الأنفس الميتة – نيكولاي غوغول
غوغول روائي من طينة الكبار، وأحد أعلام الرواية الروسية في العصر الذهبي- القرن التاسع عشر-، امتاز أدبه بالواقعية والسخرية، والكوميديا الغريبة، وتمثلت في أدب اللا معقول في القرن العشرين (الفانتازيا). اشتهر الروائي المولود عام ١٨٠٩، بعدة أعمال منها مسرحية “المفتش العام” و”قصة المعطف” التي ورد أن أحد الأدباء قال: “كلنا خرجنا من معطف غوغول”، ورواية “الأنفس الميتة” ما يُسميها غوغول بالقصيدة معللا قوله بـرسالة إلى الكاتب والمؤرخ ميخايل بوغودين: “العمل الذي أنكبُّ عليه الآن وأكدح… لا يُشبه رواية قصيرة، ولا رواية… إنه طويل، طويل، ستكون أول عمل إبداعي معتبر لي. روسيا كلها منعكسة فيه”. صدرت الرواية في عام ١٨٤٢ بعد مخاضٍ عسير إذ أُريدَ منعها لما فيها من نقد لاذع للمجتمع الروسي، وروسيا، حتى قال بوشكين بعد أن قرأ الفصول الأولى منها في رسائل يُشير إليها غوغول: “يا إلهي كم هي موحشة بلادنا روسيا” وكان لغوغول علاقة قوية مع شاعر روسيا الأكبر بوشكين، وهو من اقترح عليه بعضًا من أعماله كالمفتش العام والأنفس الميتة، كما كان يقرأ الفصول التي يكتبها غوغول في قصيدته الروائية هذه. كتب الناقد الروسي الشهير بيلينسكي: “دلونا، أين تلك الروح التاريخية العالمية في أعمال غوغول، أين ذلك المحتوى المشترك بقدر واحد بالنسبة لجميع الشعوب والقرون؟ دلونا ماذا سيحصل لأي عمل من أعمال غوغول إذا ما تُرجم إلى اللغة الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية”. أثَّر هذا النقد كثيرًا في نفس غوغول، واتهام بيلينسكي له بالابتعاد عن الوسط الروسي إذ كتب الرواية متنقلا ما بين سويسرا وباريس، فعاد إلى روسيا لمراقبة الوسط الاجتماعي ومحاولة فهمه وسبر غوره أكثر، لكن أزمة غوغول النفسية كانت كبيرة، وبحثه عن إنهاء قصيدته لم يكن باليسير فحرق مخطوطة الجزء الثاني ويقول عن أسباب الحرق: “ثمة ساعات لا يمكن أن تحث المجتمع أو وحتى جيلا كاملا إلى الرائع الجميل، إلا إذا أظهرت كل عمق وضاعته الراهنة. ثمة ساعات لا ينبغي فيها حتى التحدث عن الرفيع والرائع دون أن تشير بوضوح، كوضوح النهار، إلى السبل والطرق التي يسلكها كل إنسان إليه. وكانت هذه الناحية الأخيرة قليلة وضعيفة التطور في المجلد الثاني من “الأنفس الميتة”. في حين كان يجب أن تكون الرئيسة أو تكاد ولهذا أحرقته”.
ما أستشفيه من اعتراف غوغول هذا أنه اُستُنزف فكريا في المجلد الأول، فكان أجمل ما توصل إليه قد كتبه في شراء تشيتشيكوف للأنفس الميتة، فهو يرسم الطريق الذي سلكه تشيتشيكوف، مُبديا عمق الوضاعة، ومُشرفا بنفسه على السبل التي سلكها بطله الذي سيحجز فيه لا محالة مقعده في المجتمع الراقي، حتى وإن كان اكتفاء غوغول بجزئه هذا فقد أدّى مهمته على أتم وجه وكمال، وأوصل ما أراد إيصاله، الأمر الذي لم يتناوله الروائيون الروس في عصره، بتسليط الضوء على الطرق التي يصعد من خلال الناس في سلم المجتمع وليحجزوا مقاعدهم في أروقة المجتمع الراقي. استمرت معاناة غوغول، فهو لم يصل إلى درجة القناعة في كتابة الجزء الثاني من قصيدته، ليحرق الصيغة النهائية للمجلد الثاني، وليفارق الحياة بعد أسبوعين، تاركًا خلفه قصيدة يرى أنها يجب أن تكتمل وأرى أنها كانت مكتملة ولا تحتاج إلى تتمة.
