أم النذور- عبد الرحمن منيف
عبد الرحمن منيف روائي عربي، وهو من طبقة نجيب محفوظ، ولد في عمّان في سنة 1933 من أبوين من القصيم من نجد، وجدته لأمه سارة آغا عراقية من العكيلات في بغداد. توفي والده بعد ثلاث سنوات فتعهدت والدته بتربيته ويقول في إهداء روايته أرض السواد: إلى نورة أمي التي أرضعتني مع الحليب حب العراق. أتم دراسته الثانوية في الأردن، وانتقل بعدها إلى العراق ليلتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام 1952 حيث قامت بإبعاده حكومة نوري السعيد إلى مصر مع عدد من الطلاب ليكمل دراسته هناك. فاز بعدها بمنحة حزب البعث للدراسة في يوغوسلافيا، وتخصص في دراسة اقتصاد النفط لينال الدكتوراه من جامعة بلغراد سنة 1961. مارس العمل السياسي من خلال انضمامه لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأنهى علاقته السياسية بعد مؤتمر حمص عام 1962، وهو المؤتمر القومي الخامس للحزب ويعد من أهم المؤتمرات التي عقدها الحزب منذ تأسيسه. وظل عبد الرحمن منيف مناوئًا ومعارضا للحكومات العربية القمعية وخاصة بعد هزيمة 67 أمام الكيان الصهيوني. سحبت السلطات السعودية الجنسية السعودية منه سنة 1963 بسبب نشاطه السياسي والمعارض. عمل صحفيا في مجلة البلاغ اللبنانية بعد مغادرته دمشق إلى بيروت سنة 1973، حيث أصدر أول أعمال الأشجار واغتيال مرزوق، ثم انتقل للعراق وتولى تحرير صحيفة (النفط والتنمية) الاقتصادية العراقية حتى عام 1981. تزوج عبد الرحمن من امرأة سوريا وأنجب منها ثلاثة أبناء وبنت، وتنقل ما بين بغداد وباريس وبيروت ودمشق حتى استقر به المطاف سنة 1986، في سوريا حتى وفاته سنة 2004. وفي سنة 2007 تعرّض قبره للتخريب.
كانت رواية أم النذور آخر رواياته، ونشرت بعد وفاته في سنة 2005، رواية الطفولة ولسانها الفصيح. يأخذنا منيف مع سامح إلى ظلال شجرة أم النذور والتكية والكتّاب والحاج زكي، إلى الحياة التي بدأت تشهد تغيّرًا ما بين الماضي والمستقبل القريب الذي بدأ يلتهم تركة الماضي ليصنع لنا حاضرًا جديدًا، فينظر له الكبار الذين انسحقوا مع الماضي الذي عاشوه وعركهم حتى أصبحوا جزءًا لا يتجزأ منه، مع الإنسان الجديد الصغير الذي يخطو أولى خطواته في هذه الحياة خارج حدود مملكة منزله، محتكًا مع العالم الجديد، ومتطلّعا إلى الأفضل ومتسائلا عن كل شيءٍ حتى يستطيع أن يخطو خطوته الأولى بكل ثبات وحزم بعيدًا عن تردد الأمس الذي يجب أن يولي لأبناء اليوم.
سامح الطفل الذي بلغ السن التي يجب أن يلتحق فيها بالكتّاب ليتعلم القراءة والكتابة، ولأنها قراءة ليست ككل قراءة، بل طريقة بدائية فسُميت فك الحرف، وهي تسمية لها دلالتها التي تلامس قلب معنى القراءة، فك لرموز هي الحروف، فك يأخذ وقتًا طويلًا، وبذات الوقت تُعطي للقراءة مدلولا رمزيًا لدى الناس وقتئذ. إن الكتابة لغزٌ يحتاج لحذق يعرف كيف يفك رموزه ويصل لحله، الصراع الذي دار بين طيّات الرواية صراع الكتّاب وتعليم الشيخ من جهة والمدارس التي ما زالت فتية من جهة أخرى، وذاك الخوف من الأهل أن يبعثوا بأبنائهم إليها، وأن يلتزموا بما تعاهدوه من الآباء والأجداد في التعلم لدى الكتّاب.
