التراث العربي

عروس العرائس؛ سيدة الموت والمتعة

لتحميل المقالة عروس العرائس


الأدب مرآة الأمة. مرآة تعكس أحيانا ما هو مكنون في أغوار النفس، وفي أخرى تحرم ما يطفو حق الظهور. وفي تتبع الصور التي تعكسها المرآة تتجلّى أفكار كثيرة، ولكل أمة أدبها الذي يعبّر عنها ورؤاها في هذا العالم. إنَّ تفحص الأفكار  في النص الإبداعيّ يُجلي الصورة، ويأخذنا لمراجعة سياقاتها الاجتماعية والتاريخيّة، وربط حلقتها بحلقات سلسلة الإبداع الإنساني قاطبةً. يبرز موضوع المرأة في الأدب واحدا من أكثر المواضيع جدلية منذ الانقلاب على الإلهة الأم، كما في قصيدة قصة الخلق البابلية إينوما إيليش حيث يقتل مردوخ جدته الإلهة الأم تيامت ويصبح هو الإله الأكبر ويخلق الكون والحياة والإنسان، إلى عصر النسوية وثورة تحرير المرأة التي ما نزال نعيش في خضِّمها. ظهرت المرأة في الأدب الإنساني في صورة نمطية تكررت في آداب مختلفة، وقليلا ما تفرّدت شخصيات بعينها، وإذا ما اتّفق حدوثه ارتبطت بالشرّ والمكر والسحر والجريمة. تبرز حواء في العهد القديم امرأة ارتكبت خطيئة الأكل من ثمر الشجرة المحرّمة، بل وأعطت زوجها آدم منه. وحين يسأله الرب عن سبب ذلك يجيب أن “المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت1″، في حين أجابت حواء أغوتني الحية فأكلت. تضع لوسي بولارد-غوت حواء على رأس قائمة الشخصيات الأنثوية في كتابها “الشخصيات الخيالية المئة المؤثرة في الأدب والأسطورة”، والرابعة في الترتيب بعد هاملت، وأوديسيوس، ودون كيخوته. تقول بولارد-غوت “إنَّ إثمَ حواء، وللمفارقة، مصدر قوتها الرمزية الدائمة والمؤثرة، وبتعبير آخر ’من دون حواء لبقينا نجلس تحت الشجر ونحلم ببراءة‘. لهذا فإن الحواء في مقام أعلى من آدم في قائمتي. صعد آدم قبلها إلى المنصة لكنها خطفت الأضواء منه بلمح البصر. أبان أكلها من الثمرة المحرّمة، بغض الطرف عن عصيانه، عن روح مستقلة ثائرة في هذا العالم المخلوق حديثا. قررت لنفسها ما يجب عليها فعله صوابا كان أو خطأً. ربما تعتذر لاحقا من أفعالها لكن عليها أن تعيش اختياراتها. قد يكون آدم أول إنسان لكن في حواء تجسّد الإنسان حقًا2”. شكّلت الرؤية التوراتيّة لحواء نمطيّة صورة المرأة وتعامل الأدب الأوروبي-المسيحي معها، وهو تأثير غير مباشرٍ تغلغل في حبر الأقلام فكانت المرأة مخلوق الشرّ والكيان الحيّ المعبّر عن الشيطان. أبان القرآن عن معاملة متماثلة بين آدم وحواء، فلم ينسب أكل الشجرة إلى أحد دون الآخر، أو يُسبق حواء بأكلها قبل آدم، وكان الخطاب عنهما في القرآن بصيغة المثنى فيقول تعالى “فأكلا منها” طه: 121، ويقول “فلما ذاقا الشجرة” الأعراف:22. قد يكون أحدهما أكل قبل الآخر كما أشار العهد القديم، لكن هذا الخطاب بصيغة المثنى لا يفرق بينهما، ففعلهما واحد وإنْ أكل أحدهما قبل الآخر، وهي مساواة عند ارتكاب الإثم، ومساواة عند الجزاء أيضا فيقول تعالى “إني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى”. 

قدّم النص القرآني رؤية مثاليّة للرجل والمرأة في هذا العالم في المسؤوليات والواجبات حاظرًا أي تمييز نوعيّ واجتماعيّ وثقافي، لكنّ المسلمين وإن امتثلوا لهذا الرؤية الإلهية وأوامرها للمرأة والرجل شطرا من الزمن، فإنّ كثيرا منهم تجاوزها متّبعا ما تفرضه الأحوال الاجتماعية والظروف الحياتيّة وأعاد تشكيل هذه الأوامر وفقا لقوالب العادة والتقليد، أو إنهم اجترّوا ممارسات تمييزية قديمة في ثوب جديد. لذا جاءت المرأة في الأدب العربيّ في صورٍ -وإن كانت قليلة مقابلة بصور الرجل- تباينت ما بين الرفع والخفض والثناء والذم، لكن هذا الخفض والذم نابع من رؤية قصور المرأة الفطريّ ونقصها عن الرجل، وهذا ما جعلها في مقامٍ أدنى في هذه الرؤية، على العكس من الرجل فإن خفضه وذمه لفعله لا لكونه ذكرا. عرف بعض العرب قبل الإسلام تفضيلا للذكور على الإناث ووأد البنات، وجاء القرآن على ذكر ذلك في غير موضع موضّحا رؤيتهم الفكريّة وممارستهم السلوكيّة، فيقول تعالى “يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب” النحل:59، ويقول “إذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت” التكوير:8-9. يقول ابن فارس في باب وأد: كلمة تدل على إثقال شيء بشيء… والموءودة من هذا لأنها تدفن حية فهي تثقل بالتراب الذي يعلوها3. ‏وتفاخر الفرزدق في شعره أكثر من مرة بعدم الوأد “‏ومنا الذي منع الوائدا *ت وأحيا الوئيد فلم يوأدِ”، وفي رواية المبرّد في الكامل “فلم توأدِ”، يقصد جده صعصعة بن ناجية التميمي الذي كان يفدي الموؤدات. وأورد الطبراني في المعجم الكبير حديثا عن صعصعة يقول “قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فعرض علي الإسلام فأسلمت، وعلمني آيا من القرآن فقلت: يا رسول الله، إني عملت أعمالا في الجاهلية، فهل لي فيها أجر؟ قال وما عملت؟ فقلت إني ضلت ناقتان لي عشراوان، فخرجت أبتغيها على جمل لي، فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض، فقصدت قصدهما، فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا، فقلت هل احسستم ناقتين عشراوين؟ قال ما ناراهما؟ قلت ميسم ابن دارم، قال قد أصبنا ناقتيك، ونتجناهما وطارناهما، وقد نعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر، فبينما هو يخاطبني إذ نادت امرأة من البيت الآخر، ولدت ممن ولدت قال وما ولدت إن كان غلاما، فقد شركنا في قومنا، وإن كانت جارية فادفناها، فقالتْ جارية. فقلتُ وما هذه الموؤدة؟ قال ابنة لي. فقلت إني أشتريها منك. قال يا أخا بني تميم، أتقول أتبيع ابنتك؟ وقد أخبرتك أني رجل من العرب من مضر؟ فقلت إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري روحها أن لا تقتلها. قال بم تشتريها؟ قلت ناقتي هاتين وولديهما. قال وتزيدني بعيرك هذا؟ قلت نعم، على أن ترسل معي رسولا، فإذا بلغت إلى أهلي رددت إليك البعير ففعل، فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير، فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي إن هذه لمكرمة، ما سبقني إليها أحد من العرب، وظهر الإسلام، وقد أحييت ثلاثمائة وستين من الموؤدة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك أجره إذ من الله عليك بالإسلام. قال عبادة ومصداق قول صعصعة قول الفرزدق: وجدي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأد4”. ويورد المبرّد في الكامل في اللغة والأدب الحديث بلفظ آخر5. وأما عن شطر “ومنا الذي منع الوائدات” فيقول المبرد “وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، ولم يكن هذا في جميعها إنما كان في تميم بن مُرة، ثم استفاض في جيرانهم، فهذا قول واحد. وقال قوم آخرون بل كان في تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وائل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ’اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‘… ودلَّ على ما من أجله قتلوا البنات فقال ’ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‘ وقال ’ولا يقلتن أولادهنَّ‘ فهذا خبر بيّن أن ذلك للحاجة، وقد روى بعضهم أنهم فعلوا ذلك أنفة6”. والشواهد كثيرة في الآي والأثار والأخبار والأشعار عن قتل البنات عند بعض قبائل العرب. جاء الإسلام فحرّم هذه العادة وشدّد الوعيد لمن فعلها وحفظ حق المرأة رافعا عنها الظلم، لكن لم يتلاشَ “وأد البنات” ببُنيته الفكريّة وبقيت شوائبه عالقة في النفوس، وتمظهر في سلوكيات أقل عنفا وإنْ كان بعضها احتفظ بدمويّته. يكتب الحريري في المقامة الشيرازيّة ببطلها أبي زيد السروجيّ، الذي كان لسان فكره عن أحوال عصره، إذ يدخل يوما، وهو شيخ هرم، على جماعة من الناس فيستخفون به لمظهره وأسماله حتى يُبدي لهم مقدرته وبراعته في الأدب واللغة، ويذهب بعدها لعرض مسألته واستجداء المعونة منهم فإذا هو يقول بشعره:

