث. وللمفارقة حدثَ لإميلي ما كان يكرهه أبوها كراستر في هذا العالم إذ بدأ يتسرب إليها التخريب اللغوي، لأنها كانت مضطرة للتماشي مع اللكنة الدارجة لكيلا تكون عرضة للسخرية من لغتها، وكذا الآفات الأخلاقية التي عُرِّضتْ إميلي لها في المدرسة من الطالبات ذات الانحرافات السلوكية، لا سيما الممارسات الجنسية مع الطلاب والذكور. لم تنهرْ حصون إميلي بيد أنَّ التسربَ التخريبي اتَّضحت ملامحه، ونهايته الحتميّة معلومة وإنْ انتهت الرواية قبل الوصول إليه. وما عادَ لكراستر سلطة على ابنته فحاولَ نبذها وتجنُّبها لإشعارها بالذنب، وأنَّها ليست جزءًا من العائلة، بل إنها سببُ دمارِ العائلة وما آلت إليه الأمور في هاورث، فما حدثَ ليس خروجُ فردين إلى العالم الخارجي بل مجيء هذا العالم إلى هاورث، لقد ابتُلعتْ هاروث، وما من مسؤول عن ذلك سوى إميلي. لم تخضعْ إميلي لهذه الحرب النفسيّة وبقيت محتفظةً برباطة جأشها وقوَّتها النفسية لتشقَّ دربها في العالم الجديد بكلِّ شجاعةٍ وثقة.   

النوم تحت أنظار الرب ورعايته 

سعت إميلي أن تعيدَ تواصلها مع كريس، فانتظرته في أحد الأيام مفوِّتةً حافلة العودة إلى البيت، ثم تكررت اللقاءات وخرجت معه ذات مرة تتمشى حتى أصابها الإعياء، فدخلت كنيسة على قارعة الطريق تنشدُ الراحة مع كريس. ولسوء حظِّ الاثنين فإن الموظف المسؤول لم يشاهدهما فخرجَ وأغلقَ الباب تاركا الاثنين حبيسين في الكنيسة. حاولَ كريس إيجاد وسيلة للخروج وباءت كلُّ محاولاته بالفشل وبات الاثنان تلكَ الليلة داخل الكنيسة. فرضت برودة الجو على الاثنين الالتصاق ببعض طلبًا للدفء، وفي ذاك الاضطجاع الحميميّ استشعرتْ إميلي بأحاسيسَ تجتاح جسدها وتعتلجُ في صدرها، ونامتْ مع كريس يحتضنُ أحدهما الآخر. استيقظتْ إميلي مع انبلاج نور النهار وأبصرت نفسها نائمة مع كريس تحت أنظار تمثال الربِّ (كريست)، وما بين كريس وكريست أقرَّت إميلي في قرارة نفسها ارتكابها الخطيئة. عادَ الاثنان إلى بيتيهما، بعد حملة بحثٍ وإعلان في الإذاعة عن غياب الاثنين، بفضلِ الموظف المسؤول الذي ظنَّ أنَّ الاثنين قد يكونا في الكنيسة حبيسين. وصلَ الحدث إلى ذروة التراجيكوميديا حين رجعت إميلي إلى البيت فجثتْ أمام أمها، وعلى مسمع من أبيها دون أن تشعرَ به وكان في سورة غضبه باحثًا عنها، معترفةً أنَّها حُبلى بطفلٍ. ما انتظرَ كراستر فخرجَ كثورٍ هائج ساعيًا لقتلِ كريس. سألتْ حنا ابنتها عما حدث فروتْ إميلي ما وقعَ لهما وكيف اضطجعا معًا بثيابهما تحت أنظار الرب، وهي الوسيلة التي يتحقق عبرها حبل المرأة كما أخبرتها أمها، أدركت حنا ساعتئذ سذاجة ابنتها والمصيبة الموشكةُ على الوقوع. اندفعَ كراستر نحو ثانوية الطلاب حيث كان يدرس كريس، ووجده في ساحة المدرسة فانطلقَ نحو مسرعًا حتى قبض عليه وطوَّحه أرضًا وخنقه بيديه متهمًا إياه باغتصاب ابنته. أوشكَ كريس على الموت لولا تدخُّل المتنمر سوان ضاربًا كراستر ومنقذًا كريس لا لشيءٍ سوى أنَّه “ملكُ ساحة اللعب”، وليس لأحد الحق بانتهاك حرمة ساحته.  

طويتْ صفحةُ هذا الفصل من حياة الجميع، وعادت المياه إلى مجاريها. وبعد نهاية حفلٍ مدرسيّ عادت إميلي إلى البيت، فاستقبلها أبوها بادئًا معها صفحة جديدة، ومقترحًا عليها قراءة قصيدة كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي، فوافقت راضية بذلك واقترحت أن تقرأ قصيدة أوزيماندياس. انتهت الرواية لكن لم تنتهِ قراءتنا لها، لمَ هذه القصيدة تحديدًا “أوزيماندياس” لشيلي؟ تروي هذه القصيدة حكاية على لسان مسافرٍ في الصحراء رأى تمثالَ الملكِ المصري رمسيس الثاني، المعروف باسم “أوزيماندياس”، وقد غاصَ في الرمال واتَّضحَ جزءٌ من وجهه وبانت ملامحه، وعلى قاعدة التمثال نُقشتْ هذه الأبيات  

“اسمي أوزيماندياس، ملكُ الملوكِ: 

انظرْ إلى صنائعي أيها المتجبر وابتئس!”. 

من يُخاطِبُ هنا ومَنْ المُخاطبُ حين ألقتْ إميلي القصيدة على أبويها وأختيها؟ هل كانت إميلي برونتي الحقيقيّة تُخاطبُ كراستر، هل كانت الابنة إميلي تُخاطبُ كراستر الأب؟ هل هزئت بأفعاله وقد انهار نظامه كما انهار تمثال الملكُ العظيم؟ وأسئلة أخرى غيرها، وأجوبة لا حصرَ لها كلها تُشيرُ إلى انهزامِ كراستر وانتصار إميلي، وتبقى إميلي برونتي في البعيد لسان حالها يقول “انظر إلى صنائعي أيها المتجبر وابتئس!”.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى