القسم الأول
أنهى ويليك بكتابه الرابع عن تاريخ النقد الأدبي الحديث (مع تحفظي على هذا الاسم كما ذكرت في مراجعات الكتب الثلاثة الأولى) دراسة أعلام النقد الأدبي الحديث الذي ابتدأه منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر والحركة الكلاسيكية الجديدة إلى نهاية القرن التاسع عشر مع رسوخ بعض المذاهب الأدبية الحديثة كالطبيعية والواقعية والانطباعية. هذا الكتاب الذي كان مقررا أن يكون الكتاب الأخير لويليك حول تأريخ النقد الأدبي الحديث إلا أنه وسّع دراسته لاحقًا لتشمل النصف الأول من القرن العشرين موزّعة في أربعة كتب أخرى ومقسّمة إلى النقد الإنجليزي، والأمريكي، في الكتابين الخامس والسادس على حدة، والنقد الألماني والروسي وأوربا الشرقية في كتابه السابع، والفرنسي والإيطالي والإسباني في الكتاب الأخير. نُشر الجزءان الخامس والسادس، ولم ينشر بعد الجزءان الأخيران بالعربية. وبالعودة إلى الكتاب الرابع الختامي لحقبة أدبية مهمة استمرت لقرن ونصف تحددت فيها الكثير من الملامح الأدبية والنقدية سواء في الشعر أو المسرح أو الرواية، والتي ابتدأت بشكل حركات بارزة لها أعلامها كما في الكلاسيكية الجديدة والرومانسية وانتهت ببروز نقّاد أكثر من بروز حركات أدبية شاملة، وكذلك في صعود حركات أدبية بفضل كتّاب معينين كما الحال مع بلزاك وفلوبير والنزعة الواقعية، وزولا والنزعة الطبيعية، وإمرسون النزعة الصورية الكلية، وكذلك بفضل نقّاد معينين كما الحال مع سانت-بوف في فرنسا، وهيبوليت تين في إنجلترا، ودي سنجتنيس في إيطاليا، وبلينسكي في روسيا، والروائي والناقد هنري جيمس كأبرز نقّاد الرواية في أمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
يكمل الكتاب الرابع ما ابتدأه في الكتاب الثالث في دراسة الحركة الأدبية التي رافقت وتلت الحركة الرومانسية في الآداب الأوروبية والأمريكية، في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وأمريكا. ما يميز هذا الكتاب هو تسليط الضوء بشكل أكبر على الرواية التي لم تنل حتى هذا الكتاب الاهتمام الكافي إذ يكاد النقد ينحصر على الشعر والمسرح والنقد الأدبي وترسيم ملامح النقد والآراء النقدية العامة والمذاهب النقدية وأعلامها، ومفاهيم النقد وعلاقتها بعلم الجمال في الكتب السابقة، لذا فقد ابتدأ الكتاب بتناول أعلام الرواية الفرنسية في القرن التاسع عشر من فلوبير وبلزاك والنزعة الواقعية لديهم، وغي دي موباسان، وإميل زولا صاحب النزعة الطبيعية، لكن هذا التناول لهم كونهم نقّادا أو أصحاب رؤى وتعليقات نقدية أكثر من تناولهم روائيين وعرض رواياتهم نقديا، في حين ينتهي الكتاب بدراسة مفصلة ومهمة للروائي والناقد الأمريكي هنري جيمس أحد المؤسسين للرواية الحديثة التي ذاع صيتها في بواكير القرن العشرين وبلغت في هذا القرن أوجها حتى العقد القرمزي الذي أصاب أوروبا وأشاع بعدها ثورة جديدة في عالم الأدب عموما والرواية خصوصا. كان هذا الكتاب أكثر الكتب أكاديمية من بين الكتب الأربعة الأولى، ولا يسعني الوصاية بقرائته كاملا بسوى اختيار من درسهم من النقّاد بشكل فردي للقراءة الانتقائية، فالكتاب سيبقى مرجعا أكاديميا مهما للدارس للنقد والتاريخ الأدبي ولن ينفع القارئ غير المتخصص كثيرا إلا في بعض الفصول كالأول والأخير المتعلق بالرواية.
