أدب كونديرا ما بين المزاح والجسد
حين أعزمُ على قراءة أدب كاتبٍ فإنِّي أسعى دائما، ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا، إلى أن أقرأ عددًا من أعماله، إنْ كان له أكثر من عملٍ، حتى أتبيَّن أسلوبه وغايته من الكتابة وما يرومه من إنتاجه، ففي القراءة الشاملة للكاتب تتضحُ الرؤية ويستقيم الميزان ويكون الرأي فيما كَتَبَ أقربَ إلى الصواب والحقيقة. وهذا لا يعني بحالٍ من الأحوال ضرورة الحكم الجامع على الحكم المتفرِّق الخاص بهذا العمل أو ذاك، بيد أنَّ القراءة النقديّة الفاحصة تُلزمُ القارئ أن يبذلَ جهدًا في استجلاء أدبِ الكاتب كليًّا وعلى حدة، ليكون لما يكتبُه شأنه وقدره. قادتني المقاديرُ هذه السنة للقراءة لميلان كونديرا، الكاتب التشيكي المُتفرنس، المولود سنة 1929 في مدينة برنو التشيكيّة. كانت برنو ضمن دولة تشيكوسلوفاكيا التي استقلَّت من الإمبراطورية النمساوية المجرية إثر تفكّك الأخيرة إلى خمسة دولة سنة 1918، ثم اضطربت أحوالها لموقعها الجغرافي القريب من ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي، فاجتاحها النازيّون، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 امتدَّت النفوذ السوفيتي إليها، وصارت ضمن المعسكر الشيوعيّ بعد أن استولى الشيوعيون على السلطة في عام 1948. توَّلد من هذه السطوة تجذُّرُ الشيوعيّة في البلاد، كعادة أي سلطة شموليّة، وانخرطَ في الحزب عشرات الآلاف وطُردَ وطُوردَ كُلُّ من شُكَّ به، وكان كونديرا أحد هؤلاء المطرودين من الحزب باتهامه بنشاطات مناهضة للحزب، فنقل هذه التجربة لبطله لودفيك في رواية المزحة، لكنه أُعيد إلى الحزب في سنة 1956. وُلدَ كونديرا في عائلة فنيّة إذ كان والده موسيقارًا، فدرسَ الموسيقا، ولاحقًا الأدب والأستطيقا في كلية الفنون الجميلة في جامعة تشارلز، ثم حوَّل إلى أكاديمية الفنون الأدائيّة في براغ لدراسة كتابة السيناريو وإخراج الأفلام. وعملَ في تدريس الأدب بعد تخرُّجه في الجامعة في سنة 1952. شهدت البلاد حقبة التحرُّر من السطوة الشيوعية بانتخاب ألكسندر دوبتشيك رئيسًا للحزب الشيوعي في الخامس من كانون الثاني/ يناير سنة 1968، وعرفت هذه الحقبة الزمنية القصيرة بربيع براغ، تفاءلَ المثقفون التشيكوسلوفاكيّون خيرًا بهذه الأيام وأملوا بتغيُّرٍ وإصلاحٍ يواكب دول غرب أوروبا، لكنَّ خابت آمالهم سريعًا إذ اجتاحت القوات السوفيتيّة البلاد في الحادي والعشرين من آب/ أغسطس من السنة نفسها، وأعادت الحال إلى ما كانت عليه، الحدث الذي كان له تأثيرُه الكبير في كونديرا ولا يكاد يخلو عملٌ من أعماله الأولى من ذكر هذا الحدث وتبعاته التأثيريّة في شخصياته، بل هو أبرزُ حدثٍ محوري في بيئة رواياته. طُردَ كونديرا من الحزب والوظيفة إثر هذا الاجتياح، وبقي في وطنه حتى سنة 1975 حين سُمحَ له مع زوجته فيرا هرابانكوفا بالهجرة إلى فرنسا حيث عملَ أستاذًا في جامعة رين. جُرِّدَ كونيدرا في سنة 1979 من بطاقة المواطنة (الجنسية) التشيكوسلوفاكيّة وحُظرت أعماله في بلاده، ونال بعد سنتين بطاقة المواطنة الفرنسيّة. شهدت سني 1967-1988 كتابة كونديرا العديد من أعماله الروائية والقصصية باللغة التشيكيّة لكنَّها نُشرت بالفرنسيّة أولَ الأمر ثم بالترجمة الإنجليزيّة قبل نشرها لاحقًا بالتشيكيّة. وكانت رواية الخلود المنشورة بالفرنسية سنة 1990 آخر عملٍ يكتبه بالتشيكية سنة 1988، مع أنَّ أحداثها وشخصياتها تقع ما بين فرنسا وسويسرا على غير عادة كتبه السابقة، وتحوَّل بعدها إلى الكتابة بالفرنسيّة وطلبَ أنْ تُصنَّفَ كُتبه ضمن الأدب الفرنسيّ. شهدت تشيكوسلوفاكيا في آخر الثمانينات مظاهرات عُرفت بالثورة المخملية ضد سياسة الحزب الشيوعي الواحد، فاستقال إثرها قادة الحزب من مناصبهم، وفي الحادي والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1992 تفككت البلاد، وصارت دولتين هما جمهورية التشيك، بلد كونديرا، وسلوفاكيا. أُعيدت لكونديرا سنة 2015 بطاقة المواطنة التشيكية.
عوْدًا على بدْءٍ فقد اخترت خمسةً من كُتب ميلان كونديرا الأولى لقراءتها وهي المزحة 1967، وغراميات مضحكة 1969، وكتاب الضحك والنسيان 1978، وكائن لا تحتمل خفَّته 1984، والخلود 1988. وفي هذه المقالة قراءتي لهذه الكتب الخمسة في جزأين رئيسين، الأول بعنوان المزاح التملُّصي من عواقب عالم اليقين، والثاني الجسد واكتشاف النَّفْس، ثم حديث عن اجتياح براغ وآلية تعيين الانتماء الأدبي الوطنيّ للأديب، وخاتمة مع فنِّ الرواية عند كونديرا.
المزاح التملُّصي من عواقب عالم اليقين
يلعبُ المزاحُ والمزحة، بكلِّ تمظهراتهما المباشرة والعَرَضيّة، محرِّكًا أساسيًّا في الحدث الروائيّ والتوتر الدراميّ في كتابات كونديرا كما في كتابي المزحة وغراميات مضحكة. ففي رواية المزحة يُطرد لودفيك من الحزب الشيوعي، مثل كونديرا، ويُرحَّل لقضاء مدة محكوميته في معسكر للأعمال الشاقة قبل أن تغلّظ المحكوميّة بسبب محاولته الهرب. يتعرف لودفيك في مدينة المعسكر، أوسترافا، إلى لوسي، فانجذب الاثنان لبعض، لكن لم تتوج العلاقة بينها بالاتصال الحميميّ بسبب خوف لوسي وتمنُّعها فهربت من أوسترافا إلى مدينة برنو. طُردَ لودفيك بسبب مزحة كتبها في بطاقة بريدية إلى صديقته الجادة، التي تُصدِّق كل ما يقوله لها، سطّر فيها: “التفاؤل أفيون الشعوب، العقل السليم معفَّن بالغباء، عاش تروتسكي! لودفيك”. فاتُّهم إثرها بالإساءة للحزب ومعاداته، وحاول إنكار ذلك بادِّعائه أن ما كتبه كان مزحًا فقط بدون نية إساءة للحزب. وأنَّ من يعرفه يعرفُ طبيعته المازحة وطُرفه، لكن ذلك ما نفعَه بشيء، وكلما حاول التملُّص من التهمة تأكدت أكثر فانتهى به المطاف مطرودًا من الحزب بعد أن ابتعد الجميع عنه، ولم يجرؤ أحد على دعمه والوقوف معه.
وفي قصة “لا أحد سيضحك”، ضمن كتاب غراميات مضحكة، يرفض السارد، وهو أستاذ جامعي في تاريخ الفن، كتابة توصية تُجيزُ نشر مقالة السيد زاتروتسكي في مجلة الفكر التشيكي لأنها مقالة مملوءة بالحشو وغير أصيلة لكنه بذات الوقت لا يريد أن يكون المسؤول عن عدم نشرها. وفي سعيه من أجل التهرب من لقاء السيد زاتروتسكي يتهمه بأنه تحرش بصديقته كلارا حين ذهب إلى شقته بحثا عنه. تنقلب بهذه المزحة حياةُ السارد الذي يجد نفسه ملاحقا من الجميع لتوضيح المسألة، لا سيما مع ادِّعاء السيدِ زاتروتسكي وزوجتِه بأن كلارا كاذبة وتريد تشويه سمعة زاتروتسكي. يصبح السارد متهما بالكذب ويتداعى عالمه ووظيفته، وكلما حاول التخلص من هذه القضية تفاقمت سوءا، ومع كذبه في أشياء كثيرة فقد رفض أن يكذب في كتابة توصية لنشر المقال.
وفي قصة إدوارد والرب، من الكتاب نفسه، يهوى إدواردُ المعلمُ الملحدُ الفتيةَ المؤمنةَ أليس، لكنها ترفض العلاقة الحميمية معه لأنها محرمة، ليسعى إدوارد في تقمص دور المؤمن من أجل الحصول عليها، لكنه يقع في شرك المديرة وإدارة المدرسة الملحدين. وفي صراع الدين والإلحاد والزنا والعفاف تنبثق أحداثٌ هزلية إيروتيكية في قالب لاهوت فكريّ ينتهي بأن يمارس إدوارد دور المؤمن علنا والكافر بالرب سرا والناكح للنساء، وكلُّ ذلك تأتّى من مزاحه في تقمُّص دور المؤمن.
نرى في هذه الأمثلة الثلاثة كيف أنَّ شخصيات كونديرا تلجأ إلى المزاح في بثِّ أفكارها وشكوكها ومعتقداتها وسخريتها، ثم تلتجئ إلى الإنكار وأنَّ المقصد لم يكن الإساءة، لكنها في ذات الوقت تجد نفسها مرغمة على تقبِّل واقع ظنَّت أنَّها ستتملص مع عواقبه الحقيقيّة. فالمزحة في هذه الأمثلة ليست مدخلًا لحبكة أو نقطة شروع الحدث بل هي قلب التفاعل الروائيّ والتوتر الدرامي للحدث إذ تلتقي عوامل حياتيّة وقدريّة مباشرة وغير مباشرة في تشكيل حياة الفرد وتحديد مصيره حتى تبدو الصورة أقرب إلى العبثيّة في ظل نظام حكوميّ شموليّ نافذ في كل أرجاء المجتمع، ونظام اجتماعيّ متداخل الحلقاتِ تحبس الفرد ولا تسمح له بفرصة ثانية لإعادة الاختيار أو التصحيح إن ارتكب خطأً. في خضمِّ هذه الصرامة في الواقع تحاول الشخصيات أن تجد منفذًا يحرِّرها من هذه الانضباطيّة لنظام حياة شديد الإحكام، فلا تعرف سوى المزحة سبيلا إلى هذا التحرُّر. لكن المزحة ليست بوابة خروج من هذا النظام بل دخول إليه، وهذا ما يجعل الشخصية تغوصُ أكثرَ في عواقب مزاحها التملُّصي من العواقب، لأنها في واقع الأمر لا تملكُ خيار الخروج، وما محاولة الخروج إلا دخول أكثر في هذا النظام لأنه متحكم بجميع مفاصل الحياة، فيفقد الفرد فيه كلَّ حريةٍ ممكنة سواء في المستوى العام أو الفردي. وعلى العكس من عالم الكافكاويّة، الذي تأثر به كونديرا، فإنَّ الأنظمة البيروقراطية وذنب الفرد الفطريّ عند كافكا يتراجعان إلى الخلف عند كونديرا، والسبب أنَّ الصراع ليس بين الفرد ونفسه بحكم القوَّة التسلُّطية للنظام، التي تكون بحاجة ماسة إلى التهام أفرادها لإدامة سلطتها وحركتها الاجتماعية، بل صراع مباشر بين الفرد والنظام الحكومي والاجتماعي، والفرد عند كونديرا عالمٌ بأسباب التغيُّر في حياته والانقلاب واللعن الحكومي فإدراكه يدفعُ عنه الصراع الداخلي الذي تعاني منه شخصيات كافكا. وهذا الفرد هو الآخر غير قادرٍ على هزيمة سلطة الحكومة والمجتمع ويخضع لها مجبرًا، ولا بدَّ له من المزاح فيعود عليه بأضرارٍ حتميّة وإنْ ادَّعى أنَّ الغاية فيها الهزل لا الجد. فما الذي يجبر لودفيك أن يرسل لصديقته، التي يعرف أنَّها تصدق كلَّ شيء، بطاقة بريدية فيها سخرية من الحزب الحاكم؟ لا شيء يجبره وهو قاصد السخرية، وإنْ ادَّعى سوى ذلك، فادِّعاؤه لإبعاد شبهة وليس تفنيدها، وكيف يُفنِّدها هو صادق فيما كتب. وليس في وسعه أنْ يكذِّب نفسه فتأتي مدافعته هزيلة تزيدُ الطين بلَّة وتفاقم الوضع سوءًا، لأن المزحة تنطلق من أجل التخريب ومقاومة هذه السطوة الحكوميّة، ونظرًا لضعف الهجوم فإنَّ النتائج العكسيّة حتميّة ولا مناص منها. والسؤال الذي يطرح نفسه في الحالات الثلاثة لماذا المزح؟ يتجلى لنا سببان في ذلك الأول هو التعبير عن الرفض بالسخرية، وللسخرية وجهها الرقيق، إذ هي ليست حقيقيّة ظاهريًا، وداخلها الغليظ. والسبب الآخر في التجريب ودخول وضع مختلف استنادًا على المزاح لمعرفة التبعات، وكيف سيكون الحال لو اتخذنا هذا المسار. وفي هذين السببين تأتي النتائج العكسية فالعالم اليقينيّ لا يعترف بالمزاح، وهنا صديقة لودفيك تعبِّر عنه بالتمام، لذا فإن أي تجريب لن يكون محض لعبة مؤقتة بل حياة واقعيّة دائمة. ونرى ذلك بوضوح في قصة لعبة الأوتوستوب إذ يخرج العاشقان في رحلة ليقضيا إجازة معا، لكنهما وفي الطريق ينخرطان في لعبة استبدال هوية فهو صاحب سيارة وهي عاهرة يتلقطها من قارعة الطريق، وتمضي معه إلى الفندق ليقيضا وقتا ممتعا ثم يتفرقا. كشفت هذه اللعبة عن حقيقة جديدة لكل منها، وتقمَّصا الدورين بمهارة تقمصًا أخرجهما من حقيقتيهما وأزاح عنهما إكراهات الأخلاق والهوية الحقيقية. فتتصرف العاشقة مثل مومس ويتصرف العاشق مثل مريد المومسات. وكلما توغلا في اللعبة أكثر انهتك الستر وأميط اللثام، حتى تسيطر اللعبة على الواقع، وما من مجال لإنهائها أو الخروج منها حتى تصل إلى النهاية، أن يجمتعا بهويتيهما المزيفتين، أن تكون النهاية كما يجب أن تكون بين سائق سيارة وعاهرة التقطها. إنَّ المزاح في هذه القصة منفذ لاكتشاف الذات والتحرر من القيود الأخلاقية، وفي المزاح عودة إلى الذات بهتك الغلاف المُزِّيف. وفي قصة تفاحة الشهوة يمضي السارد مع رفيقه مارتان في لعبة التعرف إلى النساء، التي يجيدها صديقه، لعبة تكشَّفت له مضامينها، حتى يُلفي نفسه وقد تبدت له مظاهر لعبة قائمة على أوهام ومغامرات بلا نتائج. كان مارتان في الحقيقة يمضي في سعي محموم لكن لا يصل في النهاية إلى شيء، ويغير مساره مرة أخرى فأخرى بلا نهاية ولا نساء مقطوفات. فالمزاح لاصطياد النساء ليس لعبة ظريفة بل شهوانية مسعورة قوامها الخداع والزيف، وينفذ بفضلها إلى نفسه والآخر، فهذه البوابة التي تفتحها الشخصية بالمزاح لا تُغلق بالتراجع أو الإنكار لأنها ليست مزاحًا بل الواقع اليقينيّ الذي لا مفرَّ من عواقبه وتبعاته المدمِّرة.
إنَّ المزاحَ فعلُ مُحاكاةٍ لأي فعل لا نرغب بفعلهِ حقيقةً لاعتبارات مختلفة، وهو يقوم بوجه أو آخر على مبدأ ماذا لو؟ وهو أيضًا متعلق بسؤال ما الأدب؟ أي تخيُّل ما يمكن أن يكون بعد أن أفعلَ، أي أن يدخل الفرد في ثنائية الأسباب والنتائج، بفعل تلو آخر، وأيُّ خطأٍ في السبب الأول من الفاعل أو من المفعول به يأخذنا إلى نتائج مختلفة. وبما أنَّ الطبيعة البشرية والسلطة الحكومية والظروف الاجتماعية لا يمكن التنبؤ بها بدقَّة دائمًا فإن نسبة الخطأ مرتفعة، وعليه تكون النتائج غير متوقعة، وهذا ما يزيد الحدث الروائي زخمًا ويكثِّفه إلى مستوى يفقد فيها الفاعل خيوط لعبته، ويتحول من متحكِّمٍ إلى مُتحكَّمٍ به، وتُصبح مينا دورة حياته، كما في قصة روبنز في رواية الخلود، خارج إدراكه وتوقعه، ويضرب حياته سوطُ العبثيّة بيدِ قوةٍ أعلى متمثلة في الظروف الاجتماعيّة والسلطة الحكوميّة.
الجسد واكتشاف النَّفْس
يأخذ موضوع الجسد مع كونديرا حيزًا كبيرًا، ويكاد يكون أكثر موضوعٍ تناوله بطرق مختلفة، وعرض العلاقة بين الرجل والمرأة (المضاجعة) بتفاصيل مختلفة، تلتقي كلُّها من أجل غاية واحدة منشطرة إلى نصفين: الأول اكتشاف الذات، والآخر اكتشاف الآخر. إنَّ الاكتشاف النفسيّ مربوط بالعريّ ثم المضاجعة، فالجسد المجرَّد مما يغطي أجزاءه يقدِّم صورةً عن الذات، فتسعى شخصيات كونديرا إلى قراءتها، وغالبا ما تكون القراءة في انفصال روحيّ عن الجسد واللحظة، فتهيم الروح حول الجسد وتستقرئ حركاته وتفاعلاته وردوده مع الآخر، فيمنحها الخروج زاوية رؤية أكبر حقيقيّة ومجازيّة في فحص الجسدين المتلاقيين. ثم تدخل المضاجعة إلى حَلْبة التنافس في اكتشاف النفس لأنَّ التفاعل بين الجسدين يوِّلد إما أحزمةً تربط الجسدين روحيًا ونفسيًا وتترك آثارها، وإما فواصل تبعد الجسدين عن بعض بنفورٍ وعدم تقبُّل. بيد أنَّ العري والمضاجعة ليسا إلا تمظهرٌ للعالم الجوانيّ حيث تعتلجُ في نَفْس الشخصية طبائعُ متباينة وسماتٌ ما بين معروفة ومطمورة. في قصة ليخل الموتى القدامى مكانهم للموتى الأحياء، من كتاب غراميات مضحكة، يلتقي عاشقان بعد فراق دام خمس عشرة سنة. كانت المرأة تروم إعادة تصريح بقاء قبر زوجها المتوفى بعد انتهاء زمن صلاحيته، وتعرضه للجرف ليحل محله موتى جدد، مع شعورها بتأنيب الضمير من ابنها الذي سيوبخها بسبب هذه الهفوة التي ألقت بوالده الميت خارج مملكة الموتى. في حين عاد الرجل حين التقى بها إلى الماضي مستذكرا علاقته معها، لا سيما ذاك المساء حين تضاجعا، فرغب بها في شقته مجددا. يصرُّ الرجل مدفوعا بالماضي وتتمنع المرأة مدفوعة بالتأنيب المتخيَّل، والمنظر من نفسها في أعين ابنها، والأهم من هذا رفضها أن يرى ضجيعها القديم منظرَ جسدها الشائخ الذي قد يحوِّل الرغبة إلى نفورٍ وتقزز. تنتهي القصة عند فكِّ الأزرار لكننا لا نعرف ماذا كان بعدها، ويُومئ لنا شعورُ المرأة مما قد يكون بعد المضاجعة من تقزز ونفور، وما هذا الابتعاد النفسيّ عن الجسد إلا وليدَ اكتشاف برزَ حين التفاعل بين الجسدين بنبرةِ صوتٍ أو حركة عينٍ أو ردَّة فعلٍ، لحظة استرداد العقل لقواه فأدرك الواقع الذي انغمرَ فيه بعمًى. ينتجُ عن هذا الإدراك الجديد، لما غابَ أو غُيِّب عن نواظرنا، إبصارُ سماتِ الجسد الجسمانيّة والسلوكيّة، لتنفتحَ أبوابٌ أخرى ندخل منها إلى الذات والآخر، وغالبًا ما يكون للفعلِ تبعاتٌ لم تكن في الحسبان وتلعبُ دورًا تأثيريًّا كدور المُزحة. أما في قصة، الدكتور هافيل بعد عشرين سنة، فالأمر مختلف لأننا القصة تدورُ حول هافيل العارف بجسده وجفاف ماء شبابه. يذهب هافيل، دكتور الجنس الشهير، إلى مدينة أخرى لعلاج مرارته، وفي هذه المدينة يلفي نفسه فاقدا لجاذبيته ورفض النساء له بحكم سنه المتقدمة، فيبعث برسالة إلى زوجته، الممثلة الشهيرة، لتأتي إليه فيقضيان يوما معا يلتقي في أثنائه بتلك النسوة اللائي جذبنه ولم يبتسمن بوجهه، لينقلب بعد ذلك حاله وتُشرعَ البابَ له من أغلقته في وجهه بالأمس. بيّن ختام القصَّة أن فعل المضاجعة عند الرجال هو موقد الروح والجسد ومربط الفاعليّة والحياة الذي لا غنى عنه. صحيح أن هافيل يعيش على أمجاد الماضي وشهرة زوجته الممثلة لكنه لا يميِّز نفسه إلا بالمضاجعة، أو بالأحرى لا يتميَّز إلا حين يُضاجع امرأة دارسًا تفاصيلَها وأفعالها في أثناء التواصل الحميميّ بين الجسدين. كما أنَّ المضاجعة هي المحددة لسنِّ الرجل، فسنُّه ليس بعدد سنوات لكن بعدد المضاجعات وزمن النشوة، قد لا تبدو هذه الفكرة مركزيّة عن كونديرا لكنها مبثوثة في تضاعيف كتاباته.
نقادُ بفضل كلِّ هذه الدلائل الجنسيّة في كتابات كونديرا إلى مركزيّة الجسد في معرفة المرء لذاته وتحديد نمط العلاقات الإنسانيّة التي تربط الشخصيات ببعضها، ثم طبيعة الحياة التي تعيشها ما بين الخفَّة والثقل.
تتمثَّل لنا فلسفة الخفة والثقل في رواية كائن لا تحتمل خفَّته، وكانت عن حياة أربع شخصيات: توماس، طبيب جراح يترك زوجته وابنه، ويقضي حياته في علاقات نسائية حتى يتعرف إلى تيريزا التي يبقى معها حتى موتهما. وبسبب مقال يكتبه، يؤول ضد الشيوعية، يترك وظيفته، ويعمل منظف زجاج ويلتقي بعدد من النساء، قبل أن ينتقل للعيش في الريف. وتيريزا، فتاة كانت تعمل ساقية في ملهى حيث تعرفت إلى توماس، وبدأت علاقة مأزومة معه، لأنها تحترق بنار الغيرة دائما، وتراودها أحلام عن خيانة توماس، وتعاني مرارة خياناته. تحاول تيريزا أن تؤثر فيه وتستعطفه بدافع الشفقة. وفرانز، أستاذ جامعي، يتعرف على سابينا، ويمضي معها شوطا طويلا من حياته، ويخون زوجته كلود-ماري، ثم يعترف لها بخيانته وينفصل عنها بدون طلاق، ويعيش مع سابينا التي تتخلى عنه بسبب ضعفه معها. وسابينا، فنانة ذات حياة بوهيمية، كانت صديقة توماس وعشيقته أحيانا، تتعرف على فرانز وتعيش معه زمنا قبل أن تتركه، ثم تغادر براغ بعد اجتياح السوفيت براغ في آب 1968، ثم تسافر إلى أمريكا.
يتراوح الخفة والثقل عند كونديرا، وبرزَ في هذه الرواية، ما بين الحياة المتحررة بالمضاجعة (الجنس) والالتزامات والعلاقات الإنسانيّة، وهنا يظهر مفهوم الخفَّة، وما بين الحياة المثقلة بالحب والوفاء والالتزام، وهنا الثقل الإنساني والحياتيّ. رجحت كفَّة الخفَّة عند شخصيات كونديرا، ونرى كثيرًا من الشخصيات ترتكب فعلَ الخيانة، سواء الزوجية أو الحب، فالحياة الثقيلة لا يُزاح ثقلها إلا بالمضاجعة، لكن ما يُكسب هذه المضاجعة قيمتها ليس الفعل بحد ذاته لكن ما نكسره بمزاولة هذا الفعل. لا تُحرر المضاجعة إلا حين تكسر القيود الاجتماعيّة والروابط الالتزاميّة، بمعنى آخر أي بمخالفة السائد أو عدم الامتثال لما يجب الامتثال له. فتوماس يعيش حياته ومغامراته السريريّة مع النساء بدون أن يثقلها بالالتزام لامرأة واحدة، ولا تريد سابينا البقاء في علاقة مع رجل واحد لأنَّ في ذلك تحديد لحياتها وإرغامها على اتباع نمطٍ دون سواه. تنعكس هذه الخفَّة والثقل على حياة المرء بأكملها وفي كلِّ تفاصيلها بيد أنَّها ليست آتية من فراغ أو مجهولة الأسباب فهي أشبه ما تكون بنمطٍ شخصيّ فتوماس بسبب مشاكل عائلية وجد الفرصة سانحة ليتخلَّى عن زوجته وابنه، أما فرانز فقد كان متزوِّجًا وملتزمًا بنمطٍ حياتيّ واحد، وحين أراد التغيير لم يغيِّر نمطَ حياته إنما غيَّر المرأة، وحين تخلَّت عنه سابينا تعرَّف إلى أخرى، دون تغيير النمط على العكس من توماس المتقافز بين الأسرَّة، كالقرد بين الأشجار، ونرى هذا الثقل الحياتي عند فرانز حين سافر مع مجموعة من الأساتذة والنخبة للتنديد بالجرائم المرتكبة بحق الشعب الكومبوديّ على يد السلطة الشيوعية على الحدود مع تايلاند.
لا تمنحنا المضاجعة التحرُّر بقدرِ ما تكشف عن نمط الشخصية وسماتها وسلوكياتها، وتحدد طبيعة الفرد ما بين مزاولته التبديل المستمر للشريكِ والالتزام الصارم بالشريك الواحد، فهي أشبه ما تكون مرآة تعكس صورة النَّفْس غير المرئية المنغمسة بالخفة أو المقيَّدة بالثقل.
يصوِّر كونديرا بأسلوبه السهل المتماسك المشاعرَ الإنسانيّة بصراحة نقيّةٍ من كل تكلُّف، وتجريده في وصف غرائز النفس البشرية لشخصياته يقترب من العادية المحضة التي تستفز مشاعر القارئ، وتجعله فوق أرضية ملساء مستوية في عالم بدائي وابتدائي لم يُدنس بعد أو يتحرك. إنَّ هذا الاقتراب من الذات والغرائز والجسد ذا حميميّة تخترقُ القارئ، ويلمسُ في نفسه هذه المشاعر الموصوفة، ويقف عليها مُتحسِّسًا مكامنها عنده وآليات انبثقاها وكيفياتها.
اجتياح براغ 1968
يُشكل اجتياح براغ فاصلا مهما في حياة كونديرا وسكَّان تشيكوسلوفاكيا، وبقيت آثاره شاخصة حتى تفكك الدولة إلى دولتين إثر الثورة المخمليّة في أواخر الثمانينات. وطال هذا الاجتياح أدب كونديرا ولعبَ دورًا مفصليًّا بين ما قبل وما بعد، وهذا ما نجده في روايات المزحة، وكتاب الضحك والنسيان، وكائن لا تحتمل خفَّته، ويغيب هذا التأثير عن قصص غراميات مضحكة، ورواية الخلود التي جرت وقائعها خارج تشيكوسلوفاكيا. إنَّ اجتياح براغ يؤسس بيئة زمانيّة ومكانيّة لوقائع عالم كونديرا الأدبي وشخصياته ومدخلًا لكونديرا ينقل فيه تاريخ بلاده معيدًا تقديمه في بنية روائية سواءً من الناحية التأريخيّة التوثيقيّة، أو التصوير الواقعيّ، أو الرؤية الاجتماعيّة للسكان والشخصيّة للأفراد، أو اضطهاد مثقفي براغ، أو السياسات الحزبيّة للسلطة الحاكمة بحق المناوئين لها أو المُتَّهَمين، ليكون اجتياح براغ عنوانًا لفصلٍ كبير عن تاريخ بلاد كونديرا وشخصياته. صحيح أنَّ هذا البُعد السياسيّ للروايات ليس الأساس بل هو خلفيّة ضامة تتغلغلُ أطرافها في ثنايا المواضيع والقضايا التي تناولها مثل حياة الإنسان وتقلباتها، العري والجسد، العلاقات الإنسانيّة، الفن والموسيقى، الأدب وفن الرواية، فلسفة الحياة ما بين التحرُّر والالتزام، لكنه يزوّد براغ وربيعها والسوفيت والاجتياح وسياسات الحزب الحاكم بأدواتٍ يستخدمها الراوي في التحكم بسير الأحداث وتنظم دورانها، بل قد تكون المُحرِّك والمُزوِّد الاحتياطيّ للتوتر الدرامي في حال أي ركودٍ ممكن في الأحداث.