أستغفر الـلـهَ وأعْـنـو لـهُ *** منْ فرَطاتٍ أثقَلَتْ ظَهْـريَهْ

‏يا قوْمُ كمْ منْ عاتِقٍ عـانـسٍ *** ممدوحَةِ الأوْصافِ في الأنديَهْ

‏قتَلْتُـهـا لا أتّـقـي وارِثـاً *** يطْلُبُ مـنـي قـوَداً أو دِيَهْ

‏وكلّما استَذْنَبْتُ في قتْـلِـهـا *** أحَلْتُ بالذّنْبِ على الأقْضِـيَهْ

ولمْ تزَلْ نفسي فـي غَـيّهـا *** وقتْلِها الأبكارَ مُسـتَـشْـرِيَهْ

‏حتى نَهاني الشّيبُ لـمّـا بَـدا *** في مَفْرِقي عنْ تِلكمُ المَعصِيَهْ

‏فلمْ أُرِقْ مُذْ شابَ فَوْدي دمـاً *** منْ عاتِقٍ يوماً ولا مُصْـبِـيَهْ

فإذا بالشيّخ يحدّث القومَ عن ماضيه في قتل الأبكار من النساء، وكيف أنه لم يدفع قودا لا دية، وما نهاه عن الاستمرار في جرائمه إلا شيبه وخطَ فوديه. ثم نراه يعرض عليهم مسألة:

‏وها أنا الآن علـى مـا يُرى *** مني ومِنْ حِرْفَتي المُـكـدِيَهْ

‏أرُبُّ بِكْراً طالَ تعْنـيسُـهـا *** وحجْبُها حتى عـنِ الأهـويَهْ

‏وهْيَ على التّعنيسِ مخطـوبَةٌ *** كخِطبَةِ الغانِيَةِ الـمُـغْـنِـيَهْ

‏وليسَ يكْفيني لتَـجْـهـيزِهـا *** على الرّضى بالدّونِ إلا مِـيَهْ

‏واليَدُ لا توكي علـى دِرْهَـمٍ *** والأرضُ قفْرٌ والسّما مُصْحِيَهْ

‏فهلْ مُعينٌ لي على نقـلِـهـا *** مصْحوبَةً بالقَيْنَةِ المُـلْـهِـيَهْ

‏فيغْسِلَ الهـمّ بـصـابـونِـهِ *** والقلْبُ من أفكارِهِ المُضْنِـيَهْ

ويقْتَني مني الـثّـنـاءَ الـذي *** تضُـوعُ ريّاهُ مـعَ الأدْعِـيَهْ

يخبرهم أن له ابنة عانسا يريد تزويجها وليس عنده ما يزوّجها به. فيتصدّق عليهم القومُ ويخرج مغتنيا من صدقاتهم. الطريف في شعر السروجيّ أنه قصد  الخمرَ في الحالين الأولى والثانية، لكن القوم لم يفهموا مراده وضاعوا بتوريّته، وحسبوا أنه يريد المعونة في تزويج ابنته فيعيونه بما يملكون. لم ينكر عليه القوم جرائم شبابه في قتل النساء، وبدا أن ما قيل لا يعدو عن كونه أخطاء شباب أكثر منها جرائم تستحق العقوبة، فتغاضوا عن ماضيه وهو سفّاح سفّاك لدم النساء. إنَّ سكوتهم يشي بقدر المرأة في مجتمع المقامة وسهولة قتلها دون الخوف من قود أو دية. ولعل قصة المقامة تشبه ما رواه تشوسر في حكايات كانتربري عن فارس جوّال يدخل مملكة الملك آرثر فيرى فتاة على مهرها فتقع في قلبه، ليهجم عليها ويهتك عرضها غصبا، فتعلو الصيحات ويُقبض عليه. كانت عقوبة الفارس وفقا للناموس أن يُقتل لكن تدخلت الملكة وأنقذت حياته شرط أن يجيب عن سؤال “ما أكثر شيء تعشقه النساء من الرجال؟”، تردد الفارس في الإجابة ومنحته الملكة اثني عشر شهرا ويوما للبحث عن إجابة. خرج الفارس طائفا في البلاد يسعى إلى جواب واحد، فاختلفت عليه أجوبة النساء. وما وجد اثنتين تتفقان على جواب. وذات يومٍ مرّ بغابة فأبصرَ سرب غيد حسان يرقصن فجذبه المنظر، ولما وصل إليهن اختفين ووجد في المكان عجوزا شمطاء، فسألته عن حاله فأجابها، فقالت إن جواب مسألته عندها شرط أن ينفذ لها أيّ ما تطلب منه فوافق على شرطها، وهمست له في أذنه بالجواب، ثم عاد إلى بلاط الملكة. جمعت الملكة حاشيتها ووصائفها وطلبت منه الجواب فقال لها “أن يكون للنساء القول الفصل في أمورهن مع الرجال ويكنَّ الحاكمات عليهم”. فوافقت الملكة على جوابه واتفقت جميع الحاضرات، ثم أُطلقَ سراحه. لكننا نجهل مصير الفتاة المُغتصَبة وحالها، إذ تغيّب تماما بل يكافأ الفارس بأن تتحول العجوز إلى امرأة شابة حسناء7. 

لم تثبت المرأة على صورة متواضعة فقد ظهرت في شخصيات تميّزت بالمكر والكيد أو السحر أو الحسن أو الوفاء أو الخيانة، سواء كانت شخصيات من الآلهة كما في قصائد سومريّة وبابليّة لا سيما عن الإلهة إنانا، والإلهات في قصص الأساطير اليونانيّة والرومانيّة مثل أثينا وجونو، أو الإلهات الساحرات مثل كاليبسو وسيرسي ولاب (معادلة سيرسي في ألف ليلة وليلة)، أو الشخصيات البشريّة مثل هيلين وأندروماخا وبينيلوبي وديدو ودراوبدي وشهرزاد وبرنهيلد وكريمهيلد، وضم الأدب الإنساني بين دفّتيه آلاف الشخصيات الأنثويّة المائزة، وارتبطت خصالها وسلوكياتها بعصرها وأفكاره ومعتقداته. جاءت شهرزاد في الأدب العربي لتقدّم واحدة من أكثر الشخصيات الأنثويّة جاذبية وفتنة، لا سيما وأنها استخدمت الحكاية وسيلة للدفاع عن نفسها، وحفظ حياتها من الهلاك على يد ملكٍ موتور متعطّش لسفك دم النساء في واحدة من أكثر الحكايات كراهية للنساء، وأخذت بيده حتى شفته من مرضه (تضعها بولارد-غوت الثانية في الأهمية بعد حواء، والثالثة عشرة في التصنيف). كان تأثير شهرزاد وحكاياتها عميقا في الوجدان الأدبي الغربي أول الأمر، ثم الشرقي قبل أن يشرع الباب على مصراعيه، وتصبح ذات حضور في الذاكرة الإنسانيّة والأدبيّة مختزلة في اسمها سحر الشرق وروعته. 

حينما كانت شهرزاد منشغلة برواية قصصها على شهريار، تسعى لتنجو من الموت على يديه، كانت امرأة أخرى تقارع الرجال، تواقعهم ثم تقتلهم، آخذة دور الرجل القاتل وتاركة له دور القتيل. يشكّل ميلاد هذه المرأة في كتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغربية، وهو كتاب من القرن الرابع عشر للميلاد وحكاياته ذات زمن أسبق بكثير كما مرجّح، صورةً مختلفة عن المرأة، لا تضارعها امرأة أخرى في الأدب العربي، وتنافس إنانا وإلهات اليونان الغاضبات في السطوة والقهر والجبروت. عروس العرائس اسمٌ على غير مسمّى، عروس الشرّ أو هي كما وصف هاغن برنهيلد في نشيد النبيلونغ “المخلوقة من ضلع الشيطان”. في السطور التالية حديث عن حكاية عروس العرائس، نستقرئ فيها سيرة هذه الشخصية الفريدة من نوعها في انقلاب حادٍ على الأعراف الأدبية في إبداع الشخصيات الأنثويّة.       

1- سفر التكوين 3:12 

2- The Fictional 100 – Lucy pollard-Gott. 

3- معجم مقاييس اللغة – الجزء الخامس: باب وأد.

4- المعجم الكبير للطبراني: حديث رقم 7412.  

5- الكامل في اللغة والأدب، ج2 ص 64-65

6- الكامل في اللغة والأدب، ج2 ص 63 

7- حكايات كانتربري – حكاية السيدة باث. 

يمسكه على هون

عاش ملك يحكم بلادا كبيرة، وفي إمرته أجناد كثيرة، انتظر زمنا طويلا وما رزقَ ولدًا يخلفه في الملك. تضرّع إلى الله أن يهب له ولدا فحملت زوجته بعد طول انتظار وأنجبت له ابنة. كانت ابنته باهرة الحسن وأحبها أبوها الملك حبا جما، وتصدّق عنها كلَّ يوم حتى بلغت، ثم توفيت في الخامسة عشرة من عمرها فألمَّ به حزن شديد وانقطع عن الناس. وكان له وزير مُحسن، متصدق على الفقراء، فانقطع عن صدقاته اغتماما لمصاب مولاه، حتى أقبل عليه ضرير، كان يعيش على صداقته، يسأله عن سبب انقطاعه عن الصدقة. فلما علمَ الضرير بمصاب الملك قال “عندي حديث يبغض إليه النساء والبنات ويفرح قلبه ويفرح بموت ابنته”. أخذ الوزير الضرير إلى بلاط الملك وأدخله عليه لا يفصل بينهما إلا ستار، وشرع الضرير في الحديث والتخفيف عن الملك والدعاء له حتى استقر روع الملك وخفت أحزانه، وأردف قائلا “عندي حديث حسن وهو مما يسلي الملك ويبغض إليه النساء والبنات المحتالات المكارات الغدارات…” ثم بدأ يقص حكايته على مسامع الملك المكلوم بموت ابنته. تتضح منذ البداية معالم الحكاية وجوها العام وغايتها الرئيسة. لدينا ملك كان ينتظر ولادة ولدٍ يخلفه من بعده فيُرزق بابنة لكنها تموت فيحزن عليها، ويأتي الضرير ليقص عليه حكاية يسلو بها الملك عن ابنته. كانت حكاية الضرير هي حكاية ملكٍ يرزق ابنة بدلا من ولدٍ. وهو تشابه ما بين حكاية الملكِ المروية وحكاية الملكِ المستمع إليها، لكن ما يفرق في الحكاية المروية أن الابنة تعيش لتفعل الأفاعيل المنكرة وتمارس الشرور، وتتسبّب بهلاك ذويها ودمار مدينتها، وتخريب حياة الآخرين. جاءت الحكاية لتبيّن للملكِ معنى أن تكون لك ابنة لا تعرف مآلها في حياتها، ولا أي دربٍ ستطرقه، وغالبا ما سيكون دربَ شرٍ ومهالك. ولا مناص من أن يصبح حزنك فرحا وبكاؤك ضحكا، فقد أنجاك الله بأن أمات ابنتك. تفرض الابنة على أبيها تهيئة بيئة مختلفة، وتربية خاصة، وهي تفرق عن الابن الذي سيكون ساعد أبيه، ووريثه إذا كان ملكا. والأب مضطر لحماية ابنته، والحفاظ عليها من الزلل أو الوقوف على مهاوي الردى، وتجنّب أن تجلب له العار. يعي الضرير عند رواية حكايته على مسامع الملكِ كلّ هذا العناصر في حياة البنت ومسؤوليات أبيها، فيجتهد في إبراز هذه السلوكيات الشائنة التي ترتكبها المرأة، لتكون حكايته تحذيرًا للملكِ من الاستمرار في الحزن، فإن وفاة ابنته المبكّرة بشارة توجب الشكر لا الأسى، وإلا جرى عليه ما جرى لأبي عروس العرائس. لم تقتصر الحكاية على الملكِ الأول أو الملك أبي عروس العرائس، بل تورد حكاية الضرير خبر ملكين آخرين، لهما ابنتان أيضًا. تمرض ابنة الملكِ الثالث مرضًا خبيثًا يجعلها تنهش بجسدها وتعض ذراعها حتى اضطّر إلى تقييدها وحبسها، وبعد أن شفيت على يد عروس العرائس أضرّت بها الأخيرة وكحّلت عينيها بكحل العمى، وانتهى خبرها بعد ذلك. أما الملك الرابع فله ابنة خدعتها عروس العرائس وأطعمتها دواء جعلها تحبل بدون رجل، فاستشاط أبوها الملك غضبًا وانتهى أمرها بأن قتلها أبوها وقطّعها إرْبا. كانت البنات الأربع في الحكاية إما أداة شرٍ وإما صريعة شرٍ، وكما فعلت شهرزاد بشفاء شهريار بحكاياتها ذات المواضيع المتباينة لا سيما تلك عن النساء الصالحات والطالحات لتبيّن له تلميحا لا تصريحا، وتخاطب إدراكه لا سمعه، بأنّ جعله النساء في مقام واحد خطأ لا يجب الإيغال فيه ولا بد من الرجوع عنه- يفعل الضرير لكن على العكس تماما بأن يجعل البنات في مقام واحد، ويخاطب لا وعي الملك ببيان شرور البنات ومساوئهن بمستويين من الخطاب، مستوى مباشر متمثل بحكاية عروس العرائس وذكر جرائمها وسلوكها الشيطانيّ الخبيث، ومستوى غير مباشرٍ متمثل بخبري ابنتي ملكين الأخريين. فابنتك أيها الملك إن لم تكن مثل عروس العرائس فلا ريب أنّها ستصاب بمرضٍ في عقلها أو بدنها، وإن نجت من المرض فما الذي يمنعها من الوقوع في الفاحشة، ومصيبتك ساعتئذ أدهى وأمر. إنّ موت ابنتك غلق باب الشرور ورتجه، وأراحك من حياة ملؤها الخوف، وإذا أبقيتها فلم تحسن إليها كرهتك وأضرّت بك، وإن أحسنت تأديبها وإكرامها لم تضمن أن تجازيكَ بالإحسان. أنصت الملكُ المكلوم حتى انتهى الضرير من حكايته فتعجب مما سمع وسلا عن ابنته، تنتهي عند ذلك الحكاية لكن ندرك حتما أنّ الملك بعد أن توقفت أحزانه ونسي ابنته عاد إلى سابق حاله، وانفرجت أساريره، فتأتى منه أن عاد وزيره إلى إحسانه لفقراء، ومن بينهم الضرير. عادت الحال إلى ما كانت عليه، ملكٌ بلا ولدٍ يرثه وله رغبة فيه، وانتهت دورة الحكاية في نقطة البداية، وما نتج عنها شيء سوى تسيّد كره البنت وانشغال بال الملك بولدٍ يرثه من بعده.   