تروى الرواية على لسان سامح، وهو يقص حياته في سنيّه الأولى، وكل ما يدور حوله، بفهم الصغير وحداثة فكره غير الناضج، فينتقل من السؤال إلى التفكير، إلى تقليد الكبار فيما يفعلون، ويقولون، منيف في روايته هذه، يذكر الكثير من الحوادث على لسان سامح وكيفية التعامل معها والإجابة عنها مثل الموت والعقيدة والحياة ما بعد الموت، علاقة الأبناء مع الأب والأم.
تبرز صورة الأب الكبيرة، ومدى نفوذها وسلطتها على العائلة العربية، فهو الآمر الناهي، فصورة الأب العربي، لوحة فنية مميزة، ومحاولة بنائها وتجسيدها وسبر غورها، عمل مرهق، باختلاف التفاعلات النفسية من أب لآخر رغم تشاركهم في هيئة واحدة، وشكل عام، ألا أن لكل أب صورته ومزيّته الخاصة، إن التحكم بمصير ومستقبل الأبناء، صفة الأب العربي التي ما زالت حتى اليوم، فزمن الرواية في الربع الأول من القرن العشرين، وبمرور مئة عام تقريبا، بقيت صورة الأب العربي وواجباته وتصرفاته هي ذاتها دون أن تُمس تقريبا. وذاك الصراع الذي يدور في أحناء الابن الصغير تجاه أبيه ما بين الحب والكره، ما بين الاحترام والخوف، صراع مستمر، لكن تبقى مركزية الأب ومحوريته قائمة في الرواية، ومنيف يصف تلك الصورة بأفضل ما يُمكن أن يصل له الطفل في سنِّه هذا. أما علاقة الشيخ زكي وطلابه، وقساوته في التعامل معهم، فهي كذلك علاقة نمطية، وصلت في زمان حدث الرواية إلى مستوى سيئ أشبه بأن يكون سجنًا، مع سجّان سادي، وهذه الصورة هي الأخرى للأسف ما زالت موجودة في شخصية بعض المعلمين، السادية أو قيام ضغينة احتقار أو انتقاص من الطالب. تُشرع وحشية وسادية الشيخ زكي ومعاناة سامح النفسية معه البابَ لكثير من التساؤلات عن ماهية وظيفة المعلم وطرق التعامل مع الناشئة، تساؤلات يطرحها سامح على نفسه، لكن لا إجابة تفشي غليله، فيبقى أن يتمنى الأسوأ لشيخه هو الحل الوحيد. إن الوصف السيكولوجي لكل حدث يجري على سامح، وبيانه بذاك الاتقان العذب، يرشح من رصانة منيف السردية، فالتفاعل النفسي الذي يحدث في فكر سامح، ينقله منيف بصورة واضحة ومقسمة حيث لا يسبق تفاعل نفسي تفاعلا آخر، فبنية سامح العقلية رغم حداثتها صلبة، ورغم ترددها أحيانا تبقى قوية ومتزنة.
الجانب الآخر من هذه الرواية والذي يمثّل محورًا رئيسا لا يقل عن طفولة سامح، ألا وهو الجانب العقائدي المتمثل في شجرة أم النذور وتكية الشيخ مجيب، وتلك الممارسات الشركية التي يمارسها الناس يوميا وباستمرار، من تعليق القماش على الأشجار وسؤال الموتى والذبح للأولياء، هذا الجو الإيماني المزيّف، يمثّل سفاهة بعض العقول وقتئذ، وبساطة فكرهم الذي يصل بهم لدرجة الحماقة، والوقوع في فخاخ الشرك.