لا يخفي كونديرا توجُّهاته السياسية ومعارضته للسوفيت، وتأخذ بعض أجزاء رواياته طابع الرواية السياسيّة كما في شطرٍ كبير من حياة لودفيك في معسكر الاعتقال والعمل في المزحة، وجزءٍ من حياة توماس في كائن لا تحتمل خفَّته حيث كان اجتياح براغ حدثًا مهما ومؤثرًا في حياة توماس وتيريزا وسابينا.
مثال عن الطمس التاريخيّ الذي افتتح به كونديرا الفصل الأول من كتاب الضحك والنسيان، وهذه صورة مشهورة بطمس وجه وزير الخارجية السلوفاكيّ فلاديمير كلمينتس إثر إدانته بالخيانة وشنقه سنة 1950 بعد أربع سنوات من التقاط الصورة، ليبقى القائد الشيوعي كليمنت غوتفالد وحده في الصورة.
يُبرزُ لنا هذا الحدث وانعكاسه في أدب كونديرا، الذي كان إزهاقا لربيع براغ، التشابكَ ما بين حياة الكاتب وأدبه ويوجهنا نحو قراءة أدبه، بوجه من الوجوه، مقرونا بحياته، وما يترتب على ذلك من تصنيف أدبه في أدب هذه البلاد أو تلك، وتحديد انتمائه الوطنيّ. فحين يُطالب كونديرا بتصنيف أدبه ضمن الأدب الفرنسيّ فما المعايير التي تجعلنا نتفق معه أو نختلف، لنبتعد قليلًا عن الاتفاق والاختلاف ونسأل ما المعايير التي تُصنف أدب الكتّاب وتضعه في أدب هذه البلاد أو غيرها؟ إنَّ أول ما نعتمد عليه هو عامل اللغة، فاللغة هي التي توجِّه القارئ نحو بلاد متحدثيها، ثم ضمنًا نحو تصنيف الأدب المكتوب بها في أدب هذه البلاد. فروايات كونديرا الأولى حتى عام 1988 كانت مكتوبةً باللغة التشيكية، وإن نُشرت أول الأمر بالفرنسية والإنجليزية لصعوبة نشرها في بلاده وحظرها من السلطات، وهذا ما يجعلها مبدأيا ضمن الأدب التشيكيّ اليوم. أما العنصر الثاني فهو موضوع الأدب وبيئة الأحداث وبلد الشخصيات، فحين نجد أنَّ براغ، ومدن التشيك مثل برنو، هي بيئة الأحداث، وأنَّ الموضوع الرئيس الخلفي الضام للأحداث هو اجتياح براغ وتأثيراته السياسيّة في الأحداث الروائية والشخصيات، وأن التشيك في مركز المواضيع الضمنيّة والعَرَضيّة، فكل هذا يقودنا إلى تشيكيّة هذه الأعمال. أما العنصر الثالث فهو مَن المُخاطب والمُستهدَف من هذا الأدب المكتوب؟ وهذا سؤال سهل الإجابة عنه، فحين أستخدم لغة قوم وأتحدث عن موضوع يعنيهم في المقام الأول دون سواهم فإنَّهم المستهدفون، ومع كونديرا فهم التشيكيّون ثم يأتي بعدهم الآخرون. أما العنصر الرابع فهو البلد التي ينتمي إليها الكاتب ويحمل وثائقها الرسميّة، وهذا العنصر الرابع هو المُشكلُ في الكثير من التصنيف، فإنَّ كونديرا جُرِّد من بطاقة المواطنة التشيكوسلوفاكيّة سنة 1979 وحصل على الفرنسيّة سنة 1981، وأُعيدت له بطاقة المواطنة التشيكيّة سنة 2015. يلعبُ هنا اعتراف الأديب لأي البلاد ينتمي ولغة أدبه المكتوب فيصلا في التصنيف، وإنْ لم يكن كافيًا ما لم تدعمه العناصر الثلاثة الأولى، يُقرُّ كونديرا أنَّ أدبه فرنسيّ وليس تشيكيًّا ويُطالب بمعاملته بناءً على طلبه. واستنادًا إلى ما بين أيدينا من دلائل ومعايير تصنيفيّة نجد أنَّ أدب كونديرا منقسم إلى تشيكيّ وفرنسيّ، وهو بذلك أديب تشيكيّ – فرنسيّ، وأدبه أدب تشيكيّ – فرنسيّ مع فارق النسبة الذي تحدده كمية إنتاجه باللغتين، ومواضيع كتبه، والمستهدف منها.
كونديرا وفن الرواية
لكونديرا اهتمام جليٌّ بفن الرواية فكتب ثلاثية عن الفن الروائي هي فن الرواية، والوصايا المغدورة، والستار، في مقالات نقدية وقراءات أدبية لروايات وروائيين عالميين كان من أكثرهم حضورا سرفانتس وكافكا وبروخ، مع فصول وأقسام أفردها كونديرا لأعمالهم وأدبهم الروائي، وما تركوه من تأثيرات في الفن الروائي العالمي والحياة في أوروبا على وجه الخصوص. لم تكن القراءات والمقالات أدبية محضة حسب، بل ومستفيضة في الفلسفة ويتضح فيها اشتغال كونديرا بالفلسفة وأعلامها والإسقاط الفلسفي في فهم الرواية والأبعاد الفنية والأدبية وكيفية قراءة الرواية وانسجامها مع الفنون والتاريخ والسياسة والحاضر والماضي. كما تطرَّق إلى الموسيقا وأحال إلى عالمها وأعلامها وحياتهم وتأثيراتهم، نظرا لدراسته الموسيقا والتحاقه بدروس تعلم الموسيقا منذ صغره وتأليفها فيما بعد، وهذا ما يجعله يدمج الموسيقا مع فن الرواية وخاصة في آلية التسريع والإبطاء في السرد والبوليفينية (تعدد الأصوات) أو في تنظيم الفصول متبعا النُظم الموسيقية التتابعية. يتِّضح في كتب كونديرا المتناولة في هذه القراءة تطبيقُه لرؤيته الفنيّة لبنية الرواية، ومحاولاته التجريبيّة والتجديديّة في السرد، وتعدد الأصوات، والتداخل بين عالمي الراوي والشخصيات، وتشظية الفصل الواحد، وتقنيّة ما وراء النص، والبناء المكشوف للنص الروائي، وتكسير الخط الزمني التتابعي، وتعليقات الراوي وتدخلاته، وتضمين السيرة الروائية في الرواية (حديث كونديرا عن نفسه وحياته)، ووجود رواية قصيرة أو قصة قائمة بذاتها داخل الرواية الرئيسة، ودمج عدة قصص لتشكل بمجموعها رواية.
يقول كونديرا في رواية الخلود في نقاش الرواية الكلاسيكية والرواية الحديثة: “إن التوتر الدرامي هو اللعنة الحقيقية التي حلت بالرواية لأنه يحول كل شيء، بما في ذلك أبدع الصفحات، وأكثر المشاهد والملاحظات إدهاشا إلى مجرد مرحلة تقود إلى الحل النهائي الذي يتركز فيه معنى كل ما سبقه، هكذا تحترق الرواية بنار توترها الخاص مثل حزمة قش”. يعني هذا القول أنَّ التجديدات السرديّة في تتابعية الأحداث وزمانها، التي أبدعها كونديرا في كتاباته، كانت للخروج برؤية جديدة للتوتر الدراميّ المُشار إليه إذ تشتدُّ حبكة الأحداث وتتداخل بما يمنح الحدث المروي زخمًا يدفعه إلى الأمام، ويصبح السرد علاقة علة ومعلول، وأ يقود إلى ب، ويعرف القارئ ما سيكون قبل أن يكون، وهذا ما يرفضه كونديرا لا سيما حين يُعلم القارئ بمصير أحد أبطاله، أو أن يستبق المآل الذي سيكتنفه بإخباره القارئ قبل أن تبلغه الشخصية، وبهذا فإن التوتر الدرامي لكونديرا يكمن في طبيعة الحدث نفسه وليس فيما سيترتب عليه. بيد أنَّ هذا ليس مضمون النتائج بالضرورة التي ستُمتعُ القارئ أو تُبيّن حصافة الكاتب إذ كتاب الخلود والنسيان المؤلَّف من سبعة أجزاء يُعد رواية على نطاقٍ واسع، في حين أنَّه ليس برواية إذ لا رابط يجمع بين هذه الأجزاء السبعة سوى ارتباط جزأين فقط ببعضٍ، فهو شبيه بمجموعته القصصية غراميات مضحكة، بل لعلنا نسأل ما الفرق بين الكتابين في موضوع بُنيتيهما والهيكلة؟ لا فرق. على العكس من روايتي المزحة وكائن لا تُحتمل خفَّته، إذ تدوران حول شخصيات متعددة لكنها مترابطة وليست منفصلة لا جامع بينها. وبلغَ كونديرا ذروته الفنيّة في رواية الخلود إذ هي مثال تامٍ وأصيل عن النموذج الروائي بخصائصه الفنيّة التي سعى إليها في كتاباته، وأجادَ في تشييد بُنيانها وتواشج أجزائها.