قد جاءتكم النُذُر 

عروس العرائس امرأة مجبولة على الشر، وهو فيها فطريّ غريزيّ لا مكتسبٍ من خارجها أو الآخر، غير أنه يتحفّز بأفعال الآخرين ويستعر ضراوة، وإنْ كان في أحيان مبالغا وعبثيا، ولا غاية منه إلا الأذية والمتعة في الأذية. فَهمنا أنّ حكاية الضرير على الملك المكلوم جاءت لتحذّره من البنات، وإنْ طغت غاية السلو عن الابنة المتوفاة، وثبت عنصر التحذير والإنذار ملازما لعروس العرائس. فكانت تُحذِّر قتلاها ومن تنوي الإيقاع بهم بسبلٍ شتى، فكأنها تُلزمهم وحدهم بمسؤولية ما سينزل بهم. حتى في ساعة مولدها فقد أنذرت أبأها وأقامت عليه الحجّة لكنه أبى الإنصات لما قيل له. كان إنذارها بلسان الغيب نطق به المنجّمون العشرة الذين جمعهم أبوها، وسألهم عن طالعها، فحذَّروه واحد تلو الآخر لأنها ولدت في ساعة مذمومة، وقالوا “وإن هذه الجارية المولودة بهذا الطالع المذموم فإنها لمشؤومة الناصية صاحبة كيد ومكر ودغل وفجور ما لم يخص به أحد من ولد آدم ولا يقدر أحد يحوي ما تعمل ويكون هلاك الملك والمدينة على يديها”. ما اختلف قول منجمٍ عن آخر، واتّفق العشرة على سوء طالعها وما ستكون عليه من مكرٍ وشر، فعزلهم وقتلهم. علَّم مقتل المنجمين أول قتل يكون منها، فجاء بمولدها وتأثيرها لا فعل يديها. تشكِّل النُذر وأقوال العرّافين والمنجّمين عنصرا في الحكايات، وغالبا ما تكون صحيحة وتختلف الاستجابات ما بين رفض وإنكار فيقع المخوف منه، وتصديق واستجابة ومحاولة تغيير مجرى القدر لكن يعجز الإنسان عن منع المقدَّر وقوعه. اشتهرت النذر في الأساطير اليونانيّة القديمة فباريس، الذي تُنبِّئ له بأنه سيكون سبب دمار طروادة أخذه أبوه بريام وتركه عند جبل إيدا، عاد بعد بلوغه إلى المدينة، ووقع بسببه خرابها واجتاحتها جحافل ممالك اليونان المتحدّة تحت راية أجاممنون، وكاسندرا التي وهب لها أبولو القدرة على التنبؤ صار التنبّؤ نقمة عليها فما صدّقها أحد بعد أهانت أبولو وسخرت منه. ولا يختلف الأمر مع أوديب الذي قتلَ أباه وتزوّج أمه دون أن يدري، لكن وقع ما تنبأ به الكاهن الذي حذَّر أبواه من إنجابه. تغيب نبوءات الكهّان والعرّافين في بعض نصوص الإسكندنافيين وتحلّ محلّها الرؤى في المنام، لكنها تفسّر على غير حقيقتها، وتمضي الشخصيات إلى ما هو مقدّر عليها، كما جرى على الأخوين غونار وهوغني في ملحمة آل فولسونغ، ومسيرهما إلى مهلكهما في بلاد الهون. لا تغيّر النذر والنبوءات والتحذيرات القدرَ ولا تمنعه من الوقوع بل تهيّئ الإنسان لما سيكون، وتُبيّن له جهله وضآلته وضعفه في مواجهة القدر، وأنَّ استعلاءه آخره الندم. يرغب الإنسان أن يعرفَ الغيب، لكنها رغبة في معرفة ما ينفعه فإذا كان في الغيب ما يضرّه رفض الانصياع له أو تصديق من يقوله. ويريد من نذر الكهنة  أن تكون في خدمته وترضيه لا ضديد ما تشتهي نفسه. يقوده إنكار النبوءة والنذر إلى أن يلقي بيديه في التهلكة، وحتى إنْ صدَّقَ ما نبّئ به يبقى تخوّفه من الآتي أو جهله بالسبيل الصحيح الذي يسلكه عائقا يحجزه عن منع ما سيكون. قد يسوق تعالي الإنسان على مصيره والنبوءة أن يكفر بما يؤمن به، كما جرى مع نرام- سين الملك الأكدي في قصيدة خراب أكادة، فيهاجم معبد إله مدينته وحاميها، إنليل، ويجعل من رؤية منامه بدمار مدينته ونهاية حكمه، التي عجز كاهن الإيكون عن منعها أو جعل إنليل يعدل عنها، حقيقا وقوعها ومستحقا لها. فما قدّره إله الإيكور، وبدا لا سبب له في نفس الملك نرام-سين، كان لجريرة مقدّر عليه ارتكابها، فصار خراب أكادة عقابا لا قدرا لا يعرف كنهه إلا الإله. يقدّم الإنسان لجهله، وتعاليه على النبوءة والنذر، سببا في وقوع ما كان يخافه أو يحذره، ولا يفرق قتل أبي عروس العرائس المنجمّين لأنهم كشفوا عن سوء طالع ابنته عن فعلة فرعون حين خيّب السحرة ظنّه بهم فقتّلهم على جذوع النخل. كانت هزيمة السحرة في مواجهة موسى عليه السلام نذيرا لفرعون أن يرعوي ويثوب إلى رشده لكنه أبى ذلك، وحزم أمره على المواجهة والصدّ عن النذير، فكانت عاقبته أن أغرقه الله وجيشه وأنقذ موسى وقومه.       

علّم مقتل المنجّمين السمة المرافقة لعروس العرائس فهي تُنذر، وإذا ما لم تستجب لنذرها فالموت نهايتك. لم يستجب لنذيرها الرجال الذين التقتهم في حياتها واجتمعت بهم، فلم يستجب للنذير ابن عمها الصغير الذي تزوجها على الرغم من فعلتها ببنات أمراء المدينة وكبرائها، حين جمعتهن في مركب واحتالت عليهن مع مئة شاب واقعوهن وانتهكوا شرفهن، وخُدع بها. تكرر الأمر مع ابن عمها الكبير يسار، الذي وإنْ انقلب عليها بعدئذ فإنَّه لم يقتلها فبقيت في الحبس، واحتالت عليه فقتلته. وكذا حال العبد الذي أنقذها بعد أن كان ابن عمها الصغير يبحث عنها، فقتلته في أثناء مبيتها عنده مع أن خبرها ذاع وصيتها انتشر بخبثها ومكرها. وبعد أن أمسك بها ابن عمها الصغير لم يقتلها بل قذف بها في البحر، وهو الوحيد الذي استطاع أن يمتثل للنذير ويستجيب له لكنه أخطأ، مثل أخيه، حين لم يقتلها إذ عادت وأحرقت المدينة بمن فيها بمعونة الجني. لم يسلم حتى الجني منها، وكان أكثر الأشخاص الذين سعت في إهلاكهم، واتّضحت نذرها قبالته ابتداء من خبرها مع أبيها وابنيْ عمها، ثم في عقابها المدينة، ثم في رغبتها معرفة سبل موته فحضّته على مواجهة العفريت القوي لكنه غلبه ونجا، ثم دفعه إلى جزيرة فيها مخلوق الدرن القادر وحده على قتله ونجا منه بأعجوبة، حتى ضاقت بها الحيل وسألته عن سبيل إلى قتله فأجاب إذا وضع خاتم فيه اسم الله الأعظم على جبهته ونُحر مات. سلّمها الجني كلَّ مفاتيح هلاكه كما فعل شمشون من قبله مع دليلة وهو يكشف لها المرة تلو المرة سبيل فقدانه لقوّته، حتى أقرّها بالحقّ عند حلق شعره يكون سبيل خسارته قوّته وهذا ما كان. تلتقي عروس العرائس التاجرَ ابن البحرين ويُعلمها أنّ لديه خاتما فيه اسم الله الأعظم فتبادلا الخاتمين، وقتلت الجنيّ. يتكرر الأمر مع ابن البحرين فيعرض عن النذر المكشوفة أمامه عنها، ويأبى أن يصدّقها حتى إنّها طلبت منه تركها، فرفض ذلك وأخذها معه خارجا من الجزيرة، ووقع عليه في آخر أمره أن أهلكته معها. لا يختلف الأمر مع البقية الذين التقتهم وعرفوا حقيقتها، فلم يستجيبوا للنذر لأسباب مختلفة أودت بهم جميعا إلى الهلاك المبير.      

