الحالة الحرجة للمدعو ك – عزيز محمد

هذه الرواية بموضوعها الإنساني والعلاقة الناشئة ما بين العليل وعلّته، وبين كل من حوله من أُناس وآخرين يُشاركونه المرض والحياة ومشاكلها وطبيعتها وكل شيء فيها من أحزان ومسرات، وعن الصحة والمرض، ومعنى هذا الكائن الحي في ظل قدر لم يكن ينتظره، يدفعنا للسؤال ما الذي يمنعنا أن نكون بدلا من المدعو ك؟ هذا السؤال لا يقتصر على هذه الرواية دون غيرها، فكثير من الروايات أثارت في نفوس القُرّاء أسئلة مشابهة عن قيمة حياتنا التي نعيشها، متغافلين أو جاهلين عن حياة آخرين يُشاركونا المكان والزمان، وربما نمر بهم ونراهم كل يوم لكننا لا نُلقي بالا لهم. لا يثيرون فينا التساؤل على الرغم من أنهم مثالٌ حيّ أمامنا عن ماهية الحياة وكيف تضحى عبئا ثقيلا على أكتاف أصحابها، غير أننا غافلون وساهون نبحث عن إكمال يومنا دون تبّصر، فتأتي هذه الرواية لتُسلط الضوء على بقعة مظلمة في دواخلنا وتُحفزّنا من جديد أن ننظر تحت أقدامنا، أن نبحث عن النعمة التي نحن فيها، والخير الذي نتقلب به. أن ينقلك الكاتب بعمله إلى عالم جديد تعيشه بتفاصيله اليومية الدقيقة، ويتركك في حضرة من يُعانون، أولئك المغيبون عن الأضواء والذين يموتون بصمت، دون أي همسة، الراحلون باستمرار يأخذهم قطار الموت إلى محطة لا شك أننا سنصلها جميعا في آخر المطاف؛ لهو كاتب يستحق كل الثناء والتقدير. هذه الرواية الأولى لكاتبها عزيز محمد لكنها تشي بالكثير عن كاتب لامع، سيتمنى أي محب للأدب أن يقرأ له مجددا على أمل أن يبهره.
القسم الأول من الرواية حتى اكتشاف ك لمرضه، يُسلط الضوء على مشكلة ربما نستطيع أن نصفها بالعالمية، الروتين اليومي في العمل، والملل الذي يدفع الكثيرين أن يصلوا إلى الهاوية بما يسببه العمل من ضغوط نفسية وجسدية وسرقة للوقت، حتى يبدو الموظف أنه يعيش في فضاء واسع ألا أنه محبوس في مكان وواجب معين لا يستطيع أن يغيره، ولا يقدر أن يفعل شيئا تجاهه، يستمر ك في العمل بالشركة لكنه يصنع عالمه الخاص في وعيه ويرسم صورا عن الموظفين زملاء العمل، فهو في عالم خاص لا ينتمي إلى الواقع المحيط به. يقود كل هذا إلى رسم خط فاصل بين عالمين، عالم الحقيقة وعالم ك. هذا السخط إزاء هذه الطبيعة المحيطة به، ولا يجد من فكيّ كماشتيّها مهربا، هي الفخ التي وقع فيه وسيقع فيه الكثيرون من الموظفين، في دورة سيزيفية لا تنتهي، تكرر بواقعية وحشية، تُطاردك بقسوة في عالم لا يقل عن غابة لا نجاة فيها إلا للأقوى. هذه هي الصورة التي يرى بها ك حياته في عمله. يستمر بطل الرواية في معاناته اليومية في العمل، وصناعة أبعاد لا يراها سواه تجذبه إليها حتى تأتي تلك اللحظة المفصلية والمنعطف في حياته ومسار الرواية كلها، ليكتشف إصابته بالمرض. وتبدأ مرحلة مختلفة عن سابقاتها تأخذ الحيز الأكبر من الرواية بجانبها الإنساني أو على مستوى الحدث، الذي يأخذ مسارا تصاعديا مع تفاقم المرض وجلسات العلاج الكيمياوي، وذاك التغير الذي يطرأ على مستوى العلاقة بين البطل ومحيطه، وهو ليس تغييرا بمعنى تغيير الطباع أكثر من كونه أصبح أكثر وضوحا في الكشف عن طبيعته الفضّة والسمجة بعض الشيء وعدم الاختباء أو مراعاة أي شيء، وهي حالة طبيعية يبلغها المريض الذي يعاني عادة. أما علاقته مع العمل فهي تبقى بطبيعتها الاستغلالية والبيروقراطية الصارمة، لكنه يقلب الدور ويمارس دور الجلاد بعد أن كان الضحية، فمع التعاطف والتسهيلات التي تقدمها إليه الشركة لكن موقفه تجاهها يبقى نفسه. الجانب التعاطفي للقارئ مع البطل هو الآخر يأخذ منحى متناميا، حين ينقله الكاتب إلى بدايات المرض ثم دورات العلاج وتأثيراتها، وكيف تظلم الحياة في عيني البطل الذي يعمل دائما على تدوين يومياته متى سنحت له الفرصة، حتى نصل إلى نهاية المطاف مع الرواية.
أسلوب سرد الرواية المباشر منضبط ومنساب دون تعقيدات بلغة متماسكة رصينة، يعتمد الكاتب على تقنية الحدث الاسترجاعي من حياة البطل، فيتنقل بين زمانين في مكان واحد، ومحاولة ربط الحدث الجاري مع حدث ماضٍ من خلال سرد قصة ماضية، وكذلك رسم صورة الشخصيات ما بين صفات حالية وصفات سابقة في الماضي الذي عاشه البطل وتعايش مع من حوله. يحاول الكاتب في الرواية من خلال شخصياته أن يُدرج مواضيع ينقد من خلالها رواياتٍ وروائيين على غرار ما فعله سربانتيس في رواية دون كيخوته وآخرون، لكن لا يفيض في النقد أو عرض وجهات النظر ويعطي حكما نهائيا كما في رأيه عن موراكامي ورواية كافكا على الشاطئ. ولا يتردد في مدح رواية الشيخ والبحر والإشادة بها، ويرافقه توماس مان برواية الجبل السحري طوال مرضه، ولا يخفي البطل حبه لقصائد الهايكو وطبيعتها القصيرة والجاذبة للقراءة.
تبقى نقطة النقاش الوحيدة والتي يمكن أن أصنفها نقطة ضعف في هذه الرواية هو تأثر الكاتب بوضوح بكافكا ورواياته وجوّه وكآبته، لكن من منا لم يتأثر بكافكا وما خلّفه للآداب من أعمال خالدة، وتلك السوداوية التي يبعثها بنظرته للحياة، لكن الكاتب بدا منساقا خلف كافكا حتى يكاد يفقد فيها جوهره، ويحاول أن يقلد كافكا بأي حال ممكنة مما يدفع القارئ ليقول أينك أنت؟ ولمَ تحاول أن تُذيب نفسك وقصتك في قالب استُخدم من قبل وأي محاولة تكرار ستكون مهما عظمت دون النسخة الأصلية ابتداء من عنوان الرواية (الحالة الحرجة للمدعو ك) وهو اقتباس واضح من شخصية جوزيف ك بطل رواية القضية لكافكا. وعلى الرغم من إن البطل يبقى مجهول الاسم لكن الكاتب يسرد على لسانه قصة ثانوية قصيرة لشخص يدعوه بـ ك، يجد نفسه وسط اجتماع ممل، والبطل حين يحاول سرد هذه القصة في خياله وتركيبها، تبدو مشابهة له، فالكاتب هنا يعني إشارة أن من الممكن أن نطلق على بطلنا المريض ك، وما يؤكد هذه الإشارة هو العنوان. ويلتقي في القسم الأول وكافكا في نقد النظام البيروقراطي وحياة العمل الوظيفي المملة والمكررة، وإذا كان أبطال كافكا يعيشون في عالم التدوين الورقي والالتزام بالأوامر فإن حياة ك كانت في عالم التدوين الإلكتروني ومحاولة المديرين الصعود على أكتاف الموظفين في السلم الوظيفي، أو محاولة تحفيزهم ليكونوا أفضل ويرتقوا في الخدمة، وإن دل التشابه على شيء فهو يدل على استمرار المعاناة نفسها، وأن نظام الشركات ذاته. هو نظام بيروقاطي صارم يجد البطل نفسه أسيرا له. الأمر الآخر الذي يحاول فيه الكاتب مشابهة كافكا وجوّه هو السوداوية والانطواء والانعزال عن العالم الخارجي والنظرة السلبية للحياة التي كانت حتى قبل إصابته بالمرض، فهو يبدو غريبا عن هذا العالم، وكل شيء حوله غارق في الفردانية وحب الذات والاهتمام بالنفس دون مراعاة الآخر، ثم تفاقم وطغى مع حياة العمل ثم الإصابة بالمرض.
في الأخير هذه الرواية في موضوعها وأسلوبها وقصتها والحالات الاجتماعية التي عرضتها سواء على مستوى العمل، أو الحياة الأسرية وحياة المرضى والمرض، في المجمل كانت عملا أدبيا جيدا، ولربما لو حاول الكاتب أن يخرج بأسلوبه دون محاولة إعادة ما استهلك سابقا لكان العمل أقوى، لكن التأثير أحيانا حتمي يأتي دون إرادة سابقة، ويجد الكاتب نفسه دون وعي أو إدراك أو تماشيا مع حالة مغيبّة بذهنه في أثناء الكتابة؛ يضع شخصياته في عالم مهما يبدُ له جديدا ويتلائم والحالة المناسبة ظرفهم يبقَ في دائرة ولجها آخرون قبله دون القدرة على التراجع إلى الخلف، فقد يهدم كل ما أتى به.