كتب

مواجهة صدام حسين: جورج بوش وغزو العراق – ميلفين ب. ليفلِر

Confronting Saddam Hussein: George W. Bush and the invasion of iraq - Melvyn P. Leffler

مع اقتراب الذكرى العشرين لغزو العراق في آذار/ مارس 2003 صدرَ كتاب الأستاذ والمؤرخ الأمريكي ميلفين ب. ليفلر عن الغزو الأمريكي للعراق. ما كان في نية ميلفين أن يمضي في مسار السياسة الأمريكية الخارجية وأحداث 11 سبتمبر، لكن وبنصيحة من زميله اقتنعَ بانتهاء صلاحية الحديث عن الحرب الباردة في الألفية الثالثة، شارعًا بتقديم محاضرات عن أحداث 11 سبتمبر والسياسة الأمريكية الخارجية. التقى ميلفين بإريك إيدلمان في 2009، الذي عمل في مكاتب دوائر وزارة الخارجية Foreign Service officer. وبفضل إيدلمان تعرَّف على عدة شخصيات من صانعي القرار الأمريكي، وشخصيات من إدارة جورج بوش، واجتمع بهم في لقاءاتٍ جامعا معلوماتٍ منهم عن مرحلة ما قبل أحداث سبتمبر ومرحلة ضرب برجي التجارة العالميين وما تلاها، ومرحلة ما قبل إعلان الحرب على الإرهاب ثم احتلال العراق وعواقبه. استمرَ عمله على الكتاب نحو عشر سنوات ابتداءً من 2010، ونُشرَ في أواخر عام 2022. التمسَ ميلفين في لقاءاته بغض بوش وبلير لصدام حسين نظرًا لتحديه، وخيانته، ووحشيته التي أثَّرت في حساباتهما، ولا يمكن فهم قصة التدخل دون إضاءة جوانب من سلطة الطاغية العراقي وحكومته. ويرى أن غزو العراق تحوَّل إلى مأساة لكنها ليست كما أشاعت بعض القصص عن دور المحافظين الجدد وتلاعبهم بالرئيس، فقد تداخلَت في حكومة بوشِ عدَّة عوامل، ما بين عامل الحلفاء، وعامل الرؤية الشخصيّة، وعامل الصراع الإيديولوجي، مما جعلها عسيرة على التعاطف والانتقاد على حدٍ سواء. ولربما كان يمكن الخروج من هذه المعمعة بنتائج أفضل لو كان لدينا صانعو قرار أكثرَ صدقًا، كما يقول ميلفين. ويكتب أسعى في هذا الكتاب أن أفحص مليًا لماذا قررت الولايات المتحدة غزو العراق ولماذا انحرفت المهمة سريعًا عن مسارها. 

*

قُسِّم الكتاب إلى عشرة فصول: صدام حسين، جورج بوش، أحداث 11 سبتمبر، العراق، الدبلوماسية القسريّة، علاقة مميزة [بوش وبلير]، اتخاذ القرار [قرار الحرب]ٍ، الحسم، انحراف المَهمة، الخلاصة.   

بدأ الكتاب بعرض موجز عن حياة صدام وصعوده إلى الحكم، ثم عن حياة بوش وصعوده إلى رئاسة الولايات المتحدة. تحددت اهتمامات حكومة بوش في سياساتها الخارجية وانصبَّت على كوريا الشمالية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعلاقات مع الصين. ولم يكن لأمريكا في الشرق الأوسط مصالح أكثر من مصالحها “في الخليج الفارسي [كما يسميه ميلفين]، وسعيها للسلام في الشرق الأوسط [لا سيما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي]، وحماية إسرائيل”. بدأت نقطة التحول مع تفجيري برج التجارة العالميين، وكان لدى الاستخبارات الأمريكية مؤشرات عن هذه الضربة، كما في المذكرة التي قدمها ديك كلارك لكوندليزا رايس، في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2001، بتقديرات عن خطرٍ داهم من القاعدة. لكن لم يكن للمذكرة ما تستحقه من اهتمام. وبقيت الاستخبارات الأمريكية عاجزة عن تحدد ماهيّة هذا الخطر وزمنه وموقعه هل هو داخلي أو خارجي يستهدف المصالح الأمريكية. وفي الحقيقة لم يكن أحد في الحكومة الأمريكية مستعدًا لهجوم الحادي عشر من سبتمبر. لم يكن السبب في ذلك أنَّ إدارة بوش لم تلقِ بالًا للعراق وصدام حسين، وإنما لأن الرئيس الأمريكي لم يولِ الأمن الوطني الاستحقاق الكافي، كما يشير ميلفين. حلَّت الكارثة على أمريكا بتفجيرات القاعدة لبرجي التجارة العالميين ومقتل أكثر من 1466 شخصًا، لكن الأنظار لم تُصوَّب إلى العراق إنما إلى أفغانستان التي كانت مركز نشاط القاعدة. ثم بعد تفجيرات سبتمبر انتشرت الكثير من الرسائل الملوثة بالجمرة الخبيثة المرسلة في البريد، وبروز معلومات عن طموحات القاعدة للحصول على أسلحة دمار شامل، لتبدأ الحكومة مساعيها في لملمة شتات المعلومات المتناثرة حول الموضوع. 