وأحب أن أشير إلى نقاط تخص هذه الكتب الأربعة (باستثناء القسم الثاني من الكتاب الرابع لأني لم أحصل عليه) التي عرضت تاريخ النقد الأدبي في مدة تتراوح ما بين 1750 – 1900:
– تتناول الكتب النقاد الأفراد أكثر مما تتناول حركات نقدية بالدرس والفحص ثم التعريج على أبرز أعلامها، الأمر الذي دفعني إلى عدم قبول العنوان الذي تمحور حول أعلام النقد الأوروبي الحديث لا النقد الأوروبي، وهنا لا بد من التفريق ما بين أفكار الأفراد وفكر الحركات، إذ الأولى تحمل مناهج فردية خاصة وغير محددة بسياقات معينة عكس الثانية التي تبرز فيها سياقات خاصة من خلال تناول الخطوط العامة للحركات النقدية الموزعة في مدد زمنية متباينة أو متداخلة وهذه وظيفة الكاتب في عرض مادته بشكل يؤرخ الحركة النقدية الأدبية.
– ركّزت الكتب بشكل بارز على الشعر والنقد (فهم ماهية النقد في ذاته) والمسرحية والملاحم الشعرية الكلاسيكية والحركات الأدبية التي ضمتهم، ولم تنل الرواية حظا وافرا من الدراسة بما يجعل ملاحظة استفهام حول هذا الموضوع دون أن ننسى أن الرواية لمّا تأخذ استحقاقها بعد حينئذ رغم بداياتها التي تعود إلى منتصف القرن السابع عشر في إسبانيا مع رواية دون كيخوته لسرفانتس، وكذلك صعودها بشكل لافت في القرن التاسع عشر في فرنسا وإنجلترا وألمانيا.
– غيابٌ كامل للنقد الإسباني، ولم يظهر النقد الروسي إلا عصر التحول في القرن التاسع عشر عبر تناوله لبلينسكي، الأمر الذي يمكن تقبله نظرا لازدهار الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وبالكاد يمكننا تحديد سمات للأدب الروسي قبل هذا القرن بل وقبل الشاعر بوشكين الذي به ابتدأ الأدب الروسي فعلا، في حين كانت المراحل التي سبقته هي مراحلة طفولية ليس لها ثقل يذكر إذا ما قُوبلت مع فرنسا وألمانيا وإنجلترا الدول الثلاث التي مثّلت محور وعماد الكتب مع دور ثانوي للنقد الإيطالي الذي له حمولته الثقيلة لا سيما في عصر النهضة منذ انطلاقته في القرن الثالث عشر وأعلامه الإيطاليين أبناء فلورنسا كدانتي وبوكاشيو. وهو ذات الأمر الذي حباني بالقول أن هذا التاريخ للنقد هو تاريخ النقد الأوروبي بل ويمكن حصره في دول فرنسا – ألمانيا – إنجلترا – إيطاليا ولا سيما الثلاث الأُول التي كانت مركز العالم الجديد المتطور في الألفية الثانية.
– الكتب الأربعة لا تكتمل فائدتها دون الاطلاع السابق لمؤلفات من تناولهم ويليك في دراسته وتعليقاته وشروحه وتقديمه لهم، المسألة التي تدعو القارئ لإكبار وإجلال هذه القابلية الفذة والعقلية الموسوعية التي استطاعت إنجاز هكذا مشروع عظيم وضخم جدًا.
– ما الذي يمكن أن يخرج به القارئ غير المتخصص من قراءة كتب كهذه؟ أما أنا فأقرأ النقد الأدبي لتوسيع مداركي النقدية والوقوف على أكبر عدد ممكن الرؤى النقدية وفهم المذاهب الأدبية مما يساعدني على تشكيل وبناء رؤية نقدية خاصة لن تكتمل دون البدء من بواكير النقاد والأعمال النقدية، وقراءة المناهج الفكرية والأدبية والأسلوبية المتبعة في النقد وصولا إلى يومنا المعاصر.
هل سيخرج غير المهتم بالنقد من هذه الكتب؟ مبدئيا لا أعتقد أن غير المهتم بالنقد سيمد يديه إلى هذه الكتب، لذلك فهو سلفا لن يقرأها، أما إن كان يحب الاطلاع من باب الفضول، فلا أظنه سيملك النَفَس الطويل والمطاولة لقراءة الكثير من الصفحات التي لا يخرج من فائدة ملموسة أكثر من قراءته آراء عن أعمال في المقام الأول هي قديمة جدا لا تُقرأ اليوم، والثاني أنها آراء ذات طبيعة مدرسية وكلاسيكية جدا مما يتنافى مع عقلية القارئ المعاصر، والثالث أنها قراءة فكرية جافة وأكاديمية من الوارد جدا أن زمنها قد ولّى ولم يتبقَ لها دور في عالم الأدب اليوم.