جمالٌ خدّاع

تنصُّ الأساطير النورديّة/ الإسكندنافيّة أنَّ آلهة الآيسر خلقت آسك وإمبلا وبتزاوجهما ولد البشر، وكانا مجرّدين من كلِّ السمات والقوى فنفخ فيهما الروح أودين، ووهب لهما العقل هونير، ومنحهما لوكي العاطفة والجمال. ارتبط جمال الإنسان وفقَ الأساطير النورديّة بلوكي، وهو مشهور بالمكر والخداع، وكان سببا في مقتل الإله الطيب بالدر ثم احتال على منع بعثه حتى معركة موت الآلهة ونهاية العالم، الراغناروك. فالجمال خدّاع، مثل لوكي، يُظهر ما لا يُبطن، ويثير الفتنة والخصومة، يطمئن الإنسان إليه ويحبّه لكنه لا يدري أشرٌّ هو أم خيرٌ. فلا ضامن مع الجمال، ولا أمن يُنتظر من صاحبه، فهو يبعث بمحبّته في النفس، ويحفّز عواطفها، ويثير رغباتها، ويضرب على بصرها بستارٍ يمنعه من إنفاذه إلى ما وراءه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث -حكم عليه غير واحد من أهل الحديث بالضعف والكذب- يتسّق وما استهللنا به الكلام نصّه “إياكم وخضراءَ الدِّمَن. قيل وما خضراء الدِّمَن؟ قال المرأة الحسناء في المنبت السوء”. والدِّمَن جمع دِمنة وهي المزبلة، ودمّنت الإبل المكان بعرت فيه وبالت، والخضراء هي النبتة التي تنبتُ في الدِمنة. والتحذير من المرأة الحسناء الناشئة في البيئة السيئة، فجمالها يوحي بما ليس فيها من خير وصلاح لأنّ منبتها شر، فما الحُسن إلا غطاء يسترُ ما في الجوف من قيح ونتن. فالجمال يسحرُ ويشوّش العقل، وكثيرا ما تزلُّ قدمٌ بعد ثبوتها منخدعة بالجمال. امتازت عروس العرائس بالجمال الباهر، يصفها ابن البحرين “جارية بدرية هلالية قمرية غنجية كحلية لم ير الراؤون أحسن منها ولا أجمل ولا أمثل ولا أكمل قد أشرق ما حولها من حسنها وجمالها وبهائها وكمالها وعليها حلي وحلل فاخرة”. وما أسماها أبوها عروس العرائس إلا لما كانت عليه يوم ولادتها من جمالٍ يفتن الناظرين وتطير به ألباب المبصرين. غير أنَّ الجمال مع عروس العرائس ليس صفة خارجيّة مجرّدة من غاياتها، كعادة كثير من صفات الأبطال في الحكايات الخرافيّة إذ الجمال والسلطان سمة ملاصقة لأغلب الشخصيات، فحتى لو كانت من عامة الناس فهي تمتاز بسمات أبرزها الجمال وينتهي بها المطاف إلى منزلة الأمراء والسلاطين. إنَّ حسن عروس العرائس سلاحها الغادر وحيلتها الخادعة وفتنتها التي تودي بحياة مخدوعيها، لكن جمال أبديّ أسطوريّ ليس له ذبول أو انقطاع، فبعد أن عاشت مديدا وحضرت بين يدي الملك، الذي عمل على قتلها، نظر إليها فأدركَ حسنها “وإذا هي أفضل مما وصفها به ذلك الأعور”. إنَّ ديمومة جمالها يجعل منها شخصية غير اعتيادية، وامرأة جذّابة على الدوام، مما يترك بيدها سلاح لا يثلم ولا يفلّه القراع. يزيد على ذلك كلّه أنَّها عارفة بهذا الحسن الخادع الذي عندها، وتستخدمه فيما ترومه بلا توانٍ أو رحمة. وتشابهت كلُّ الشخصيات في الانخداع بجمال، حتى الجنّي الذي قد يُحسب أنّه بقواه الخارقة أكثر ذكاء وفطنة من أن يُخدّع بصورّة مزخرفة خدّاعة، لكنه كغيره صريع لا ينجو من جمالها. فينخدع ابن عمها الصغير بجمالها فقال حين رآها “فلما دخل بي ونظر إلى حسني وجمالي فافتتن بي ومال إلي كلّ الليل ثم كتم أمري وقال والله ما وجدتها إلا بكرا وإنه لم يصل إليها أحد من الناس”. وبعد أن نفر منها ابن عمها الصغير التجأت إلى ابن عمها الكبير، فافتتن بها واحتالت عليه بوعدها أن تكون زوجته وأن يكون المُلك له والغلبة على أخيه. وقال ابن البحرين حين طلبت منه تركها وحدها في الجزيرة “هل أترك هذا الحسن والجمال الذي ليس مثله؟ هيهات لا يكون ذلك أبدا ولا تطيب به نفسي ولو كان دونه الموت، ولعلها قد تابت من هذا الفعال القبيح وإذا أحسنت إليها انصلح منها ما انفسد”. غلب الهوى والانخداع بجمالها على عقول مبصريها، فكذب ابن عمها الصغير بشأن بكارتها، وانخدع أخوه الكبير بها، وأخذها ابن البحرين معه على الرغم ما أظهرت من سوء وشر ومكر وخديعة. لم ينجُ من جمالها إلا رجلان، لكنها نجاة شابها النقص، فحين ظفر بها ابن عمها الصغير، في المرة الثانية وقد كانت زوجته، خاطبها “أنت والله شهية بهية مليحة غير أن الدنيا ونعمتها أحسن منك”. ما دري أنّها كالدنيا لا يسلم منهما إلا من يقتلهما، وقتل الدنيا بالتخلّي عنها، فأمرَ بوضع ابنة عمه في تابوت صنعه النجارون له، وحبسها فيه وقُذف بها في البحر. أخطأ ابن عمها حين لم يقتلها، فما كانت نجاته إلا حينا إذ عادت مع الجني لتحرق مدينته بمن فيها. وكان ملك المدينة الثانية بعد أن حفر لها حفرة لقتلها قد أخطأ حين ظنَّ بها خيرا انخداعا بحسنها وتوبتها، فنفّذ وصيتها وسكب وراءها في الحفرة ماءً وضعت فيه صمغا حرّاقا أتى على بلاطه وأهلكَ رجاله. استعملت عروس العرائس الجمال أداةً للخداع ثم القتل، ومن دون جمالها ما كانت لتبلغ مرادها وتهلك الرجال، وبه سهل عملها وحققت ما تريد، فما أشبهها بالدنيا. 

يرتبط الجمال الخداع بالدنيا ومتاعها الزائل، يقول تعالى “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”، فالدنيا وما فيها من مباهج وملذات وإشباع للرغبات والنزوات ليست إلا زيفا وخداعا لا يصمد إذا ما أزفت ساعة الحقيقة، ووطئت القدمُ عتبة الموت ثم أرضَ المحشر، فكل ما في الدنيا سراب ووهم، وكلّ زخرفها وزينتها إلى زوال لا ينتفع المخدوع بها ولا الساعي إليها. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال “يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال هل تعرفون هذه؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه. فيقال هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم، فتنادي يا رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها”1. ويأخذ بيرسي شيلي في قصيدته الملغّزة والمحيّرة “لا ترفع السجف المزخرف Not lift the painted veil” الحياةَ وزينتها إلى بُعدٍ آخر، يراها مثل ستارٍ مزخرف بالزينة الجميلة يغرينا برفعه، لكننا لا نجد خلّفه ما نأمل الحصول عليه من آمال ورغبات وأحلام وحتى حياة موعودة. 

1- مختصر منهاج القاصدين – باب في ذم الدنيا.

انْكَحْ تُقْتَلْ

قدَّمت عروس العرائس مثالا، قليلا ما كان في الأدب القديم والحكاية الخرافية، وهو استخدام الجسد، وما تقدّمه للرجال من متع وإشباع الرغبات، وسيلةً لتحقيق مآربها. ويكشف في ذات الوقت عن سجيّة شهوانيّة متّقدة لا تنطفئ وإنْ وطئها أهل الأرض جميعا. بيد أنّ هذا الوطء ارتبطَ بالموت، فكلُّ من وطئها قُتل عاجلا أو آجلا، فعلّم الموت الوجه الآخر للمتعة التي تهبها. ترجع أصول فكرة الموازاة ما بين النكاح والموت إلى فرضية أفضليّة المرأة على الرجل، وعلو قدرها، ورفعتها. تبرز إنانا/ عشتار، إحدى الإلهات الرئيسة في أساطير وادي الرافدين، لتقدّم صورة عن عبثيّة المرأة في نزواتها، واستغلالها الرجال لإطفاء شهواتها، ثم التخلّص منهم لسبب أو لآخر. فنرى غلغامش حين طلبت زواجه يرفضها ويعيَّرها بماضيها مع عشَّاقها، وكال له سيلًا من الإهانات، ومما أهانه بها “أيٌّ من عشَّاقكِ من بقيتِ على حبه أبدًا، وأيٌّ من رعاتكِ رضيتِ عنه دائمًا، تعالي أقصُّ عليكِ مآسي عشَّاقك…”.1 ولها مع دموزي الراعي العديد من قصائد الحبِّ والجِماع، لكن ما نفع دموزي حبُّه لها ولا حبُّها له إذ جعلته فداءً لها حتى تخرج من العالمِ السفلي، بعد أن نزلت إليه بمحض إرادتها بغية السيطرة على مملكة أختها إريشيكغال. فمواقعة إنانا منزلة لا يعدلها إلا الموت. وتجلّت هذه الأفضلية في مسابقة زواج المرأة، فالدخول في التنافس عليها، سواء بمنافسة آخرين أو منافستها هي، يمنحها الذكر الأفضل، والزوج المكافئ لها، وفي خضمِّ هذا السباق يسقطُ المتنافسون ولا يصل إليها إلا الرجل الأكفأ، ونرى ذلك في أمثلة كمسابقة الزواج في ملحمة المهابهاراتا الهنديّة حين يقيم الملك دراوبدا مسابقة زواج لابنته دراوبدي، تنتهي بالفوز بأرجونا، وكان قدرها أن تصبح زوجة الإخوة الباندويّين الخمسة. بيد أنَّ مسابقة الزواج شهدت انتقالا أشدَّ قسوة من الهزيمة وحدها إذ ارتبطت بالموت. فكانت أتلانتا سريعة القدمين تشرط على من يتزوّجها أن يغلبها في سباق الجري وإن هزمته قتلته، فقتلت الخاسرين حتى جاء هيبومينس وبمعونة تفاحات أفروديت الثلاث هزم أتلاتنا وتزوّجها. لكن هيبومينس لم يسلم من العقوبة لافتضاضه بكارة أتلاتنا إذ نسي تقديم قرابين الشكر لأفروديت فمُسختها أسدين محرومين من جِماع مخلوق من فصيلتهما بل يُجامعان النمورَ لا غير. وقيل إنَّ هذه العقوبة من أرتميس إذ ليس مقدَّرًا على أتلانتا أن تُجامعَ الرجل ولا أن تفقد عذريَّتها، وأن تبقى بكرًا خالصةً لأرتميس. وكذا حال برنهيلد في نشيد النبيلونغ الجرمانيّ إذ اشترطت على من يريد زواجها أن يهزمها في مسابقة من ثلاث منافسات، حتى جاءها غونتر وسيغفريد وغلباها بالحيلة، وكان الموت مصير سيغفريد، الذي غلبها في الحقيقة وحده، إثر مشاجرة بينها وزوجته كريمهيلد. وحمل موته رمزيّة مضادة جزاءَ غلبته برنهيلد. لم نعدم أمثلة على التنافس في مسابقة الزواج في الأدب العربي، ففي إحدى حكاية كتاب “نزهة الأشواق في أخبار المتيَّمين والعشَّاق” فإنَّ منافسة المرأة على نفسها تكون بالإجابة عن الأسئلة. يسمع الغلام أحمد بن علاء الدين بابنة ملك ميّافارقين وأنها اشترطت على من يرغب في زواجها أن يجيبها عن عشرين مسألة مُشكلة، فمن أجابها تزوَّجها ومن لم يجبها ضربت عنقه وعلَّقته على برج القلعة. فكان أن هزمها الغلام أحمد وإنْ لم يمت في آخر القصة. وكذا مع حديث الميَّاسة والمقداد في كتاب الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، وهي حكاية عربيّة طويلة تحضر فيها منافسة المرأة وشرط غلبتها من أجل الزواج. تنطلق هذه النصوص، وترسّخ في ذات الوقت، بمفهوم صراع البكارة والافتراع، فما الذي يدعو المرأة أن تقتل من تغلبه في منافسة على نفسها إلا لأنها لن تُذل عِنانها إلا لمن يقدر على شدّه وإخضاعه، وكلُّ عاجزٍ عن ذلك افتقر إلى ما يميّزه رجلا، فالفناء ما يستحقه. وتكشف في ذات الوقت إنَّ افتراع المرأة هو إفقادها قوّتها وميزتها وما يفضّلها على غيرها. يقول الشاعر في نشيد النبيلونغ إنَّ افتراع غونتر لبرنهيلد أخضع له عنانها وذلل حزونها وطوّع ركابها ففقدت كلَّ قواها وصارت مثل سائر النساء. إنَّ البكارة قوّة لا تملكها المفترعة، وتحافظ المرأة عليها حتى تمنحها لمن تريد أو يغلبها على نفسها، فإذا ما منحت للرجل بكارته صارت تبعا له. فلا يأخذ النكاح وفق هذا المنظور العلاقة التشاركيّة من أجل متعة الاثنين والإنجاب بل هو تنافس لفرض الهيمنة. يصبح دم الرجل مكافئا لدم المرأة، وما يسفك من الأعلى ينزُّ نظيره من الأسفل، فالوطء قتل رمزيّ للمرأة، وبما أنّ المرأة لا تملك أداة القتل الرمزي فتلجأ إلى القتل الحسيّ. تخلّصت عروس العرائس من كلِّ أزواجها وعشّاقها فقتلتهم بيديها أو تسبّب بهلاكهم على أيدي آخرين. فكان الشاب المليح الذي دلّتها عليه جاريتها غاويةً إياها أول من قُتلَ بعد أن شرعت في مواعدته ومواقعته. أسقطها افتضاض بكارتها في يدها قبيل زواجها، فكان لازما عليها أن تخلّص نفسها من الورطة، فخلّصتها بأن احتالت على مئة فتاة من بنات الأكابر والقادة في ممكلة أبيها مع مئة شاب أقنعت الشاب أن يأتي بهم، وكان مصيرهم أن قُتلوا جميعا على يدي أبيها الملك. تكرر الأمر مع ابني عمّها الصغير والكبير، لم تشر الحكاية إلى أن ابن عمّها الكبير قد واقعها، لكن المرجّح ذلك لا سيما بعد انبهاره بجمالها، ومات الاثنان. وكذا الحال مع القهرمان حارس السجن الذي انتهى به المطاف مقتولا. وضاجعت الجنيّ ثم قتلته، وابن البحرين الذي تزوجها إذ مات معها إذ هوت به إلى النار، وكذا زوجها التاجر الذي كشفت جريمته فقتله الملك. لا يأخذ القتل دوما طابعا ثنائيا مع المتعة التي يهبها جسد عروس العرائس، فيكون عقوبة على بخس قدر هذه المتعة الموهوبة كما كان مع الفتى. يصل الفتى إلى جزيرتها وتتعرف إليه، ثم تطيب نفسها له وتميل إليه ويبدأ بمواقعتها، والجني لا يدري بذلك، ولما أحسَّ منها الخيانة سعى لمعرفة خبيئة الأمر، فما عثر على الفتى. ثم إنها كانت تغيب عن الفتى حين يقبل الجني وتعود إليه حين يغيب، ووجدت الفتى ذات يوم قد أوذي في بدنه ونهش جسدها، فأخبرها بقصته مع إحدى عرائس البحر وأنه اغتصبها ثم عادت بعد مدة فظّن الفتى أن عروس البحر قد أعجبها ما نالت منه، لكن كان معها عشرون جارية من عرائس البحر وهجمن عليه، وأصابه ما أصابه منهن. غضبت عليه عروس العرائس لفعلته هذه ولما جاء الجني حرّضته عليه حتى قتله. تضحى متعة الجسد أحيانا ذات جو داعرٍ فاحش، يتجاوز مواقعة رجلٍ واحدٍ لغايةٍ ما، وتصير المتعة من أجل المتعة دون أن التزام بعرفٍ. تلتقي عروس العرائس في الجزيرة، في أثناء غياب الجني، عشرة رجالٍ فقالوا لها إنها وقعت في نفوسهم وأرادوا مواقعتها فأجابتهم “ما سألتموني حاجة أهون من هذه قد جئتكم فاصنعوا ما بدا لكم”. ثم واقعوها جميعا واحدا تلو الآخر، وفي أثناء ذلك أقبل الجني ورآهم فقتلهم جميعا، وهمَّ غاضبا عليها لكنها احتالت عليه بأنها وحدها وضعيفة وأنهم كثر فغلبوها على نفسها. تمتعت عروس العرائس بأجساد الرجال وجازتهم على المتعة بالموت، فما عاش مديدا رجلٌ واقعها، وغالبُ من واقعها كان موته سريعا مرادفا لاستمتاعه بها. وأكّدت في فعلها ضرورة سفك دم الرجل ليكافئ افتضاض بكارتها/ مواقعتها، وأنّه بلا سفك دمه يبقى متفوقا على المرأة. 

1- ملحمة كلكامش – ترجمة طه باقر. 

شرٌ مستطيرٌ

“وإني أخطأت في قولي هذه الكلمة لأني لم أنصح أحد قطّ ولا قلت لها كلمة مثلها”. 

أمسكَ بعروس العرائس ابن عمّها الصغير بعد أن هزم أخاه الكبير واستولى على الملك، وأمر بصنع صندوق حبسها فيه، وأمر رجاله بأن يرموه في عرض البحر. تلاطمت الأمواج وتقاذفت الصندوق فعثرَ عليه جني يطوف في البحر، فلما فتحه ووجد بداخله عروس العرائس، فاستسحنها ومال إليها ثم أتاها بالطعام والشراب، وشرع في مواقعتها. عاشت عروس العرائس زمنا مديدا حبيسة الجنّي، وما فتأت كلَّ تلك المدة تبحث عن وسيلة لقتله حتى تمكّنت من ذلك. يأخذنا حبسها عند الجني إلى الجارية التي خطفها الجني في حكاية ألف ليلة وليلة الإطاريّة، فحين خرج شهريار وأخوه شاه زمان يسيحان في الأرض بعد أن خانتاهما زوجتاهما، حزما أمرهما على ترك الملك واعتزال النساء، التقيا في أول دربهما جاريةً حبسها جنيّ في قارورة، وطلبت منهما مواقعتها انتقاما من الجني الذي خطفها. كانت الجارية تنتقم من الجني بمواقعة غيره، وكذا حال عروس العرائس كانت تواقع الرجال في الجزيرة على جهلٍ من الجني، وإنْ لم تكن مواقعتها بدافعِ انتقامٍ أكثر منها شبقا وغلمة وسجية مفطورة عليها. ورغبت دائما في الخروج من الجزيرة، والتخلُّص من الجني، وهي رغبة تشبه رغبة أوديسيوس في الانعتاق من حبس جزيرة كاليبسو الذي دام ثماني سنوات، لكن ما أتيح لها ذلك وما تمكّنت منه إلا بعد لأي واجتهاد. 

عاشت عروس العرائس شطر عمرها الأكبر مع الجنيّ، وهي سنوات انسلخت عليها شديدة الوطء، لا سيما مع ضعفها في حضرة الجني، واستغلّت حبّه لها حتى صار لها حظوة في قلبه بدأت تسيطر عليه وتلاعبه وتخدعه بحيلها. برز في هذا التلاعب مقدرتها العالية في جعل الظروف في صالحها، وإنْ بلغت من السوء مبلغه، واستفادت من شرّها الفطريّ. وسعت في تحقيق ما ترومه بلا توانٍ فطلبت في أول أمرّها ممهدةً لغايتها أن يحدّثها عن عجائب البحر، وأخبرها عن جزيرة ذات رمل أحمر إذا طلع عليه الشمس صار نارا يحرق كل ما يأتي عليه. سألته أن يأخذها إلى هذه الجزيرة في الليل وتنال من الرمل لتذره على مدينة أبيها وابن عمها الصغير. أنكر عليها الجني ذلك لما فيما ترومه من شر كبير وظلم لأناس أبرياء، وأن في المدينة صالحين وأطفالا وشيوخا، لكن خضع لها في آخر أمره وكان لها ما أرادت. ذرت الرمل فوق المدينة في الليل وما إن أقبل الصباح حتى احترقت على بكرة أبيها وخوت على عروشها. لا تستفيض الحكاية في هذه الفعلة الشنيعة حين أنزلت بها العذاب الأليم على مدينتها، ولهو انتقام بشع انتقمت به من المدينة التي طردتها. علّم الانتقام الشديد سجيّتها وبأن فطرتها الشريرة لا يمكن تقويمها ولا إصلاحها، ولا ينتظر منها خيرٌ أبدا. رضيت عروس العرائس بالشر في نفسها، وما تُنبّئ لها به حين ولادتها، فصارت حياتها شوطا لإثبات ذلك، وأنها جديرة بالشر والمكر الذي وصمت به. فما آلت جهدا ولا ضنّت بحيلة على خصومها، فقتلت وأجرمت بلا توبة أو ندم أو عطف، وكلما تقدّمت في الحياة أوغلت في الشرّ أكثر. تتجلى في العذاب الجماعي، الذي ناله البريء والمذنب في مدينة أبيها وزوجها، ضبابيةُ الرؤية الأخلاقيّة والظلم في أحكامها، وأنَّها تقدّم نفسها على كل ما سواها. تسلكُ عروس العرائس في العقاب الجماعي سلوك السلطة الإلهيّة في إنزال العذاب على الكافرين، والفرق معها أنّها لا تحذّر ولا تُنذر ولا ترسل الرسل، فيأتي عذابها من حتميّة نفسها المجبولة على الشر، فكلُّ عدوٍّ لها، صغر أو كبر، لا بد أن ينال عقوبته. تلتقي عروس العرائس في عقابها المدينة الجاريةَ الساحرة في حكاية الصياد والعفريت، وهي إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، فبعد أن يتجاذب الصياد والعفريت مواقع التدافع بين النجاة والهلاك، يسوق العفريت الصياد إلى بحيرة تحيطها الجبال من أربع جهات فيها أسماك على أربعة ألوان، أبيض وأحمر وأزرق وأصفر، ويسأله أن يصطاد أربع سمكات ويأخذها إلى ملك مدينة الذي سيجازيه عليها ما يغنيه. امتثل الصياد لمشورة العفريت، واتَّضحَ للملك أنَّ وراء هذه البحيرة وأسماكها حكاية عجيبة. كانت البحيرة والجبال مدينة عامرة، والأسماك أهلها من مسلمين ونصارى ويهود ومجوس، واتّفق ذات يوم أن كشف الملك خيانة زوجته إياه مع عبدٍ أسود، فما كان منها إلا أن سحرت نصفه الأسفل إلى حجارة، وأبقت أعلاه بشريا، وسحرت أهل المدينة إلى أسماك، وحولّت المدينة إلى بحيرة تحطيها الجبال. استطاع الملكُ خداع الزوجة فجعلها تفك السحر عن زوجها وأهل المدينة ثم قتلها. انتهت الحكاية في ألف ليلة وليلة نهاية سعيدة بانتصار الخير على الشر، بيد أن حكاية عروس العرائس مع أهل مدينتها لا تنتهي إلا بغلبتها، وفناء المدينة وأهلها. 

ما لزم الجني أكثر مما شهد ليتخلّص منها أو يقتلها، لكن كسائر صرعاها مضروب على بصيرته لحسنها ومقدرتها على التلاعب به والسيطرة عليه. فشرعت تسعى لمعرفة كيف تقتله، فجعلته يقاتل عفريتا جبارا فغلبه على غير ما رجت، ثم كادت تودي به مع مخلوقات الدرن القادرة وحدها على قتل بني جنسه ونجا أيضا. ولما ضاقت بها الحيل سألته كيف يُغلب فأسرّ لها أنّه إذا وضع خاتم فيه اسم الله الأعظم على جبينه وذبح وقع موته. قيّض لها بعد ذلك أن التقت ابن البحرين، وكان في حوزته خاتم فيه اسم الله الأعظم، فأخذته ونحرت بيديها الجني. كافأت عروس العرائس الجنيَّ على كلّ صنائعه معها بالموت، وكذا حال كلُّ من أحسن إليها لا سيما الرجال. 

شهد ابن البحرين ذبحها الجني، ثم سمع منها قصّتها، لكنه ما اتعظّ مما سمع وأبصر، فأصرَّ على مرافقتها لما رأى من حسنها، ولا ينفع الندم ساعة مندم. تجاهل ابن البحرين حقيقتها، وما فطرت عليه من شرٍ، بل تجاهل ما رآه في أول دربه معها فبعد أن سرقت قارب العجوز إثر خروجهم من الجزيرة، وخلّفته وراءهما في جزيرة وحده، اعترض عليها فنهرته قائلة “اسكت ولا تعترض عليّ!” وقالت له “إن كنت ما قتلت غير هذا فأنا أسعد من على وجه الأرض”. فما أحار جوابا، وسلّمها القياد. أظهرت عروس العرائس سلطة أنثوية قاهرة، وتسيدا على الرجال، حتى إنهم يخضعون لها ولا يخالفونها في أمر. بلغ شرها مع ابن البحرين مبلغا خرجَ من أطواره الطبيعية ذات الغايات الانتقاميّة أو المصلحيّة، وصارت تمارس شرورها استمتاعًا بالشرّ وتماهيا معه. تزوجها ابن البحرين بعد أن عاد إلى بلاده، وكان متزوجا وله ولد. بقي يعيش أيامه ما بين زوجتيه حتى اشمأزت نفسها منها بعد أن ذكر أفعالها. وشرعت في إعمال حيلتها لأذيته لكن بأذية غيره فيعود سوء أفعالها عليه. اتفق أن مرضت ابنة ملك مدينته، وندبت نفسها لعلاجها، فعالجتها لكنها كحلت عينيها بكحل العمى فأعمتها وأمها، ثم هربّت من المدينة. أمسك الملكُ بزوجها ابن البحرين، وورطته كما ورّطت الجني فيما يهلكه، فقلع الملك عينه اليمنى وعفا عن يسراه، ونفاه وأهله من المدينة. ثم التقاها في مدينة أخرى واحتالت عليه أنها أخطأت الدواء وفرّت خوفا من الملك، فصدّقها من جديد ولا ينفع النذير مع أعمى البصيرة. أوقعته في ورطة أخرى مع ابنة ملك المدينة الأخرى، إذ كانت تجتمع بها وتقصّ عليها من عجيب الحكايات حتى دسّت دواء يحبّل المرأة من غير زواج، وطلبت من ابن البحرين وأمه أن يذهبا إلى ابنة الملك ليسامراها بدلا منها، بعد أن أدركت أن الملكَ سيعلم بحمل ابنته، فدخل عليها وعندها ابن البحرين وأمه وظنّ أنه من فعل بابنته، فقتلها ورماه في السجن. ثم خرج من السجن، والتقى عروس العرائس واحتالت عليه مجددا معتذرة فصدّقها، وذهب معها إلى بيتها ثم صاحت أنه دخيل همّ بالاعتداء عليها فأخذته الشرطة وطرحوه في السجن. ثم خرج من السجن بعد مدة والتقاها فقالت له “فوالله ما يطيب لي عيش وأراك تمشي بين الناس على وجه الأرض” فأجبرته أن تذهب معه إلى السجن وتقول للأمير إنها أمه وأراد منها ما يريد الرجل من امرأته. فأخذه الأمير وطرحه في السجن المرة الثالثة. استعملت عروس العرائس ابنَ البحرين استعمالا جرّده من آدميّته، فعاقبته المرة تلو الأخرى، بلا رحمة أو شفقة، حتى اضطرّته أن يختار السجن رغم أنفه، ولا يخرج منه خوفا منها. 

تبدو عروس العرائس مدفوعة بفطرتها إلى إيذاء الناس والإيقاع بهم، لكنها في أحيان أخرى تُجرُّ إلى ذلك أو يمنحها الآخرون سببا في عقابهم، كما فعل ابن عمها الكبير بعد حضّ أمه على حبسها وتذكيرها بفعائلها، والشاب الذي أخبرها عن عروس البحر التي اغتصبها بعد أن صار محظيا عند عروس العرائس، وابن البحرين الذي نفر منها بعد أن تزوّجها. وجدت في كل أشواط حياتها سببا لتنتقم أو تعاقب أو تمارس شرّها، وما عدمت سببا قطّ، فكانت حياتها سلسلة متعاقبة من الشرور والسوء، تدفع كلُّ حلقة أختها يُحرّكها يقين لا يخالطه شك بأنها ولدت لتؤذي، وأن طالعها المشؤوم يوجّه باستمرار أفعالها تجاه نفسها والآخر. آمنت أنّ قدرها أنْ تؤذي، واتسّقت وذلك تماما وإنْ بدر منها ما يسعنا تفسيره بأنه بذرة خير أو بصيص أمل، لكنه يُكبت فلا تسمح له في البروز أو التأثير في شأنها أو عدولها عن شرّها. 

كيدٌ عظيم

لا يكتمل شر عروس العرائس إلا بالكيد العظيم والمكر الكبير والحيل الخبيثة، واجتمع فيها ما كان بعضه في خلق كثير غيرها. فكانت أول حيلة أدت إلى ظلم كبير حين طلبت من الشاب، الذي واعدته قبل زواجها ابن عمها الصغير، أن يأتي مع مئة من الفتيان يثق بهم، وتأتي هي ببنات الأمراء والوزراء ويصعدن في زورق ثم يقبل الفتيان ويجذبون الزورق ويأخذ كل واحد منهم جارية وهي تذهب معه، حتى يُفعل بهن وتنجو بنفسها من أي تهمة. فانتهكت بهذه الحيلة بنات القادة والوزراء والرؤساء في المدينة. ثم طلبت من أمها أن تخبر أباها بالنبأ فجاء بجيش وخلّص البنات وقتل الفتيان. وعندما أعلمته الجارية بخبر ابنته وحيلتها ندم الأب على فعلته وعلى قتل المنجمين من قبل. نفذت بشرفها من العار والأذى بأن جعلت علية القوم يتجرّعون مرارة أن تنتهك أعراضهم، فما كان لأحد أن يقذفها في شرفها أو يؤذيها بكلمة، إذ العار جماعيّ طال الجميع. ثم احتالت مع ابن عمها الكبير على أخيه الصغير وزوجها، بعد أن نفر منها، فطلبت منه أن يقيم مأدبة ويدعو إليها أرباب مملكته وأباها. ثم أخذت تاج الملك والبدلة وانطلقت بهما إلى ابن عمها الكبير. فهجم عليهم بجيشه وما نجا أحد خلا ابن عمها الصغير وأبيها. انقلب عليها ابن عمها الكبير لتحذير أمه منها لما ظهر منها من شر ومكر، فحبسها في حجرة وسط قصره وجعل عليها قهرمانا. بدأت عروس العرائس تستميل القهرمان حتى وقع في شراكها، فصار يواقعها وينفذ لها طلباتها. شرعت في الكيد لابن عمها الكبير وطلبت سما ووضعته عند مدخل الحجرة، واحتالت على القهرمان وابن عمها الكبير فدخلا الحجرة، وكان هلاكهما بالسم الذي حرق جسديهما. ثم كانت لها حيلها مع الجني حتى قتلته، وكذا الحال مع زوجها ابن البحرين الذي أوقعته في المصائب واحدة تلو أخرى، وحبسته في السجن. قصَّ ابن البحرين على أمير السجن خبره مع عروس العرائس حين أراد إخراجه من السجن ورفض ذلك. رفع أمير السجن خبرها إلى ملك المدينة، وكانت قد تزوّجت تاجرا، فلما سمع الملكُ بخبرها أمر جنده أن يأتوه بها. اعترفت بجرائمها فأمر الملكة بحفر حفرة في الأرض وإيقاد النار فيها ليحرقها. طلبت عروس العرائس أربع حوائج فإذن له الملك في ذلك، سألت في حاجتها الأولى إناء فيه ماء لتتوضأ وتصلي، وبعدما أنهت الوضوء طلبت من الخادم أن يصب الباقي من الماء في الحفرة بعد أن تحرق. وكانت حاجتها الثانية أن أعلمت الملك أن زوجها قد قتل ابن عمه ودفنه في بستان بيته. فكانت حريصة على إهلاك الرجال الذين أحسنوا إليها. فأخذه الملك ورمى به إلى حفرة النار. وطلبت في الحاجة الثالثة إلى الملك أن يحاللها ابن البحرين مما جرى بينهما فتحاللا. وفي الحاجة الرابعة أنها طلبت من ابن البحرين أن يرجع إليها خاتمها ويأخذ خاتمه، فلما اقترب منها ضمّته إليها وقذفت بنفسها في النار فهلكا معا. تعجب الملك من فعلتها لكن أكّد لو أنها لم تلقه في النار لألقاه هو لعمى قلبه واتباعه إياها وعدم ارتكانه إلى البصيرة. لكنها بصيرة افتقر إليها الملك إذ قال له الخادم ما أوصت به عروس العرائس حين سلمته إناء الماء وطلبها أن يصب وراءها في الحفرة، فشاور وزيره فأشار عليه أن يصب الماء وراءها. فصبّه الخادم وكان في الإناء صمغ النار الذي أخذته من الجني صاحبها، فاستعرت النار وأحرقت البلاط ومن فيه وما نجا خلا الملك. على هذا الشر والهلاك كانت حياتها ونهايتها، حيلة تتبع أخرى، ومكيدة تلاحق أختها. ولدت فأهلكت المنجّمين العشرة، وماتت آخذة معها ابن البحرين ليحترق معها وآخرون شهدوا موتها. لم يكن للقتل والشر نهاية معها، فهي تحتال لتؤذي حتى بعد أن تموت، كحال الملك يونان والحكيم رويان، أو اليونان ودوبان بنسخة محسن مهدي، في حكايات ألف ليلة وليلة. انتقم الحكيم رويان من الملك بعد أن شفاه من مرضه، فأوغل وزيرُه صدرَه على الحكيم. قتلَ الملكُ الحكيم يونان ظلما، لكنه أوصاه بتصفّح كتابٍ أهداه إياه وأن يضع رأسه في طبق بعد قتله، ثم يسأل الرأس عما يريد وسيجيبه. عمل الملكُ بوصية الحكيم، لكنه لم يدرك أن خبر الرأس ليس إلا إلهاءً للملكِ عن الكتاب المسموم. تصفّح الملك الكتاب مبللا إصبعه بريقه فتسرّب السم إلى جسده ومات. انتقم الحكيم بعد موته من الملك الظالم، وانتقمت عروس العرائس ممن قتلها بعد موتها، وشتّان ما بين الاثنين.   

ختاما لا نجد في حكاية عروس العرائس أسماء للشخصيات، فكلّها كُنى وصفات، ما عدا اسم واحد وهو يسار ابن عمها الكبير، ولا يذكر إلا في موضع واحد، وتبقى الإشارة إليها بابن العم الكبير. تختفي الأسماء من الحكاية، وما من اسم إلا اسم عروس العرائس، تظهر الشخصيات وتزول، وتعيش وتموت، بلا أسماء، فكأنها والعدم سواء. ما الذي يوحي به عالم شخصيات بلا أسماء؟ ما من إجابة محددة، وتبدو الإجابة الأقرب أنَّ عالم عروس العرائس قائم من أجلها، فهي بؤرة الحكاية والرواية، وتستمد الشخصيات الأخرى أهميتها لارتباطها بها، فهي من تمنح وجودهم وزنًا بإنزالها شرّها عليهم. يزيد المفارقة أن اسمها عروس العرائس، ومعناه المرأة (والرجل أيضا) ما دامت في عُرسها، وهي عروس العرائس أي جميلة الجميلات وحسناء النساء. يوحي الاسم بشخصية وديعة محببة تجتمع فيها كلُّ الخصال الحسنة والخلال الطيبة، لكنها كانت على عكس ذلك، واسما على غير مسمّى، لتثير المفارقة محاكاة ساخرة ضمنيّة. كانت الشخصيات أقلّ شرًّا منها، وهي في مقامٍ لا يُدانى، فاختفت الأسماء وما بقي إلا اسمها، فلا شخصية تقربها أو تشبهها حتى يكون لها اسم. تكبر السخرية حين يحضر اسم الدرن، اسم جنس المخلوقات التي بمقدورها إهلاك العفاريت، وهو الوحيد الذي تتردد صداه في حكايتها. 

  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى