ما بين الأوديسة والرامايانا
تتشابه ملحمة الرامايانا والأوديسة في نقاط وتختلف في أخرى. فأما نقاط الاختلاف فهي واضحة في عموم أحداث الملحمة وأحداثها لا سيما في موضوع الإقصاء والنفي الذي يقع على راما وزوجته، والصراع ما بين راما والشياطين في الغابة، وهي ثيمة مختلفة ظاهريًا عن ثيمة الأوديسة ورحلة العودة إلى إيثاكا التي يخوضها أوديسيوس مدة عشر سنوات في البحر حتى يصل في الأخير إلى إيثاكا ويجتمع مع ابنه وزوجته بعد أن يُوقع المذبحة بحق من تحرش بزوجته وطلب يدها للزواج وتآمر على قتل ابنه واستنزف خيراته بعد أن استقرَّ الخطَّاب في منزله.
أما نقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين فهي قريبة إلى التشابه ما بين ملحمتي المهابهارتا والإلياذة، فمن بين هذه التشابهات:
القوس
حين يشبُّ راما يذهب رفقة أخيه وراهب إلى الملك جاناك والد سيتا الذي أقسم ألا تتزوج ابنته إلا من يستطيع حمل قوس الإله شيفا الثقيل وربط وتره، لكنه ليس بقوس عادي لذا فيعجز الملوك والأمراء عن جرِّ وتره، إلا إن راما استطاع في النهاية أن يحمل الوتر ويتكسر القوس بين يديه ويتزوج الأميرة سيتا. تلتقي الرامايانا مع الأوديسة في المسابقة التي أقامتها زوجة أوديسيوس بينيلوبي بعد أن أحضرت قوس زوجها الغائب أوديسيوس والحاضر متخفيًا وسط الخطَّاب وطلبت منهم أن يحاولوا جرَّ وتر القوس واطلاق سهم يمر من حلقات اثتني عشرة فأسًا مثبتةً بالأرض، ومن يستطيع فعلها يُصبح زوجها. وبعد أن يعجز الخطاب عن جر وتر القوس، يأتي أوديسيوس المتخفي ويجرَّه ويتركب المذبحة في ساحة بيته أو ما تُعرف بمذبحة الخطَّاب. لا يمكن الإقرار بحقيقة هذا التشابه وهل هو تشابه صُدَفي أو محاكاة مؤلف عليم، لكن ما يمكن التثبت منه هو التشابه الوارد ما بين ملحمة أوديسيوس الإغريقي وراما الهندي.
النفي
تتشابه الرامايانا مع الأوديسة في موضوعة النفي. لكن ما يفرق بينهما أنَّ النفي في الرامايانا واضح بقرار راما الاستجابة لطلب والده الملك، أي أنه نفي إرادي يدوم أربعة عشر عاما. في حين النفي الأوديسة هو نفي إجباري، عبر تأخير عودة أوديسيوس إلى وطنه “إيثاكا” وتيهانه في البحر وحبسه في الجزر مدة عشر سنوات بله عشر سنوات قضاها أوديسيوس في حرب طروادة. أما ما جرى خلال سنوات النفي وواجهه البطلان في منفاهما فهو قائم على أدب المغامرات والصِراع من أجل النجاة. فالغابة في الرامايانا هي البحر في الأوديسة، والمخلوقات التي يواجهها أوديسيوس في رحلة العودة، تحل محلَّها الشياطين التي سكنت الغابة وعادت راما وزوجته وأخاه.
إنَّ النفي في الرامايانا يأخذ منحى متعدد الجهات، فراما يعيش في الغابة بكامل حريته وإرادته لذا فهو مطبوع على الاستكشاف والمغامرة وقتال ما يهدد حياته، لذا فليس ثمة وجهة محددة يقصدها راما سوى الانتظار حتى انتهاء مدة نفيه والعودة إلى آيدوها. أما النفي في الأوديسة أو التيهان في البحر له وجهة واحدة هي إيثاكا، وضياعه بين الجزر وصراع ضد مخلوقات البحر وسوء تدبير الآلهة هو مفروض عليه، فما من شاطئ أرض يطأها أوديسيوس كان قد نوى سلفًا عليها، على العكس تماما فكل أرض هي وجهة تجلبه إليها الصدفة المحضة أو التقدير السائد لتيارات البحر وافتراضات أقدار الآلهة. لذا فإن عودة أوديسيوس هي عودة الملك الضائع، أما عودة راما هو عودة الملك المُنتظر المنفي. فأوديسيوس يخرج ملكًا ويعود ملكا لكنها عودة محفوفة بالمخاطر فعودته ليست كل شيء لأن ثمة مهمة أخرى عليه أن يُتمَّها مع الخطَّاب، في حين راما يخرج وليَّ عهد ويعود إلى عرش الملك الذي ينتظره برغبة الجميع، فهي عودة متوَّجة بأكاليل الفرح والتتويج.
سيتا وبينيلوبي (الوفاء والامتثال للزوج)
تخرج سيتا مع زوجها راما في نفيه الطوعي في الغابة وتبقى معه تعاني وتتعرض للمخاطر لا سيما تلك المتمثلة في خطفها من قبل رافانا ملك لانكا، فترفض عرض رافانا بالزواج منها، ثم وبعد أن تنفى بأمر من راما في الغابة، فهي تتحمل هذا النفي الجديد، لتعيشَ حياة شظف وقسوة في الغابة وهي التي كانت أميرة ثم زوجة ملك. تبدو سيتا امرأة معدومة الإرادة، والهُوية، والشخصيَّة، فهي ظل زوجها وأوامره ومصيره وحياته. فما الذي يميز سيتا عدا الوفاء لزوجها والامتثال له بطاعة كاملة؟ لا شيءَ مميزٌ فيها بتاتا سوى ذلك. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التصوير لدور المرأة الهندية قد ظهر سابقًا مع المهابهارتا في شخصية دروبدي، وعادات أخرى مثل خطف المرأة لإجبارها على الزواج- الفعل الذي يبدو بطوليًا ولا رأي للمرأة في الرفض والقبول عموما وإن كان ثمة استثناءات كما في حادثة أمبا وبهيشما لكنها ليست قاعدة أو متكررة بشكل ملاحظ. تخضع دروبدي لمصير أزواجها ولربما أسوأ ما تعرضت له حين لعب زوجها يوديشترا النرد وخسر مملكته وكان قد خسر معها زوجته وأخوته حين وضعهم في رهان اللعب. فالزوجة هنا هي مملوكة للزوج ولا دور لها إلا دور الخضوع المطلق والتام، دور التابع الذي ينفذ طلبات المتبوع، كما حدث في نفي سيتا، أو حتى تلك القصة التي ترد على مسامع راما عن الرجل الذي أبعد زوجته عن سكنه لأنها اختلت برجل غرر بها.
في الضفة الأخرى لدى الإغريق، فإن دور المرأة لا يقل عن دور الرجل كثيرًا، وبدا دور الأنثى في ملحمة الأوديسة شاخصًا ومؤثرًا في كل كتب الأوديسة الأربعة والعشرين، سواء أكن إلهات أو نساءً أو ساحراتٍ أو حتى وحوشًا ومخلوقات غريبة. وفي مقدمة شخصيات الأوديسة الأنثوية هي بينيلوبي زوجة أوديسيوس التي انتظرت زوجها مدة عشرين عامًا. هذا الانتظار الذي واجهت في سنواته الأخيرة الخطَّاب الذين سكنوا منزلها وزوجها ورغبوا بالزواج منها رغمًا عنها، إلا أنَّ ما يفرق هنا أنهم جميعًا كان يضايقونها لكنهم لم يستطيعوا إجبارها أو غصبها أو حتى خطفها -كعادات الهنود- لإجبارها على الزواج. فهي تبقى رغم كل ذلك سيدة البيت وإيثاكا الأولى حتى عودة زوجته المظفَّرة.
تيليماكوس وابنا راما (لافا وكوش)
ينشأ كلا من ابن أوديسيوس وابني راما بعيدين عن والديهما، ولا يعرفانهما حتى البلوغ. وما يفرق عن الحالين، أن تيليماكوس كان في رحلة بحث دائمة عن أبيه، وسعي دؤوب ليعرف من هو أبيه، فهو لا يريد العيش على أمجاد أبيه فقط، بل يريد أن يعرف من هو كذلك، أن يخلق هُويته الخاصة به التي لا مسعى في الوصول إليها سوى مسعى معرفة مصير والده أوديسيوس. أما لافا وكوش فهما ينشآن بعيدًا عن والدهما راما، وعن معرفة من أبوهما الحقيقي، لذا فنشأتهما في الغابة مع أمهما والراهب، نشأة بلا أب، وبلا السؤال عن الأب. فمن أباهما، سؤال لم يبدُ أنه يشغل حيزًا كبيرًا في دواخلهما، وليس له أدنى تأثير في خلق هُويتيهما، فيترعرعان وحيدين، ويتعلمان استخدام مختلف الأسلحة وفنون القتال، حتى تقع الحادثة التي يعرفان بها والدهما.
ختامًا، إنَّ البناء النفسي والهوياتي للشخصيات في الأوديسة أنضج وأعمق وأتقن من شخصيات الرامايانا، وقد يعود السبب في هذا -باحتمال كبير- إلى كون النسخة مختصرة بإيجاز، رغم محاولتي أن أبني صورة دقيقة بقدر الإمكان عن الرامايانا مما يساعدني على تفادي الخطأ والنقص في القراءة والشطط في الرؤية المُدركة والنافذة للعمل قدر الإمكان.
ولي عودة بإذن الله إلى ملحمة الرامايانا بعد أن أحصل على ترجمة جديدة غير مختصرة.