امتازت رواية الأنفس الميتة، بأسلوب غوغول الذي يرسم فيه المكان ويُسهب في التدقيق فيه، حتى تكون أوصافه للمكان كاملة الجوانب، فكأنه ينتقل من مقام الروائي إلى مقام الرسام. فلوحاته الوصفية، لا تقل عن أبيات قصيدته الإنسانية والفلسفية. يُقدم شخصياته، ذاكرا أوصافها ومميزاتها، فيُعطي للقارئ الانطباع الكامل والمعرفة التامة بالشخصية فيخلق منها نماذج طبيعية مألوفة، بكل صفاتها الجيدة والسيئة، داخل البيئة التي ينشأون فيها، ما بين الجد واللعب، وأوقات الطعام والحفلات، فكل شخصية لها كامل السطور التي تُبيّن ماهيتها النفسية والاجتماعية والعلاقات التي تنشأ بين شخصياته، تكون قائمة على ما وصف، فلا تخرج صفة عن القالب النفسي التي وضعت فيها، في تناسق القصيدة ووحدة موضوعها. مع تعدد مستويات السرد، فثمة مستويان سرديان، الأول هو لمؤلِف هذه القصة، والثاني لقارئ لهذا القصة، والرواية تكون في ما يرويه الراوي الثاني -القارئ الأول- من قصة تشيتشيكوف ويُناقش بعض ما كتب المؤلِّف، فيأخذ دور الشارح والموضح، ويقوم مقام الراوي الأول، وتكمن العلاقة ما بين القارئ الثاني -نحن- والرواية ونقاشها عبر القارئ الأول الذي تولى مهمة الإفصاح عن هذه القصيدة الروائية الغوغولية.
“… هكذا نبت في عقل بطلنا هذا المشروع الغريب الذي قد يرضى عنه القارئ أو لا يرضى، ولكن المؤلِف راضٍ عنه بكل تأكيد، لأنه لو لم يخطر ببال تشيتشيكوف لما رأت القصة النور”.
“والمؤلف يجد صعوبة فائقة في أن يُسمي كلتا السيدتين، بشكل لا يُسبب غضب الناس عليه مرة أخرى، كما حدث من قبل، إن إطلاق لقب عائلي مُختلق عليهما شيء خطر”.
وبفضل هذه التقنية السردية التي استخدمها غوغول في سرده، كانت هناك ميزة أخرى، فبتعدد مستويات السرد، يُعطي للقراء الانطباع الذي يجعلهم يشعرون أنهم يسيرون في خط واحد مع الرواية وأنهم مع القارئ الأول -مستوى السرد الثاني- يناقشون شخصية ما في حين الحدث الرئيس مستمر، فكأن القارئ الأول يُبطِّئ زمن الحدث، ليذكر مميزات هذه الشخصية أو تلك، وما هي عليه، وما الذي يُتوقع منها، وبعد الانتهاء من الحديث مع القراء عن هذه الشخصية نعود جميعا -القراء والقارئ الأول- لنُكمل قصة تشيتشيكوف.
يُمثل تشيتشيكوف الطبقة الصاعدة لأروقة المجتمع الراقي، معتمدًا على سُلَّم وهمي من القنانة، وهي القضية التي يُثيرها غوغول، وعن استغلال الأقنان والمتاجرة بهم أحياءً وأمواتًا. وذلك الواقع المزري الذي كان يعيشه الأقنان في روسيا، فرغم حياتهم الصعبة، والمريرة تراهم يفقدون قيمتهم بشرا حين يُباعون ويُشترون، ويبقون سلعة لا يحيمها الموت من أن تكون وقودا لنار التجارة. وبذات الوقت هناك المجتمع الراقي الذي يُحاول تشيتشيكوف أن يصل إليه، فهو يبدو رغم مظاهره الطيبة انتهازيًا، ومبتذلًا من ناحية القيم الإنسانية، وماديًا إلى أبعد الحدود، لا يهتم لمصدر المال، ما دام هناك مالٌ، وبغض النظر عن كميته، أو السبل التي جُنيَ بها. تمر رحلة تشيتشيكوف في سعيه نحو ما يبتغي بعدة مراحل، فبعد مرحلة التوطئة في المدينة، وبناء قاعدة ينطلق منها في وسط هذه المدينة التي يرمز لها غوغول بالحرف (ن)، وبناء علاقات اجتماعية مع أثرياء هذا الوسط، أصحاب الأراضي والأقنان لكي ينتقل إلى المستوى الثاني من رحلته، والتي تشبه أن تكون ملحمة شعرية كالأوديسة وضياع أوديسيوس في البحار ومتنقلا من جزيرة إلى أخرى بسبب لعنة بوسيدون، ألا أن تشيتشيكوف ملعون بلعنة السعي إلى الطبقة العُليا من المجتمع الروسي، لعنة حياة الرفاهية المزيفة التي تقوم على جماجم الآخرين.
فالمهمة الأولى كانت شراء الأنفس الميتة من مانيلوف، الذي لم يُشكل عائقًا كبيرا، واعتمد تشيتشيكوف على ما خلّفه في نفس مانيلوف من انطباع حسن، جعله يهيم في بحر تشيتشيكوف.
أما المهمة الثانية فتحدث عن طريق الصدفة، فكما يضيع أوديسيوس في البحار تحت ضرب العواصف وغضب الأمواج يضيع تشيتشيكوف بعربته في البحث عن عنوان هدفه الآخر لتلقي به الأقدار إلى بيت عجوز غنية، كوروبوتشكا، لم تبدُ كما ظنها تشيتشيكوف، فهي أرملة عجوز بخيلة، مثلّت عقبة كأداء، جعلته يخرج عن المألوف وعن الثوب الذي ارتداه والصورة التي جعل الآخرين ينظرون إليها فيه بكل الود والاحترام، ولكن جشع العجوز يغلبه في آخر الأمر لتنتهي مهمة بطلنا الثانية، وتتكلل بالنجاح.
تستمر المفاجآت لتشيتشيكوف، وهو في سعيه أن يستثمر وقته وجهده أثناء وجوده في هذه المدينة ليكمل المهمة، وفي طريقه إلى صاحب الأملاك والأقنان سوباكيفيتش، يعترضه نوزدريف، ليحاول منعه من الذهاب ودعوته ليأتي معه، ويلعب، فيحاول تشيتشيكوف أن يستغله، فلعلّه يمكن أن ينفعه ببعض ما معاه من أنفس ميتة، لكن نوزدريف يبدو كما السيكلوب الذي وجد أوديسيوس نفسه مُحاصرا به، لكن تُنقذ الصدف تشيتشيكوف ليستمر في دربه تجاه سوباكيفيتش.
كانت المهمة الثالثة لتشيتشيكوف مع سوباكيفيتش هي الأصعب، فهو شخص طمّاع، لا فرق عنده بين ميت أو حي، فكلهم قابلون للاستثمار والانتفاع، بل إن الأموات عنده يمتازون بصفات ومميزات تبقى خالدة، يُساوم عليها، لكن بطلنا، ينجح في الشراء.
المهمة الرابعة كانت مع بلوشكين، العجوز الخرف الذي وصل به البخل إلى قمة القمم، فكان فريسة سهلة، لم تُتعب تشيتشيكوف كثيرا، فدائما ما كان البُخل يُعمي الناس، عن رؤية الحقيقة وقيمة الأشياء التي يملكونها، ويندفعون بسرعة هوجاء تجاه ما يرونه ملتمعًا ظنًا منهم أنه ذهب، هكذا كان بلوشكين البخيل.
يُضفي غوغول على أصحاب الأملاك طباع، الجشع والبخل والاستغلال والمادية، فيظهرون بصورة مخزية، رغم كل ما يملكون من أموال وأنفس وأراضٍ وأملاك، هذا الانحطاط الذي يُحاول غوغول أن يعريه وقد نجح، ويقول إنه حاول أن يُظهر جانبا من جوانب روسيا، وعصر اجتماعي متهالك أخلاقيا، يعصف بأجيال كثيرة، وظهر في روايات عديدة كما لدى ليرمنتوف وتورغينيف. بعد أن يُنهي تشيتشيكوف مهامه، وينقل إلى ثروته ملكية الأقنان، تشيع في المدينة الأخبار حول ماهية تجارة تشيتشيكوف، والذي يُسارع في الخروج من المدينة مع كنزه الذي سيُوصله إلى إيثاكته الخاصة كما كان الحال مع أوديسيوس.