بعد قرار غزو أفغانستان والإطاحة بحكومة طالبان دون تحقيق نتائج مرجوَّة، سعى رامسفيلد وباول وولفوتز بتوجيه الأنظار إلى صدام حسين. ما كنت النيّة في بادئ الأمر على غزو شامل للعراق إنما رغبة بالتخلص من نظام منخرطِ في الإرهاب وداعم له بما يُهدد مصالح أمريكا. وهيمن على إدارة بوش هاجسٌ بأنهم في صراع وجوديّ مع متعصبين يحاولون الاستحواذ على قلب الإسلام وروحه وعقله، كما أنهم كانوا على استعداد سابقِ للظنِّ بأنَّ صدام حسين يمتلك أسلحة دمارٍ شامل. وشاركهم الرؤية رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وأخلص مستشاريه، وما من أحدٍ أخبرَ بوش بأنَّ صدام لا يمتلكِ أسلحة دمارٍ شامل، كما لم تُطرحْ احتمالية أنَّه لم يكن يمتلك هذه الأسلحة بسبب سجله الإجرامي، واستخدامه السلاح الكيمياوي ضد الأكراد في حلبجة [كما يعتقد الكاتب دون طرح الخلاف في الأمر وعن دور إيران المحتمل في ضربه كما أشارت تقارير لاحقة]، وطغيانه ضد معارضيه واعتقالهم واغتيالهم في الداخل والخارج، وسلوكه الخادع والملتوي، ومحاولاته الالتفاف على الحصار وبيع النفط في السوق السوداء وشراء الأسلحة. وكانت التقارير الاستخبارية تتوالى عن تدريب الإرهابيين في العراق ومخطط تنفيذ عمليات ضد المصالح الأمريكية والمراكب التابعة للبحرية الأمريكية. وما زاد الطين بلة هو الاعتقاد برغبة القاعدة الحصول على أسلحة دمار شامل وحتى تطويرها، كما في التقارير عن وجود أبي مصعب الزرقاوي في ناحية خورمال، في محافظة السليمانية، غربي شمال العراق، وامتلاكه مصنع متنقل لتطوير الأسلحة البيولوجية والكيمياوية، لكنهم في الوقت نفسه ما كانوا متحمسين للحرب العراق. لذا فقد تاقت إدارة بوش للتخلص من صدام حسين، وإظهار الحزم الأمريكي، وحماية مصالح الولايات المتحدة، واعتراض أي احتمالية لنهوض القوَّة العراقية العسكرية، لأن خطر أسلحة الدمار الشامل ليس في إمكانية استخدامها من صدام يوما ما ضد الولايات المتحدة الأمريكية، بل وفي تهديد مصالحها الخارجية وتشكيل خطر على حلفائها في المنطقة: إسرائيل والكويت والسعودية. ولدى الإدارة الأمريكية قناعة بأنَّ حلفائها في الشرق الأوسط لا يسعهم ردع صدام حسين وحدهم بدون مساعدتها. كلُّ هذا وأكثر جعل من العراق الأولوية الأولى، ومع ذلك ففي مقابلة لكولن باول في 2017 يقول فيها “لا أحسبُ وجودَ شخصٍ يسعه أن يخبركَ لماذا ومتى وما الدافع الفعليّ الذي جعل الرئيس يقرر بأن يصبح العراقُ القضيةَ الأولى فوق الطاولة”.   

دخلتْ إدارة بوش في أواخر عام 2001 حقبةً جديدة من السياسة تجاه العراق باستخدام الدبلوماسية القسرية، أو بمعنى أصح سياسة إرغاميّة وأحيانا ذات شروط تعجيزيّة معروف سلفًا أنَّ صدام سيرفضها لأنها، نظرًا لموقع العراق بين عدوين متمثلين بإيران وإسرائيل، أشبه بانتحارٍ حين تنزعُ عن العراق قوَّته العسكرية وتتركه فريسة سهلة بين عدوين كاسرين يتحيَّنان الفرصة للانقضاض عليه. ولم يقتصرْ الأمر إلى هذا الحد بل لوَّحتْ بعصا الغزو العسكري إذا لم يستجب صدام للشروط، وتمثَّل هدف هذه السياسة الخارجية جديدة في “تغيير الحكم وإزالة إسلحة الدمار الشامل“، لكن الإدارة الأمريكية كانت منقسمة على نفسها ومتخبِّطة في قرارها، فمن جهة كانت تريد الإطاحة بصدام حتى تتأكد عدم حصول الإرهابيين على أسلحة الدمار الشامل، ومن جهة كانت تستخدم ورقة التهديد -الأمر بإدخال مفتشي الأسلحة- ذريعةً لتبرير الغزو العسكري، وهذا ما تلاحم في عقل بوش في عام 2002، وما استطاع سبيلا للخروجِ برؤية واضحة مما يريده على وجه اليقين. تكتب كونداليزا رايس “لم يعتقدْ أيُّ شخصٍ بأن صدام سيتخلى عن السلطة بسلام، وبدت الإطاحة به من المجلس الوطني العراقي بعيدة المنال. كنا في حقيقة الأمر مُلزمين بأحد الخيارين إذا ما أردنا التغيير: إما زيادة الضغط الدولي لجعله يتخلى عن أسلحة الدمار الشامل وإما الإطاحة به باستخدام القوَّة”. أما ديك تشيني فيقول “إنَّ أفضلَ وسيلة لجعل صدام يرضخ لطلبات الأمم المتحدة كانت بإقناعه بأننا قادرون على استخدام القوَّة”. ووصلت الإدارة الأمريكية إلى قناعة استخدام القوَّة معه، وطُرحَ سؤال كيف سنستخدم القوة بطريقتنا، وليس إذا استخدامنا القوة، وليس فيما لو بل كيف ومتى. بدأت بعدها الإدارة الأمريكية بقيادة تشيني البحث عن حلفاء في المنطقة، وشرعت في التواصل مع القادة الكرد والدول العربية: الأردن، ومصر، وعمان، والسعودية، وقطر، والبحرين، والإمارات، والكويت، وإسرائيل، وتركيا، واليمن. يذكر تشيني أنَّ الجميع في المنطقة العربية يدرك حساسية الموقف، وخطر صدام الداهم بأسلحته البيولوجية والكيمياوية، وطموحه النووي.    

*

برزَ البريطانيون بزعامة رئيس الوزراء توني بلير حليفًا قويًا لأمريكا وإدارة بوش في رؤاهما نحو العراق وصدام وخطر أسلحة الدمار الشامل، وإذا ما تمَّ نزع سلاح العراق فيمكنهم حينها القول بأنَّ المنطقة تغيَّرت. واعتنقت الحكومة البريطانيّة بأن العراق بات خطرًا يلوح في الأفق لا بد من التعامل معه. أما توني بلير فيقول “إنَّ هجوم 11 سبتمبر كان علينا، ولا بد أن نقفَ كتفًا لكتف مع الأمريكيين”. ثم أعلن بلير عن أهبته في التعاون مع بوش للإطاحة بصدام. وفي مذكرة أُرسلت من بريطانيا لإدارة بوش يقول مستشار بلير، جوناثان بويل، “حرصنا على إخبار الأمريكيين ألا يستعجلوا، ويؤسسوا تحالفًا، ويسلكوا درب الأمم المتحدة، ويتجنبوا أي هجوم فرديّ”. فأنصت بوش لهذا الرأي، وبدأت الجدولة لاجتماعِ الفريقين. 

لم يحصل الأمريكيون على أيّ دليلٍ جازمٍ بارتباط العراق بهجمات 11 سبتمبر، بل وأقرَّ بوش علنًا بعدم وجود يدٍ لصدام في هذه الهجمات، لكنه بقي مؤمنًا بأنَّ الطاغية العراقي خطرٌ يلوح في الأفق. وما كان هدف السياسة الأمريكية إدخال مفتشي أسلحة الدمار بل في نزع سلاح العراق. وبقيت وكالة الاستخبارات الأمريكية سي آي أي تزوِّد الحكومة بتقارير عن وجود إرهابين من القاعدة وأنصار الإسلام في العراق، وأنَّ محل قيادة الزرقاوي كانت في قرية سرجات، قرب ناحية خورمال. وأقولُ لعلَّ أسخف تقرير كان في زعمهم أنَّ القاعدة منكبَّة على تصنيع أسلحة بيولوجية وكيمياويّة، بل وتبلغ السخافة والتضليل والكذب القمة حين يؤكدون بأنَّ القاعدة تُجري اختبارات على الحمير، والأرانب، والفئران، وحيوانات أخرى. اقتنع بوش بحتميّة مواجهة صدام حسين، وآن أوان الإطاحة به خوفًا من أسلحته المدمرة، ولا بد من نزع أسلحته والإطاحة به وتبديد أي خطر محتمل يقوم به. شرعت الولايات المتحدة في التهيئة لاتخاذ قرار الحرب، لا سيما مع استمرار توافد التقارير المرتبطة بنشاط القاعدة والزرقاوي واختبارات أسلحة بيولوجية وكيمياوية في العراق برضا من صدام، وإنْ كان نشاط القاعدة في مناطق كردية خارجة عن سيطرته. ويحضُّ رامسفيلد على أنَّ هدف السياسة الأمريكية ليس في دعم الديمقراطية في العراق إنما في تأمين مصالح الولايات المتحدة، وردع الإرهاب، وإزالة أسلحة الدمار الشامل، وتثبيط طموح صدام التسلطيّ في المنطقة، والقضاء على الحكم الاستبدادي. وبقيت التقارير تتضارب في الداخل الأمريكي بشأن العلاقة المزعومة بين صدام والقاعدة إذا أشارت وكالة استخبارات الدفاع دي آي أي مجددًا بأن التعاون العراق والقاعدة واهن وضعيف، لكن ما التفت إلى هذه التقارير على الرغم من كمية الأدلة الكبيرة. ويُشار إلى أن الكثير من هذه المعلومات قائمة على التخمينات لا الأدلة الجازمة، من بينها أنابيب الألمنيوم، المذكورة في تقارير سي آي أي ودي آي أي، إذ قيل إنها دليل على نية صدام على إعادة تنشيط برامجه النووية، وتبيَّن أنَّ للعراق مآرب أخرى فيها غير مرتبطة بالبرنامج النووي. ويكتب الجنرال غلن د. شافير “إنّ تقديراتنا معتمدة على الافتراضات التحليليّة والآراء أكثر منها على الأدلة الحقيقيّة”، “بل ربما إنَّ 90% منها قائم على تحليلات استخبارات غير دقيقة”. في حين يقول رامسفيلد “لا ندري على وجه الدقة قَدْرَ ما كنا نجهله”. أما بعض قادة الشرق الأوسط فقد أكَّدوا للإدارة الأمريكية امتلاك العراق أسلحة دمار شامل مثل حسني مبارك الذي أخبر الجنرال فرانك “أقول لك الحقيقة إنَّ صدام يمتلك أسلحة دمار شامل، لقد أعلمني أنَّه سيستخدمها ضدَّكم“.      

*

مرر مجلس الأمن القرار رقم 1411 بانتهاك العراق الشروط المتفق عليها في القرار 687، من دعم جماعات إرهابية، وتحايل على العقوبات المفروضة على العراق، وتصنيع أسلحة محظورة منها صواريخ بمديات تنتهك المديات المسموح بها. كان هذا القرار الفرصة الأخيرة للعراق لنزع سلاحه. نال هذا القرار استحسان بوش الذي أكَّد “على العراق الآن أن يتخلَّى عن سلاحه، بدون تأخير أو مفاوضات، وأن يرحِّب ترحيبًا كاملًا بمفتشي أسلحة الدمار الشامل، ويتغيِّر تغيرًا جذريًا عن مساره الذي اتَّخذه منذ أكثر من عقد. يجبُ على النظام أن يمسحَ بالدخول الفوري وغير المشروط على كل موقع، وكل وثيقة، وكل شخصٍ يطلبه المفتِّشون“. أقول إنَّ هذا الأوامر الإذلاليّة لا يوجد رئيس في دولة يقبلها على نفسه، بغض الطرف عن الرأي في سياساته وجرائمه، لأنها أوامرُ تهدفُ إلى إذلاله، ومكتوب عليها الفشلُ قبل بدءها لا سيما مع رئيس مثل صدام حسين، وحُكمٍ مثل حكم البعث. بدأ بوش بعدها بتسلم تقارير الاستخبارات التي ما انفكَّت تؤكد له اتصالات صدام بالقاعدة وتصنيع الأسلحة المُدمِّرة، والتقى بمجموعة من اللاجئين الذين أكَّدوا له بأن القوات الأمريكية “ستُستقبل بالورود والحلويات“، وتردد طرح اسم أحمد الچلبي مرشحا وافر الحظ لحكم العراق بعد صدام. كما طلبَ بوش من باول أن يكون وسيلته في الأمم المتحدة لتبرير قرار الغزو، وقال له “أحتاج منك إلى أن تُمرر هذه القضية من خلال الأمم المتحدة. إنَّك أكثر شخصٍ يمتلكُ مصداقية في الفريق بأكمله [الأمريكي]، والصراحة إنَّك الوحيد الذي يمتلكُ المصداقية في الفريق كله”. تبيَّن بعد قرار مجلس الأمن الأخير أنَّ صدام لم يتخذ قرار إستراتيجيًا لفتح البلاد والتعاون، لكن لربما كان سيخضعُ للقرار لو امتلكَ مزيدًا من الوقت، كما يكتب ميلفين. دخل مفتشو الأمم المتحدة، برئاسة السويدي هانز بليكس، العراق لكنهم لم يجدوا شيئًا، ومع أنَّ بليكس أكَّد عدم وجود أدلة على الأسلحة فهو في الوقت ذات لم يبدد الشكوك في امتلاك صدام حسين أسلحة الدمار الشامل، وأنَّه لا بد قد أخفاها. وأصرَّ باول بأنَّ صدام قد انتهكَ قرارات الأمم المتحدة ولم يتعاون مع المفتشين، وحافظَ على أسلحته البيولوجية والكيمياوية، وخططَ لإعادة تنشيط البرنامج النووي.    

باول مع عيّنة من أسلحة الدمار الشامل في كلمته في مجلس الأمم المتحدة بتاريخ الخامس من شباط/ فبراير 2003. 

حزمَ بوش أمره واتخذ قرار الحرب على العراق في السابع عشر من شهر آذار/ مارس 2003، وخاطبَ الشعب الأمريكي بأنَّ أوان القرار قد حان اليوم. كانت غايته محددة “على صدام حسين وابنيه مغادرة العراق في غضون 48 ساعة. ورفضهما الانصياع لهذا سيتأتى عنه صِدامٌ عسكريٌّ يبدأ في الزمن الذي نختاره“. لكن هذا القرار لم يكن مدروسا جيدًا من الرئيس ومستشاريه، ولم يحسبوا الحساب تماما لهذه الخطوة المهولة. يقول سيث كاروس، أحد مرؤوسي تشيني وخبير الإرهاب البيولوجي، وزملاؤه المشاركون في إحدى الاجتماعات “لم يكن بيننا في الحجرة مَن يملكُ أدنى معرفة عما سنفعله في اليوم الذي يتلو احتلال بغداد“. في حين أنَّ رامسفيلد أرادها حربًا سريعةً خاطفة وتسليم الحكومة للعراقيين ثم الانسحاب بأقل الخسائر. تمَّ غزو العراق سريعًا بدون مقاومة تُذكرَ ودخلت القوات الأمريكية بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل 2003، لتُشرعَ حقبةٌ جديدةً أبوابَها ابتدأت بالنهب والسلب، أو ما يُعرف في العراق “الفرهود”، لدوائر الدولة ووزاراتها من جماعات شتى من العراقيين، الأمر الذي صدم الإدارة الأمريكية وجعل بوش يقول “ما الذي يجري هناك؟ لمَ لا يوقف أحدٌ هؤلاء الناهبين؟”. ليواجه الأمريكيون أول مطبٍّ لم يفكروا به، وهو سلبُ العراقيين وتدميرهم لبلادهم، ثم تأزَّمَ الوضعُ أكثرَ بعدم قدرة غارنِر على إدارة العراق فاستُبدلَ ببول بريمر ليكون رئيس سلطة الائتلاف في الثاني عشر من شهر أيار/ مايو 2003 بصلاحيات مطلقة وشاملة. وطلبَ منه بوش قائلا “ساعد العراقيين في السيطرة على البلاد مجددًا، ساعدهم في المضي قدمًا نحو حكومة أفضل، ساعدهم في النهضة باقتصادهم، وتأمين الأمن”. اتَّخذَ بريمر أول قرارين، تمثَّل الأول بحلِّ حزب البعث، ومنع أصحاب المراتب الأربع العليا في الحزب من شغل أي منصب قيادي في الحكومة، وطردَ أعضاء حزب البعث من أعلى ثلاث مناصب في كل هيئة حكومية، أو مشاريع حكومية، أو جامعات، أو مستشفيات. وكان قرار حل حزب البعث كفيلا بتقويض أي جهود لاسترداد الأمن، والخدمات، وإعادة تشييد البنى التحتيّة، وأقصى بعض السنة الذين رأوا أنفسهم عاطلين ومسربلين بالخزي. أما القرار الثاني، فكان حل الجيش العراقي الذي اتَّخذه بريمر بقناعة. وكان غلطةً محضة، حرمَ سلطة الائتلاف المؤقتة من خدمات العناصر المُدرَّبة وطردَ الضبَّاط السابقين حارمًا إياهم من معاشاتهم ورواتبهم التقاعدية. وكان لهذين القرارين تبعاتهما الكارثية على العراق. 

اكتشفَ بوش وإدارته بعد السيطرة على العراق وإسقاط حكومة صدام أنَّه لا يوجد أي أسلحة دمار شاملٍ في العراق، ولم يعثروا على أي شيء، لا مخازن أسلحة كيمياوية أو بيولوجية، ولا أي دليل على مواد انشطارية، ولا أي أمارة على برامج شغَّالة لأسلحة الدمار الشامل، لقد كان كلُّ شيء محض خدعة كبيرة وكذبة مجرَّدة. يُحدد ميلفين الأسباب التي قادت بوش لاتخاذ قرار الحرب وهي الخوف، إذ خاف بوش من هجوم آخر يكون أكثر فداحة من هجمات 11 سبتمبر. والثاني القوَّة، أراد بوش أن يستشعر القوة الأمريكية ويحقق بالقوة ما أراد تحقيقه، متحفِّزًا لاستخدام سلاح الجو، والقوات الخاصة، وعززت التقنيات الجديدة، التي أطاحت بطالبان من حكومة كابل، إحساسه بالقوَّة. أسكر الخوف والقوة بوش وعزَّزهما السبب الأخير وهو الغطرسة. فقد آمن بوش بأن النظام الرأسماليّ الديمقراطي في أمريكا أثبتَ تفوقه في حربه النازية والشيوعيّة. وذهبَ إلى الحرب مدفوعًا برغبة نزع سلاح العراق، لأنه وإدارته اعتقدوا تمام الاعتقاد بأنَّ صدام لا يُردعَ إلا بالقوة، وليس وراء غزو العراق سبب خيالي في جعله بلدًا ديمقراطيًا. كلَّف هذا القرار العراقَ مقتل نحو ربع مليون مواطن، وتهجير أو هروب نحو تسعة مليون مواطن -أكثر من ثلث سكان العراق قبل 2003-. يختم ميلفين كتابه قائلا “لم تحدث المأساة لأننا نملكُ قادةً أشرارًا، أو أغبياء، أو فاسدين، لكن وقعت المأساة حين يسعى الشعب جديًا والمسؤولون لفعل الصواب وينتهون بإفساد الأمور برمتها. علينا أن نفكِّر بالأمر ونفهم أسبابه. لا بد أن نتأمل مليًا ما الذي قد يحدث حين يجتمع الخوف المُفرط، والقوة المفرطة، والغطرسة المفرطة، مع الافتقار للحكمة اللازمة”.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى